الاضطباع والرمل في الطواف .
مسألة : قال : ويضطبع بردائه .
معنى الأضطباع أن يجعل وسط الرداء تحت كتفيه اليمنى ويرد طرفيه اليسرى ويبقي كتفه اليمنى مكشوفة وهو مأخوذ من الضبع وهو عضد الإنسان افتعال منه وكان أصله اضتبع فقلبوا التاء طاء لأن التاء متى وضعت بعد ضاد أو صاد أو طاء ساكنه قبلت طاء ويستحب الاضطباع في طواف القدوم لما روى أبو داود و أبن ماجة عن يعلى بن أمية [ أن النبي A طاف مضطبعا ] ورويا أيضا عن ابن عباس [ أن النبي A وأصحابه اعتمروا من الجعرانة فرملوا بالبيت وجعلوا أرديتهم تحت آباطهم ثم قذفوها على عواتقهم اليسرى ] وبهذا الشافعي وكثير من أهل العلم وقال مالك : ليس الاضطباع بسنة وقال : لم أسمع أحدا من أهل العلم بيدنا يذكر أن الاضطباع سنة وقد ثبت بما روينا أن النبي A وأصحابه فعلوه وقد أمر الله تعالى باتباعه وقال : { لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة } وقد روى أسلم عن عمر بن الخطاب أنه اضطبع ورمل وقال : ففيم الرمل ولم نبدي مناكبنا وقد نفى الله المشركين ؟ بلى لن ندع شيئا فعلناه على عهد رسول الله A رواه أبو داود وإذا فرغ من الطواف سوى رداءه لأن الاضطباع غير متسحب في الصلاة وقال الأثرم : إذا فرغ من الأشواط التي يرمل فيها سوى رداءه والأول أولى لأن قوله : طاف النبي A مضطبعا ينصرف إلى جميعه ولا يضطبع في غير هذا الطواف ولا يضبطع في السعي وقال الشافعي : يضبطع فيه لأنه أحد الطوافين فأشبه الطواف بالبيت .
ولنا أن النبي A لم يضطبع فيه والسنة في الاقتداء به قال أحمد : ما سمعناه فيه شيئا والقياس لا يصح إلا فيما عقل معناه وهذا تعبد محض .
مسألة : قال : ورمل ثلاثة أشواط ومشى أربعة كل ذلك من الحجر الأسود إلى الحجر الأسود .
معنى الرمل اسراع المشي مع مقاربة من غير وثب هو سنة في الأشواط الثلاثة الأول من طواف القدوم ولا نعلم بين أهل العلم خلافا وقد ثبت [ أن النبي A رمل ثلاثا ومشى أربعا ] رواه جابر وابن عباس وابن عمر وأحاديثهم متفق عليهما فإن قيل : إنما رمل النبي A وأصحابه لاظهار الجلد للمشركين ولم يبق ذلك المعنى إذ بقى الله المشركين فلم قلتم إن الحكم يبقى بعد زوال علته ؟ قلنا قد رمل النبي A وأصحابه واضطبع في حجة الوداع بعد الفتح فثبت أنها سنة ثابتة وقال ابن عباس رمل النبي A في عمره كلها وفي حجة وأبو بكر وعمر وعثمان والخلفاء من بعده رواه أحمد في المسند وقد ذكرنا حديث عمر إذا ثبت هذا فإن الرمل سنة في الأشواط الثلاثة بكمالها يرمل من الحجر إلى أن يعود إليه يمشي في شيء منها روي ذلك عن عمر وابن عمر وابن مسعود وابن الزبير Bهم وبه قال عروة و النخعي و مالك و الثوري و الشافعي وأصحاب الرأي وقال طاوس و عطاء و الحسن و سعيد بن جبير و القاسم بن محمد وسالم بن عبد الله يمشي ما بين الركنين لما روى ابن عباس قال : [ قدم رسول الله A وأصحابه مكة وقد وهنتهم الحمى فقال المشركون : إنه يقدم عليكم قوم قد وهنتهم الحمى يثرب ولقوا منها شرا فأطلع الله نبيه A على ما قالوا فلما قدموا قعد المشركون مما يلي الحجر فأمر النبي A أصحابه أن يرملوا الأشواط الثلاثة ويمشوا ما بين الركنين ليرى المشركون جلدهم فلما رأوهم رملوا قال المشركون : هؤلاء الذين زعمتم أن الحمى قد وهنتهم هؤلاء أجلد منا قال ابن عباس : ولم يمنعه أن يأمرهم أن يرملوا الأشواط كلها إلا الابقاء عليهم ] متفق عليه .
ولنا ما روى ابن عمر [ أن النبي A رمل من الحجر إلى الحجر ] وفي مسلم عن جابر قال : [ رأيت رسول الله A رمل من الحجر حتى انتهى إليه ] وهذا يقدم على حديث ابن عباس لوجوه منها أن هذا إثبات ومنها أن وراية ابن عباس إخبار عن عمرة القضية وهذا إخبار عن فعل في حجة الوداع فيكون متأخرا فيجب العمل به وتقديمه الثالث : أن ابن عباس كان في تلك الحال صغيرا لا يضبط مثل وجابر وابن عمر كانا رجلين يتبعان أفعال النبي A ويحرصان على حفظهما فهما أعلم ولأن جلة الصحابة علموا بما ذكرنا ولو علموا من النبي A ما قال ابن عباس ما عدلوا عنه إلى غيره ويحتمل أن يكون ما رواه ابن عباس اختص بالذين كانوا في عمرة القضية لضعفهم والإبقاء عليهم وما رويناه سنة في سائر الناس .
