باب الفدية وجزاء الصيد .
مسألة : قال : ومن حلق أربع شعرات فصاعدا عامدا أو مخطئا فعليه صيام ثلاثة أيام أو إطعام ثلاثة آصع من تمر بين ستة مساكين أو ذبح شاة أي ذلك فعل أجزأه .
الفصل الأول : إن على المحرم فدية إذا حلق رأسه ولا خلاف في ذلك قال ابن المنذر أجمع أهل العلم على وجوب الفدية على من حلق وهو محرم بغير علة والأصل في ذلك قوله تعالى : { ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك } و [ قال النبي A لكعب بن عجرة : لعلك أذاك هوامك ؟ قال : نعم يا رسول الله فقال رسول الله A : احلق رأسك وصم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين أو انسك شاة ] متفق عليه وفي لفظ [ أو أطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع تمر ] ولا فرق في ذلك بين إزالة الشعر بالحلق أو النورة أو قصبة أو غير ذلك لا نعلم فيه خلافا .
الفصل الثاني : إنه لا فرق بين العامد والمخطئ ومن له عذر ومن لا عذر له في ظاهر المذهب وهو قول الشافعي : ونحوه عن الثوري وفيه وجه آخر لا فديه على الناسي وهو قول إسحاق و ابن المنذر لقوله عليه السلام : [ عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان ] ولنا أنه إتلاف فاستوى عمده وخطؤه كقتل الصيد ولأن الله تعالى أوجب الفدية على من حلق رأسه لأذى به وهو معذور فكان ذلك تنبيها على وجوبها على غير المعذور ودليلا علو وجوبها على المعذور بنوع آخر مثل المحتجم الذي يحلق موضع محاجمه أو شعرا عن شجته وفي معنى الناسي النائم الذي يقلع شعره أو يصوب شعره إلى تنور فيحرق لهب النار شعره ونحو ذلك .
الفصل الثالث : أن الفدية هي إحدى الثلاثة المذكورة في الآية والخبر أيها شار فعل لأنه أمر بها بلفظ التخيير ولا فرق في ذلك بين المعذور وغيره والعامد والمخطئ وهو مذهب مالك و الشافعي وعن أحمد أنه إذا حلق لغير عذر فعليه الدم من غير تخيير وهو مذهب أبي حنيفة لأن الله تعالى خير بشرط العذر فإذا عدم الشرط وجب زوال التخيير ولنا أن الحكم ثبت في غير المعذور بطريق التنبيه تبعا له والتبع لا يخالف أصله ولأن كل كفارة ثبت التخيير فيها إذا كان سببها مباحا ثبت كذلك إذا كان محظورا كجزاء الصيد ولا فرق بين قتله للضرورة إلى أكله أو لغير ذلك وإنما الشرط لجواز الحلق لا التخيير .
الفصل الرابع : القدر الذي يجب به الدم أربع شعرات فصاعدا وفيه رواية أخرى يجب في الثلاث ما في حلق الرأس قال القاضي : هو المذهب وهو قول الحسن و عطاء و ابن عيينة و الشافعي و أبي صور لأنه شعر آدمي يقع عليه اسم الجمع المطلق فجاز أن يتعلق به الدم كالربع وقال أبو حنيفة : لا يجب الدم بدون ربع الرأس لأن الربع يقوم مقام الكل ولهذا إذا رأى رجلا يقول : رأيت فلانا وإنما رأى إحدى جهاته وقال مالك : إذا حلق من رأسه ما أماط به الأذى وجب الدم ووجه كلام الخرقي أن الأربع كثير فوجب به الدم كالربع فصاعدا أما الثلاثة فيه آخر القلة وآخر الشيء منه فأشبه الشعرة والشعرتين الاستبدال بأن الربع يقع عليه اسم الكل غير صحيح فإن ذلك لا يتقيد بالربع وإنا هو مجاز يتناول الكثير والقليل .
الفصل الخامس : إن شعر الرأس وغيره سواء في وجوب الفدية لأن شعر غير الرأس يحصل بحلقه والترفه والتنظيف فأشبه الرأس فإن حلق من شعر رأسه وبدنه ففي الجميع فدية واحدة وإن كثير وإن حلق من رأسه شعرتين ومن بدنة شعرتين فعله دم واحد هذا ظاهر كلام الخرقي واختيار أبي الخطاب ومذهب أكثر الفقهاء وذكر أبو الخطاب إن فيها روايتين إحداهما : كما ذكرنا والثانية : إذا قلع من شعر رأسه وبدنه ما يجب الدم بكل واحد منهما منفردا ففيهما دمان وهو الذي ذكره القاضي وابن عقيل لأن الرأس يخالف البدن بحصول التحلل به دون البدن ولنا أن الشعر كله جنس واحد في البدن فلم تتعدد الفدية فيه باختلاف مواضعه كسائر البدن وكاللباس ودعوى الاختلاف تبطل باللباس فإن يجب كشف الرأس دون غيره والجزاء في اللبس فيهما واحد .
