لبس المحرم وما يباح ولما لا يباح .
مسألة : قال : ولا يلبس القمص ولا السراويل ولا البرانس .
قال ابن المنذر : أجمع أهل العلم على أن المحرم ممنوع من لبس القمص والعمائم والسراويلات والخفاف والبرانس .
والأصل في هذا ما روى ابن عمر [ أن رجلا سأل رسول الله A ما يلبس المحرم من الثياب ؟ فقال رسول الله عليه وسلم : لا يلبس القمص ولا العمائم ولا السراويلات ولا البرانس ولا الخفاف إلا أحدا لا يجد نعلين فليلبس الخفين وليقطعهما أسفل من الكعبين ولا يلبس من الثياب شيئا مسه الزعفران ولا الورس ] متفق عليه نص النبي A على هذه الأشياء والحق بها أهل العلم ما في معناها مثل الجبة والدراعة والثياب وأشبها ذلك فليس للمحرم ستر بدنه بما عمل على قدره ولا ستر عضو من أعضائه بما عمل على قدره كالقميص للبدن والسراويل لبعض البدن والقفازين لليدين والخفين للرجلين ونحو ذلك وليس في هذا كله اختلاف قال ابن عبد البر : لا يجوز لباس شيء من المخيط عند جميع أهل العلم وأجموا على أن المراد بهذا الذكور دون النساء .
مسألة : قال : فإن لم يجد إزارا لبس السراويل وإن لم يجد نعلين لبس الخفين ولا يقطعهما ولا فداء عليه .
لا نعلم خلافا بين أهل العلم في أن المحرم أن يلبس السراويل إذا لم يجد الإزار والخفين إذا لم يجد نعلين وبهذا قال عطاء وعكرمة والثوري ومالك والشافعي وإسحاق وأصحاب الرأي وغيرهم والأصل فيه ما روى ابن عباس قال : [ سمعت النبي A يخطب بعرفات يقول : من لم يجد نعلين فليلبس الخفين ومن لم يجد إزارا فليلبس سراويل للمحرم ] متفق عليه وروى جابر عن النبي A مثل ذلك أخرجه مسلم ولا فدية عليه في لبسهما عند ذلك في قول من سمينا إلا مالكا وأبا حنيفة قالا : على من لبس السراويل الفدية لحديث ابن عمر الذي قدمناه ولأن ما وجبت الفدية بلبسه مع وجود الإزار وجبت مع عدمه كالقميص .
ولنا خبر ابن عباس وهو صريح في الإباحة ظاهر في إسقاط الفدية لأنه أمر بلبسه ولم يذكر فدية ولأنه يختص لبسه بحالة عدم غيره فلم تجب به فدية كالخفين المقطوعين وحديث ابن عمر مخصوص بحديث ابن عباس وجابر فأما القميص فيمكنه أن يتزر به من غير لبس ويستتر بخلاف السراويل .
فصل : وإذا لبس الخفين لعدم النعلين لم يلزمه قطعهما في المشهور عن أحمد ويروى ذلك عن علي بن أبي طالب Bه وبه قال عطاء وعكرمة وسعيد بن سالم القداح وعن أحمد أنه يقطعها حتى يكونا أسفل من الكعبين فإن لبسهما من غير قطع افتدى وهذا قول عروة بن الزبير و مالك و الثوري و الشافعي وإسحاق وابن المنذر وأصحاب الرأي لما روي ابن عمر [ عن النبي A أنه قال : فمن لم يجد نعلين فليلبس الخفين وليقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين ] متفق عليه وهو متضمن لزيادة على حديث ابن عباس وجابر والزيادة من الثقة مقبولة قال الخطابي : العجب من أحمد في هذا فإنه لا يكاد يخالف سنة تبلغه وقتل سنة لم تبلعه واحتج أحمد بحديث ابن عباس وجابر من لم يجد نعلين فليلبس خفين مع قول علي Bه قطع الخفين فساد يلبسهما كما هما مع موافقة القياس فإنه ملبوس أبيح لعدم غيره فأشبه السراويل وقطعه لا يخرجه عن حالة الخطر فإن لبس المقطوع محرم مع القدرة على النعلين كلبس الصحيح وفيه إتلاف ماله نقد نهى النبي A عن اضاعته فأما حديث ابن عمر فق قيل : إن قوله وليقطعها من كلام نافع كذلك رويناه في أمالي أبي القاسم بن بشران بإسناده صحيح أن نافعا قال بعد روايته للحديث : وليقطع الخفين أسفل من الكعبين وروي ابن أبي موسى عن صفية ينت أبي عبيد عن عائشة Bها [ أن رسول الله A رخص للمحرم أن يلبس الخفين ولا يقطعهما ] وكان ابن عمر يفتي بقطعهما قالت صفية : فلما أخبرته بهذا رجع وروى أبو حفص في شرحه بإسناده عن عبد الرحمن بن عوف أنه طاف وعليه خفان فقال له عمر : والخفا ن مع القباء فقال : قد لبستهما مع من هو خير منك يعني رسول الله صلى الله لعيه وسلم ويحتمل أن يكون الأمر بقطعهما منسوخا فإن عمرو بن دينار روى الحديثين جميعا وقال : انظروا أيهما كان قبل قال الدارقطني قال أبو بكر النيسابوري : حديث ابن عمر قبل لأنه قد جاء في بعض رواياته قال : نادى رجل رسول الله A وهو في المسجد يعني بالمدينة فكأنه كان قبل الإحرام وفي حديث ابن عباس يقول : [ سمعت رسول الله A يخطب بعرفات يقول : من لم يجد نعلين فليلبس خفين ] فيدل على تأخيره عن حديث ابن عمر فيكون ناسخا له لأنه لو كان القطع واجبا لبينه للناس إذ لا يجوز البيان عن وقت الحاجة إليه والمفهوم من إطلاق لبسهما لبسهما على حالهما من غير قطع والأولى قطعهما عملا بالحديث الصحيح وخروجا من الخلاف وأخذا بالاحتياط .