فصل : يستحب الدنو من البيت لأنه هو المقصود فإن كان قرب البيت زحام فظن أنه إذا وقف لم يؤذ أحدا وتمكن من الرمل وقف ليجمع بين الرمل والدنو من البيت وإن لم يظن ذلك وظن أنه إذا كان في حاشية الناس تمكن من الرمل فعل وكان أولى من الدنو وإن كان لا يتمكن من الرمل أيضا أو يختلط بالنساء فالدنو أولى ويطوف كيفما أمكنه وإذا وجد فرجه رمل فيها وإن تباعد من البيت في الطواف أجزأه ما لم يخرج من المسجد سواء حال بينه وبين البيت حائل من قبة أو غيره أو لم يحل لأن الحائل في المسجد لا يضر كما لو صلى في المسجد مؤتما بالإمام من وراء حائل وقد [ روت أم سلمة قالت : شكوت إلى رسول الله A أني أشتكي فقال : طوفي من وراء الناس وأنت راكبة قالت : فطفت ورسول الله A حينئذ يصلي إلى جنب البيت ] متفق عليه .
مسألة : قال : لا يرمل في جميع طوافه إلا هذا .
وجملة ذلك أن الرمل لا يسن في غير الأشواط الثلاثة الأول من طواف القدوم أو طواف العمرة فإن ترك الرمل فيها لم يقضه في الأربعة الباقية لأنها هيئة فات موضعها فسقطت كالجهر في الركعتين الأولتين ولأن المشي هيئة في الأربعة كما أن الرمل هيئة في الثلاثة فإذا رمل في الأربعة الأخيرة كان تاركا للهيئة في جميع طوافه كتارك الجهر في الركعتين الأولتين من العشاء إذا جهر في الآخرين ولا يسن الرمل والاضطباع في طواف سوى ما ذكرنا لأن النبي A وأصحابه إنما رملوا واضطبعوا في ذلك وذكر القاضي أن من ترك الرمل والاضطباع في طواف القدوم أتى بهما في طواف الزيارة لأنهما سنة أمكن قضاؤها فتقضى كسنن الصلاة وهذا لا يصح لما ذكرنا فيمن تركه في الثلاثة الأول لا يقضيه في الأربعة وكذلك من ترك الجهر في صلاة الجهر لا يقضه في صلاة الظهر ولا يقتضي القياس أن تقضي هيئة عبادة في عبادة أخرى .
قال القاضي : ولو طاف فرمل واضطبع ولم يسع بين الصفا والمروة فإذا طاف بعد ذلك للزيارة رمل في طوافه لأنه يرمل في السعي بعده وهو تبع للطواف فلو قلنا لا يرمل في الطواف أفضى إلى أن يكون التبع أكمل من المتبوع وهذا قول مجاهد و الشافعي وهذا لا يثبت بمثل هذا الرأي الضعيف فإن المتبوع لا تتغير هيئته تبعا لتبعه ولو كانا متلازمين لكان ترك الرمل في السعي تبعا لعدمه في الطواف أولى من الرمل في الطواف تبعا للسعي .
فأن ترك الرمل في شوط من الثلاثة الأول أتى به في الاثنين الباقيين وإن تركه في اثنين أتى به في الثالث كذلك قال الشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي : وإن تركه في الثلاثة سقط لأن تركه للهيئة في بعض محلها لا يسقطها بقية محلها كتارك الجهر في إحدى الركعتين الأولتين لا يسقطه في الثانية .
مسألة : قال : وليس على أهل مكة رمل .
وهذا قول ابن عباس وابن عمر رحمة الله عليهما وكان ابن عمر إذا أحرم من مكة لم يرمل وهذا لأن الرمل إنما شرع في الأصل لإظهار الجلد والقوة لأهل البلد وهذا المعنى معدوم في أهل البلد والحكم فيمن أحرم من مكة حكم أهل لما ذكرنا عن ابن عمر ولأنه أحرم من مكة أشبه أهل البلد والمتمتع إذا أحرم بالحج من مكة ثم عاد وقلنا يشرع في حقه طواف القدوم لم يرمل فيه قال أحمد : ليس على أهل مكة رمل عند البيت ولا بين الصفا والمروة .
مسألة : قال : ومن نسي الرمل فلا إعادة عليه .
إنما كان كذلك لأن الرمل هيئة فلا يجب بتركه إعادة ولا شيء كهيئات الصلاة وكالاضطباع في الطواف ولو تركه عمدا لم يلزمه شيء أيضا وهذا قول عامة الفقهاء إلا ما حكي عن الحسن والثوري وعبد الملك الماجشون أن عليه دما لأنه نسك وقد جاء في حديث [ عن النبي A من ترك نسكا فعليه دم ] ولنا أمه هيئة غير واجبة فلم يجب بتركها شيء كالاضطباع والخبر إنما يصح عن ابن عباس وقد قال ابن عباس : من ترك الرمل فلا شيء عليه ثم هو مخصوص بما ذكرنا ولأن طواف القدوم لا يجب بتركه شيء فترك صفة فيه أولى أن لا يجب بها لأن ذلك لا يزيد على تركه