الفصل السادس : إن الفدية الواجب وبحلق الشعر هي المذكورة في حديث كعب بن عجرة بقول النبي A : [ احلق رأسك وصم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع أو انسك شاة ] وفي لفظ : [ أو أطعم فرقا بين ستة مساكين ] متفق عليه وفي لفظ : [ أو أطعم ستة مساكين بين كل مسكين صاع ] وفي فلفظ : [ فصم ثلاثة أيام وإن شئت فتصدق بثلاثة آصع من تمر بين ستة مساكين ] رواه كله أبو داود وبهذا قال مجاهد و النخعي و أبو مجاز و الشافعي و مالك وأصحاب الرأي وقال الحسن وعكرمة ونافع : الصيام عشرة أيام والصدقة على عشرة مساكين ويروى ذلك عن الثوري وأصحاب الرأي قالوا : يجزئ من البر نصف صاع لكلك مسكين ومن التمر والشعير صاع صاع واتباع السنة أولى .
فصل : ويجزئ البر والشعير والزبيب في الفدية لأن كل موضع أجزأ فيه التمر أجزأ فيه أجزأ فيه ذلك كالفطرة وكفارة اليمين وقد روى أبو داود في حديث [ كعب بن عجرة قال : فدعاني رسول الله A فقال لي : احلق رأسك وصم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين فرقا من زبيب أو أنسك شاة ] رواه أبو داود ولا يجزئ من هذه الأصناف أقل من ثلاثة آصع إلا البر ففيه روايتان إحداهما : مد من بر لكل مسكين مكان نصف صاع من غيره كما في كفارة اليمين والثانية : لا يجزئ إلا نصف صاع لأن الحكم ثبت فيه بطريق التنبيه أو القياس والفرع يماثل أصله ولا يخالفه وبهذا قال مالك و الشافعي .
فصل : وإذا حلق ثم حلق فالواجب فدية واحدة ما لم يكفر عن الأول قبل فعل الثاني فإن فعل الثاني فإن كفر عن الأول ثم حلق ثانيا فعليه للثاني كفارة أيضا وكذلك الحكم فيما إذا لبس ثم لبس أو تطيب ثم تطيب أو كرر من محظورات الإحرام اللاتي لا يزيد الواجب فيها بزيادتها ولا يتقدرها فأما ما يتقدر الواجب بقدره وهو اتلاف الصيد ففي كل واحد جزاؤه وسواء فعله مجتمعا أو متفرقا ولا تداخل فيه ففعل المحظورات متفرقا كفعلها مجتمعة في الفدية ما لم يكفر عن الأول قبل فعل الثاني وعن أحمد أنه إن كرره لأسباب مثل أن لبس للبرد ثم لبس للحر ثم لبس للمرض فكفارات وإن كان لسبب واحد فكفارة واحدة وقد روى عنه الأثرم فيمن لبس قميصا وجبة وعمامة وغير ذلك لعلة واحدة قلت له : فإن اعتل فلبس جبة ثم برأ اعتل فلبس جبة فقال : هذا الآن عليه كفارتان وعن الشافعي كقولنا وعنه لا يتداخل وقال مالك : تتداخل كفارة الوطء دون غيره وقال أبو حنيفة : إن كرره في مجلس واحد فكفارة واحدة وإن كان في مجالس فكفارات لأن حكم المجلس الواحد حكم الفعل الواحد بخلاف غيره .
ولنا أن ما يتداخل إذا كان بعضه عقيب بعض يجب أن يتداخل وإن تفرق كالحدود وكفارة الإيمان ولأن الله تعالى أوجب في حلق الرأس فدية واحدة ولم يفرق بين ما وقع في دفعة أو في دفعات والقول بأنه لا يتداخل غير صحيح فإنه إذا حلق رأسه لا يمكن إلا شيئا بعد شيء .
