نحر الهدي وتوزيع لحمه والتخلية للفقراء ومساكين الحرم .
فصل : ولا يبرأ من الهدي إلا بذبحه أو نحره هديه لأن النبي A نحر هديه فإن نحره بنفسه أو وكل من نحره أو نحره إنسان بغير إذنه في وقته أجزأ عنه وإن دفعه إلى الفقراء سليما فنحروه أجزأ عنه لأنه حصل المقصود بفعلهم فأجزأه كما لو ذبحه غيرهم وإن لم ينحروه فعليه أن يسترده منهم وينحره فإن لم يفعل أو لم يقدر فعليه ضمانه لأنه فوته بتفريطه في دفعه إليهم سليما .
فصل : ويستحب للمهدي أن يتولى نحر الهدي بنفسه لأن النبي A نحر هدية بيده وروي [ عن غرفة بن الحارث الكندي قال : شهدت رسول الله A في حجة الوداع وأتى بالبدن فقال : ادع لي أبا الحسن فدعي له علي فقال له خذ بأسفل الحربة وأخذ رسول الله A بأعلاها ثم طعنا بها البدن ] رواه أبو داود وإنما فعلا ذلك لأن النبي A أشرك عليا في بدنه وقال جابر : [ نحر رسول الله A ثلاثا وستين بدنة بيده ثم أعطى عليا فنحر ما غبر ] وروي [ أن النبي A نحر خمس بدنات ثم قال : من شاء اقتطع ] رواه أبو داود فإن لم يذبح بيده فالمستحب أن يشهد ذبحها لما روي [ أن النبي A قال لفاطمة : احضري أضحيتك يغفر لك بأول قطرة من دمها ] ويستحب أن يتولى تفريق اللحم بنفسه لأنه أحوط وأقل للضرر على المساكين وإن خلى بينه وبين المساكين جاز لقوله عليه السلام : [ من شاء اقتطع ] .
فصل : ويباح للفقراء الأخذ من الهدي إذا لم يدفعه إليهم بأحد شيئين أحدهما : الأذن فيه لفظا كما قال النبي A [ من شاء اقتطع ] والثاني : دلالة على الأذن كالتخلية بينهم وبينه وقال الشافعي في أحد قوليه : لا يباح إلا باللفظ وقول النبي A لسائق البدن : [ اصبغ نعلها في دمها واضرب به صفحتها ] دليل على أن ذلك وشبهه كاف من غير لفظ ولولا ذلك لم يكن هذا مفيدا .
مسألة : قال : ولا يأكل من كل واجب إلا من هدي التمتع .
المذهب أنه يأكل من هدي التمتع والقران دون سواهما نص عليه أحمد ولعل الخرقي ترك ذكر القران لأنه متعة أو اكتفى بذكر المتعة لأنهم سواء في المعنى فإن سببهما غير محظور فأشبها هدي التطوع وهذا قول أصحاب الرأي وعن أحمد أنه لا يأكل من المنذور وجزءا الصيد ويأكل مما سواهما وهو قول ابن عمر و عطاء و الحسن و إسحاق لأن جزاء الصيد بدل والنذر جعله لله تعالى بخلاف غيرهما وقال ابن أبي موسى : لا يأكل من الكفارة ويأكل مما سوى هذه الثلاثة ونحوه مذهب مالك لأن ما سوى ذلك لم يسمه للمساكين ولا مدخل للإطعام فيه فأشبه التطوع وقال الشافعي : لا يأكل من واجب لأنه هدي وجب بالإحرام فلم يجز الأكل منه كدم الكفارة ولنا أن أزواج النبي A تمتعن معه حجة الوداع وأدخلت عائشة الحج على العمرة فصارت قارئة ثم ذبح عنهن النبي A البقرة فأكلن من لحومها قال أحمد : قد أكل من البقر أزواج النبي A في حديث عائشة خاصة و [ قالت عائشة : إن النبي A أمر من لم يكن معه هدي إذا طاف بالبيت أن يحل فدخل علينا يوم النحر بلحم بقر فقلت ما هذا ؟ فقيل : ذبح النبي A عن أزواجه ] وروى أبو داود و ابن ماجة [ أن رسول الله A ذبح عن آل محمد في حجة الوداع بقرة ] وقال ابن عمر : [ تمتع رسول الله A بالعمرة إلى الحج فساق الهدي من ذي الحليفة ] متفق عليه وقد ثبت [ أن النبي A أمر من كل بدنة ببضعه فجعلت في قدر فأكل هو وعلي من لحمها وشربا من مرقها ] رواه مسلم ولأنهما دما نسك فأشبها التطوع ولا يؤكل من غيرهما لأنه يجب بفعل محظور فأشبه جزاء الصيد .
