التحلل من الإحرام وزوال الاحصار من المحرم .
مسألة : قال : وإن حصر بعدو نحر ما معه من الهدي وحل .
أجمع أهل العلم على أن المحرم إذا حصره عدو من المشركين أو غيرهم فمنعوه الوصول إلى البيت ولم يجد طريقا آمنا فله التحلل وقد نص الله تعالى عليه بقوله : ( فإن احصرتم فما استيسر من الهدي ) وثبت أن النبي A أمر أصحابه يوم حصورا في الحديبية أن ينحروا ويحلقوا ويحلوا وسواء كان الإحرام بحج أو بعمرة أو بهما في قول إمامنا و أبي حنيفة و الشافعي وحكي عن مالك أن المعتمر لا يتحلل لأنه لا يخاف الفوات وليس بصحيح لأن الآية إنما أنزلت في حصر الحديبية وكان النبي A وأصحابه محرمين بعمرة فحلوا جميعا وعلى من تحلل بالإحصاء الهدي في قول أكثر أهل العلم وحكي عن مالك : ليس عليه هدي لأنه تحلل أبيح له من غير تفريط أشبه من أتم حجه وليس بصحيح لأن الله تعالى قال : { فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي } قبل إتمام نسكه فان عليه الهدي كالذي فاته الحج وبهذا فارق من أتم حجه .
فصل : ولا فرق بين الحصر العام في حق الحاج كله وبين الخاص في حق شخص واحد مثل أن يحبس بغير حق أو أخذته اللصوص وحده لعموم النص ووجود المعنى في الكل فأما من حبس بحق عليه يمكنه الخروج منه لم يكن له التحلل لأنه لا عذر له في المجلس وإن كان معسرا به عاجز عن أدائه فحسبه بغير حق فله التحلل كمن ذكرنا وإن كان عليه دين مؤجل يحل قبل قدوم الحاج فمنعه صاحبه من الحج فله التحلل الحج فله التحلل أيضا لأنه معذور ولو أحرم العبد بغير إذن سيده أو المرأة للتطوع بغير إذن زوجها فلهما منعهما وحكمهما حكم المحصر .
فصل : فإن أمكن المحصر الوصول من طريق أخرى لم يبح له التحلل ولزمه سلوكها بعدت أو قربت خشي الفوات أو لم يخشه فإن كان محرما بعمرة لم يفت وإن كان بحج ففاته تحلل بعمرة وكذا لو لم يتحلل المحصر حتى خلي عنه لزمه السعي وإن كان بعد فوات الحج لتحلل بعمرة ثم هل يلزمه القضاء إن فاته الحج ؟ فيه روايتان .
إحداهما : يلزمه كمن فاته بخطأ الطريق .
والثانية : لا تجب لأن سبب الفوات الحصر أشبه من لم يجد طريقا أخرى بخلاف المخطئ .
فصل : فأما من لم يجد طريقا أخرى فتحلل فلا قضاء عليه إلا أن يكون واجبا فعله بالوجوب السابق في الصحيح من المذهب وبه قال الشافعي وعن أحمد أن عليه القضاء روى ذلك عن مجاهد و عكرمة و الشعبي وبه قال أبو حنيفة لأن النبي A لما تحلل زمن الحديبية قضى من قابل وسميت عمرة القضية ولأنه حل من إحرامه قبل إتمامه فلزمه القضاء كما لو فاته الحج .
ووجه الأولى أنه تطوع جاز التحلل منه مع صلاح الوقت له فلم يجب قضاؤه كما لو دخل في الصوم يعتقد أنه واجب فلم يكن فما الخبر فأن الذي صدوا كانوا ألفا وأربعمائة والذين اعتمروا مع النبي A كانوا نفرا يسيرا ولم ينقل إلينا أن النبي A أمر أحدا بالقضاء وأما تسميتها عمرو القضية فإنما يعني بها القضية التي اصطلحوا عليها واتفقوا عليها ولو أرادوا غير ذلك لقالوا عمرة القضاء ويفارق الفوات فإنه مفرط بخلاف مسألتنا .
فصل : وإذا قدر المحصر على الهدي فليس له الحل قبل ذبحه فإن كان معه هدي قد ساقه أجزأه وإن لم يكن معه لزمه شراؤه إن أمكنه ويجزئه أدنى الهدي وهو شاة أو سبع بدنة لقوله تعالى : فما استيسر من الهدي وله نحره في موضع حصره من حل أو حرم نص عليه أحمد وهو قول مالك و الشافعي إلا أن يكون قادرا على أطراف الحرم ففيه وجهان .
أحدهما : يلزمه نحره فيه لأن الحرم كله منحر وقد قدر عليه .