فصل : فأما جزاء الصيد فلا يتداخل ويجب في كل صيد جزاؤه سواء وقع متفرقا أو في حال واحدة وعن أحمد أنه يتداخل قياسا على سائر المحظورات ولا يصح لأن الله تعالى قال : { فجزاء مثل ما قتل من النعم } ومثل الصيدين لا يكون أحدهما ولأنه لو قتل صيدين دفعة واحدة وجب جزاؤهما فإذا تفرقا أولى أن يجب لأن حالة التفريق لا تنقص عن حالة الاجتماع كسائر المحظورات .
فصل : إذا حلق المحرم رأس حلال أو قلم أظفاره فلا فدية عليه وبذلك قال عطاء و مجاهد و عمرو بن دينار و الشافعي و إسحاق و أبو ثور وقال سعيد بن جبير في محرم قص شارب حلال : يتصدق بدرهم وقال أبو حنيفة : يلزمه صدقة لأنه اتلف شعر آدمي فأشبه شعر المحرم ولنا أنه شعر مباح الإتلاف فلم يجب بإتلافه شيء كشعر بهيمة الأنعام .
فصل : وإن حلق محرم رأس محرم بإذنه فالفدية على من حلق رأسه وكذلك أن حلقه حلال بإذن لأن الله تعالى قال : { ولا تحلقوا رؤوسكم } وقد علم أن غيره هو الذي يحلقه فأضاف الفعل إليه وجعل الفدية وعليه وإن حلقه مكرها أو نائما فلا فدية على المحلوق رأسه وبهذا قال إسحاق و أبو ثور و ابن القاسم صاحب مالك و ابن المنذر وقال أبو حنيفة على المحلوق رأسه الفدية وعن الشافعي كالمذهبين .
ولنا أنه حلق رأسه ولم يحلق بإذنه فأشبه ما لو انقطع الشعر بنفسه إذا ثبت هذا فإن الفدية على الحالق حراما كان أو حلالا وقال أصحاب الرأي : على الحلال صدقة وقال عطاء عليهما الفدية ولنا أنه أزال ما منع من إزالته لأجل الإحرام فكانت عليه فدية كالمحرم يحلق رأس نفسه .
فصل : إذا قلع جلده عليها شعر فلا فدية عليه لأنه زال تابعا لغيره والتابع لا يضمن كما لو قلع اشفار عيني إنسان فإنه لا يضمن اهدابهما .
فصل : وإذا خلل شعره فسقطت شعره فإن كانت ميتة فلا فدية فيه وإن كانت من شعره النابت ففيها الفدية وإن شك فلا فدية فيها لأن الأصل نفي الضمان إلى أن يحصل يقين .
مسألة : قال : وفي كل شعرة من الثلاث مد من طعام .
يعني إذا حلق دون الأربع فعليه في كل شعرة مد من طعام وهذا قول الحسن و ابن عيينة و الشافعي فيما دون الثلاث وعن أحمد في الشعرة درهم وفي الشعرتين درهما وعنه في كل شعرة قبضة من طعام وروي ذلك عن عطاء ونحوه عن مالك وأصحاب الرأي قال مالك : عليه فيما قل من الشعر اطعام طعام وقال أصحاب الرأي : يتصدق بشيء لأنه لا تقدير فيه فيجب فيه أقل ما يقع عليه اسم الصدقة وعن مالك فيمن أزال شعرا لا ضمان عليه لأن النص إنما أوجب الفدية في حلق الرأس كله فألحقنا به ما يقع عليه اسم الرأس ولنا أن ما ضمنت جملته ضمنت أبعاضه كالصيد والأولى أن يجب الإطعام لأن الشارع إنما عدل عن الحيوان إلى الطعام في جزاء الصيد وههنا أوجب الإطعام مع الحيوان على وجه التخيير فيجب أن يرجع إليه فيما لا يجب فيه الدم ويجب مد لأه أقل ما وجب بالشرع فدية فكان واجبا في أقل الشعر والطعام الذي يجزئ فيه اخراجه وهو ما يجزئ في حلق الرأس ابتداء من البر والشعير والتمر والزبيب كالذي يجب في الأربع .
فصل : ومن أبيح له حلق رأسه لأذى به فهو مخير في الفدية قبل الحلق وبعده نص عليه أحمد لما روي أن الحسين بن علي اشتكى رأسه فأتى علي فقيل له : هذا الحسين يشير إلى رأسه فدعا بجزور فنحرها ثم حلقه وهو بالسعياء رواه أبو إسحاق الجوزجاني ولأنها كفارة فجاز تقديمها على وجوبها ككفارة الظهار واليمين