فصل فأما هدي التطوع هو ما أوجبه بالتعين ابتداء من غير أن يكون عن واجب في ذمته وما نحره تطوعا من غير أن يوجبه فيستحب أن يأكل من بدنه وقال جابر : [ كنا لا نأكل من بدننا فوق ثلاث فرخص لنا النبي A فقال : كلوا وتزودوا فأكلنا وتزودنا ] رواه البخاري وإن لم يأكل فلا بأس ف [ إن النبي A لما نحر البدنات الخمس قال : من شاء اقتطع ] ولم يأكل منهن شيئا والمستحب أن يأكل اليسير منها كما فعل النبي A وله الأكل كثيرا والتزود كما جاء في حديث جابر وتجزئه الصدقة باليسير منها كما في الأضحية فإن أكلها ضمن المشروع للصدقة منها كما في الأضحية .
فصل : وإن أكل منها ما منع من أكله ضمنه بمثله لحما لأن الجميع مضمون عليه بمثله حيوانا فكذلك ابعاضه وكذلك إن أعطى الجازر منها شيئا ضمنه بمثله وإن أطعم غنيا منها على سبيل الهدية جاز كما يجوز له ذلك في الأضحية لأن ما ملك أكله ملك هديته وإن باع شيئا منها أو أتلفه ضمنه بمثله لأنه ممنوع من ذلك فأشبه عطيته للجازر وإن أتلف أجنبي منه شيئا ضمنه بقيمته لأن المتلف من غير ذوات الأمثال فلزمته قيمته كما لو أتلف لحما لآدمي معين .
فصل : والهدي الواجب بغير النذر ينقسم قسمين : منصوص عليه ومقيس على المنصوص فأما المنصوص عليه فأربعة : اثنان على الترتيب والواجب فيهما ما استيسر من الهدي وأقله شاة أو سبع بدنة أحدهما دم المتعة قال الله تعالى : { فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم } والثاني : دم الإحصار قال الله تعالى : { فما استيسر من الهدي } وهو على الترتيب أيضا أن لم يجده انقل إلى صيام عشرة أيام وإنما وجب ترتيبه لأن الله تعالى أمر به معينا من غير تخيير فاقتضى تعيينه الوجوب وإن لا يتنقل عنه إلا عند العجز كسائر الواجبات المعينة فإن لم يجده انتقل إلى صيام عشرة أيام بالقياس على دم المتعة إلا أنه لا يحل حتى يصومها وهذا قول الشافعي وقال مالك وأبو حنيفة : لا بدل له لأنه لم يذكر في القرآن وهذا لا يلزم فإن عدم ذكره لا يمنع قياسه على نظيره واثنان مخيران أحدهما : فدية الأذى قال اله تعالى { فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك } القاني : جزاء الصيد وهو على التخيير أيضا بقوله تعالى { ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما } .
القسم الثاني : ما ليس بمنصوص عليه فيقاس على أشبه المنصوص عليه به فهدي المتعة وجب للترفه بترك أحد السفرين وقضائه النسكين سفر واحد ويقاس عليه أيضا دم الفوات فيجب عليه من دم المتعة وبدله مثل بدله وهو صيام عشرة أيام إلا أنه لا يمكن أن يكون ثلاثة قبل يوم النحر لأن الفوات إنما يكون بفوات ليلة النحر لأنه ترك بعض ما اقتضاه إحرامه فصار كالتارك لأحد السفرين فإن قيل : فهلا ألحقتموه الإحصار فإن أشبه به إذ هو حلال من إحرامه قبل إتمامه قلنا : أما الهدي فهما فيه سواء وأما البدل فإن الإحصار ليس بمنصوص على البدل فيه وإنما يثبت قياسا فقياس هذا على الأصل المنصوص عليه أولى من قياسه على فرعه على أن الصيام ههنا مثل الصيام عن دم الإحصار وهو عشرة أيام أيضا إلا أن صيام الإحصار يجب أن يكون قبل حله وهذا يجوز فعله قبل حله وبعده وهو أيضا مقارن لصوم المتعة لأن الثلاثة في المتعة يستحب أن يكون آخرها يوم عرفة وهذا يكون بعد فوات عرفة والخرقي إنما جعل الصوم عن هدي الفوات مثل الصوم عن جزاء الصيد عن كل مد يوما والمروي عن عمر وابنه مثل ما ذكرنا ويقاس عليه أيضا كل دم وجب لترك واجب كدم القران وترك الإحرام من الميقات والوقوف بعرفة إلى غروب الشمس والمبيت بمزدلفة والرمي والمبيت ليالي منى بها وطواف الوداع فالواجب فيه ما استيسر من الهدي فإن لم يجد فصيام عشرة أيام وأما من أفسد حجه بالجماع فالواجب فيه بقول الصحابة المنتشر الذي لم يظهر خلافه فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع كصيام المتعة كذلك قال عبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمرو رواه عنهم الأثرم ولم يظهر في الصحابة خلافهم فيكون إجماعا فيكون إجماعا فيكون بدله مقيسا على بدل دم المتعة وقال أصحابنا : يقوم البدنة بدراهم ثم يشتري بها طعاما فيطعم كل مسكين مدا أو يصوم عن كل مد يوما فتكون محلقة بالبدنة الواجبة في جزاء الصيد ويقاسم على فدية الأذى ما وجب بفعل محظور يترفه به كتقليم الأظفار واللبس والطيب وكل استمتاع من النساء يوجب الشاة كالوطء في العمرة أو في الحج بعد رمي الجمرة فإنه في معنى فدية الأذى من الوجه الذي ذكرناه فيقاس عليه ويحلق به فقد قال ابن عباس لامرأة وقع عليه زوجها قبل أن تقصر عليك فدية من صيام أو صدقة أو نسك رواه الأثرم .