والثاني : ينحره في موضعه لأن النبي A نحر هديه في موضعه وعن أحمد ليس للمحصر نحر هديه إلا في الحرم فيبعثه ويواطئ رجلا على نحره في وقت بتحلل فيه وهذا يروى عن ابن مسعود فين لدغ في الطريق وروي نحو ذلك عن الحسن و الشعبي و النخعي و عطاء وهذا والله أعلم فيمن كان حصره خاصا وأما الحصر العام فلا ينبغي أن يقوله أحد لأن ذلك يفضي إلى تعذر الحل لتعذر وصول الهدي إلى محله ولأن النبي A وأصحابه نحروا هداياهم في الحديبية هي من الحل قال البخاري : قال مالك وغيره إن النبي A وأصحابه حلقوا وحلوا من كل شيء قبل الطواف ويقبل أن يصل الهدي إلى البيت ولم يذكر أن النبي A أمر أحدا أن يقضي شيئا ولا أن يعدوا له وروي [ أن النبي A نحر هديه عند الشجرة التي كانت تحتها بيعة الرضوان ] وهي من الحل باتفاق أهل السيرة والنقل قال الله تعالى : { والهدي معكوفا أن يبلغ محله } ولأنه موضع حله فكان موضع نحره كالحرم وسائر الهدي يجوز للمحصر نحرها في موضع تحلله فإن قيل فقد قال الله تعالى : { ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله } وقال : { ثم محلها إلى البيت العتيق } ولأنه ذبح يتعلق بالإحرام فلم يجز في غير الحرم كدم الطيب واللباس قلنا : الآية فيحق غير المحصر ولا يمكن قياس المحصر عليه لأنه تحلل المحصر في الحل وتحلل غيره في الحرم فكل منهما ينحر في موضع تحلله وقيل في قوله : { حتى يبلغ الهدي محله } أي حتى يذبح وذبحه في حق المحصر في موضع حله اقتداء بالنبي A .
فصل : ومتى كان المحصر محرما بعمرة فله التحلل ونحر هديه وقت حصره لأن النبي A وأصحابه زمن الحديبية حلوا ونحروا هداياهم بها قبل يوم النحر وإن كان مفردا أو قارنا فكذلك في إحدى الروايتين لأن الحج أحد النسكين فجاز الحل منه ونحر هديه وقت حصره كالعمرة ولأن العمرة لا تفوت وجميع الزمان وقت لها فإذا جاز الحل منها ونحر هديها من غير خشية فواتها فالحج الذي يخشى فواته أولى .
والرواية الثانية : لا يحل ولا ينحر هديه إلى يوم النحر نص عليه في رواية الأثرم و حنبل لأن للهدي محل زمان ومحل مكان فإذا عجز عن محل المكان فسقط بقي محل الزمان واجبا لإمكانه وإذا لم يجز له نحر الهدي قبل يوم النحر لم يجز له التحلل لقوله سبحانه : { ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله } وإذا قلنا بجواز التحلل قبل يوم النحر لم يجز فالمستحب له مع ذلك الإقامة مع إحرامه رجاء زوال الحصر فمتى زال قبل تحلله فعليه المضي لإتمام نسكه بغير خلاف نعلمه قال ابن المنذر : قال كل من أحفظ عنه من أهل العلم إن من يئس أن يصل إلى البيت فجاز له أن يحل فلم يفعل حتى خلي سبيله أن عليه أن يقضي مناسكه وإن زال الحصر بعد فوات الحج تحلل بعمل عمرة فإن فات الحج قبل زوال الحصر تحلل بهدي وقيل عليه ههنا هديا : هدي لفوات وهدي للاحصار ولم يذكر أحمد في رواية الأثرم هديا ثانيا في حق من لا يتحلل إلا يوم النحر .
فصل : فإن أحصر عن البيت بعد الوقوف بعرفة فله التحلل لأن الحصر يفيده التحلل من جميعه فأفاد التحلل من بعضه وإن كان ما حصر عنه ليس من أركان الحج كالرمي وطواف الوداع والمبيت بمزدلفة أو بمنى في لياليها فليس له التحلل لأن صحة الحج لا تقف على ذلك ويكون عليه دم لتركه ذلك وحجه صحيح كما لو تركه من غير حصر وإن أحصر عن طواف الإفاضة بعد رمي الجمرة فليس له أن يتحلل أيضا لأن إحرامه إنما هو عن النساء والشرع إنما ورد بالتحلل من الإحرام التام الذي يحرم جميع محظوراته فلا يثبت بما ليس مثله ومتى زال الحصر أتى بالطواف وقد تم حجه .
فصل : فأما من يتمكن من البيت ويصد عن عرفة فله أن يفسخ نية الحج ويجعله عمرة ولا هدي عليه لأننا أبحنا له ذلك من غير حصر فمع الحصر أولى فإن كان قد طاف وسعى للقدوم ثم أحصر أو مرض حتى فاته الحج تحل بطواف وسعي آخر لأن الأول لم يقصد به طواف العمرة ولا سعيها وليس عليه أن يجدد إحراما وبهذا قال الشافعي و أبو ثور وقال الزهري : لا يد أن يقف بعرفة وقال محمد بن الحسن لا يكون محصورا بمكة وروي ذلك عن أحمد فإن فاته الحج فحكمه حكم من فاته بغير حجر وقال مالك : يخرج إلى الحل ويفعل ما يفعل المعتمر فإن أحب أن يستنيب من يتمم عنه أفعال الحد جاز في التطوع لأنه جاز أن يستنيب في جملته فجاز في بعضه ولا يجوز في حج الفرض إلا إن يئس من القدرة عليه في جميع العمر كما في الحج كله .
فصل : وإذا تحلل المحصر من الحج فزال الحصر وأمكنه الحج لزمه ذلك إن كانت حجة الإسلام أو قلنا بوجوب القضاء أو كانت الحجة واجبة في الجملة لأن الحج يجب على الفور وإن لم تكن الحجة واجبة ولا قلنا بوجوب القضاء فلا شيء عليه كمن لم يحرم .
فصل : وإن أحصر في حج فاسد فله التحلل لأنه إذا أبيح له التحلل في الحج الصحيح فالفاسد أولى فإن حل ثم زال الحصر وفي الوقت سعة فله أن يقضي في ذلك العام وليس يتصور القضاء في العام الذي أفسد الحد فيه في غير هذه المسألة