مسألة : قال : وكل هدي أو اطعام فهو لمساكين الحرم إن قدر على إيصاله إليهم إلا من أصابه أذى من رأسه فيفرقه على المساكين في الموضع الذي حلق فيه .
أما فدرية الأذى فتجوز في الموضع الذي حلق فيه نص عليه أحمد وقال الشافعي : لا يجوز إلا في الحرم لقوله تعالى : { ثم محلها إلى البيت العتيق } ولنا أن النبي A أمر كعب بن عجرة بالفدية بالحديبية ولم يأمر ببعثه إلى الحرم وروى الأثرم و إسحاق الجوجاني في كتابهما عن أبي أسماء مولى عبد الله بن جعفر قال : مكنت مع عثمان وعلي وحسين بن علي Bهم حجاجا فاشتكى حسين بن علي بالسقيا فأومأ بيده إلى رأسه فحلقه علي ونحر عنه جزورا بالسقيا هذا لفظ رواية الأثرم ولم يعرف لهم مخالف والآية وردت في الهدي وظاهر كلام الخرقي اختصاص ذلك بفدية الشعر وما عداه من الدماء فبمكة وقال القاضي في الدماء الواجبة بفعل محظور كاللباس والطيب هي كدم الحلق وفي الجميع روايتان إحداهما : يفدي حيث وجد سببه والثانية محل الجميع الحرم وأما جزاء الصيد فهو لمساكين الحرم نص عليه أحمد فقال : أما ما كان بمكة أو كان من الصيد فكل بمكة لأن الله تعالى قال : { هديا بالغ الكعبة } وما كان من فدية الرأس فحيث حلقه وذكر القاضي في قتل الصيد رواية أخرى أنه يفدي حيث قتله وهذا يخالف نص الكتاب ونص الإمام أحمد في التفرقة بينه وبين حلق الرأس فلا يعول عليه وما وجب لترك نسك أو فوات فهو لمساكين الحرم دون غيرهم لأنه هدي وجب لترك نسك فأشبه هدي القرآن وإن فعل المحظور لغير سبب يبيحه فذكر ابن عقيل أنه يختص ذبحه وتفرقة لحمه بالحرم كسائر الهدي .
فصل : وما وجب نحره بالحرم وجب تفرقة لحمه به وبهذا قال الشافعي وقال مالك و أبو حنيفة إذا ذبحها في الحرم جاز تفرقة لحمها في الحل ولنا أنه أحد مقصودي النسك فلم يجز في الحل كالذبح ولأن المعقول من ذبحه بالحرم التوسعة على مساكينه وهذا لا يحصل بإعطاء غيرهم ولأنه نسك يختص بالحرم فكان جميعه مختصا به كالطواف وسائر المناسك .
فصل : والطعام كالهدي يختص بمساكين الحرم فيما يختص الهدي وقال عطاء و النخغي ما كان من هدي فبمكة وما كان من طعام وصيام فحيث شاء وهذا يقتضيه مذهب مالك و أبي حنيفة ولنا قول ابن عباس : الهدي والطعام بمكة والصوم حيث شاء ولأنه نسك يتعدى نفعه إلى المساكين فاختص بالحرم كالهدي .
فصل : ومساكين أهل الحرم من كان فيه من أهل أو وارد إليه من الحاج ويغرهم وهم اللذين يجوز دفع الزكاة إليهم ولو دفع إلى من ظاهرة الفقر فبان غنيا خرج فيه وجهان كالزكاة وللشافعي فيه قولان وما جاز تفريقه بغير الحرم لم يجز دفعه إلى فقراء أهل الذمة وبهذا قال الشافعي و أبو ثور وجوزه أصحاب الرأي ولنا أنه كافر يجز الدفع إليه كالحربي