فصل : فإن لبس المقطوع مع وجود النعل فعليه الفدية وليس له لبيه نص عليه احمد وبهذا .
قال مالك وقال أبو حنيفة : لا فدية عليه لأنه لو كان لبسه محرما وفيه فدية لم يأمر النبي A بقطعهما لعدم الفائدة فيه وعن الشافعي كالمذهبين .
ولنا أن النبي A شرط في إباحة لبسهما عدم النعلين فدل على أنه لا يجوز مع وجودهم ولأنه مخيط لعضو على قدرة فوجبت على المحرم الفدية بلبسه كالقفازين .
فصل : فأما اللالكة والجمجم ونحوهما فقياس قول أحمد أنه لا يلبس ذلك فإنه قال : لا يلبس النعل التي لها قيد وهذا أشد من النعل التي لها قيد وقد قال في رأس الخف الصغير : لا يلبسه وذلك لأنه يستر القدم وقد عمل لها على قدرها فأشبه الخف فإن عدم النعلين كان له لبس ذلك ولا فدية عليه لأن النبي A أباح لبس الخف عند ذلك فما دون الخف أولى .
فصل : فأما النعل فيباح لبسها كيفما كانت ولا يجب قطع شيء منها لأن إباحتها وردت مطلقا وروي عن أحمد في القيد في النعل يفتدي لأننا لا نعرف النعال هكذا وقال : إذا أحرمت فاقطع المحمل الذي على النعال والعقب الذي يجعل للنعل فقد كان عطاء يقول : فيه دم وقال ابن أبي موسى في الإرشاد في القيد والعقب الفدية والقيد هو السير المعترض على الزمام وقال القاضي : إنما كرههما إذا كانا عريضين وهذا هو الصحيح فإنه إذا لم يجب قطع الخفين الساترين للقدمين والساقين فقطع سير النعل أولى أن لا يجب ولأن ذلك معتاد في النعل فلم تجب إزالته كسائر سيورها ولأن قطع القيد والعقب ربما تعذر معه المشي في النعلين لسقوطهما بزوال ذلك فلم يجب كقطع القبال .
فصل : وإن وجد نعلا لم يمكنه لبسها فله لبس الخف ولا فدية عليه لأن ما لا يمكن استعماله كالمعدوم كما لو كانت النعل لغيره أو صغيرة وكالماء في التيمم والرقبة التي لا يمكنه عتقها ولأن العجز عن لبسها قام مقام العدم في إباحة لبس الخف فكذلك في إسقاط الفدية والمنصوص أن عليه الفدية لقوله : من لم يجد نعلين فليلبس الخفين وهذا واجد .
فصل : وليس للمحرم أن يعقد عليه الرداء ولا غيره إلا الإزار والهميان وليس له أن يجعل لذلك زرا وعروة ولا يخلله بشوكة ولا إبرة ولا خيط لأه في حكم المخيط روى الأثرم عن مسلم بن جندب عن ابن عمر قال : جاء رجل يسأله وأنا معه أخالف بين طرفي ثوبي من ورائي ثم أعقده وهو محرم فقال له : كنت تكره هذا قال : إني أريد أن أفتدي ولا بأس أن يتشح بالقميص ويرتدي به ويرتدي برداء موصل ولا يعقده لأن المنهي عنه المخيط على قدر العضو .
فصل : ويجوز أن يعقد إزاره عليه لأنه يحتاج إليه لستر العورة فيباح كاللباس للمرأة وإن شد وسطه بالمنديل أو بحبل أو سراويل جاز إذا لم يعقده قال أحمد : في محرم وعمامة على وسطه لا تعقدها ويدخل بعضها في بعض قال طاوس : رأيت ابن عمر يطوف بالبيت وعليه عمامة قد شدها على وسطه فادخلها هكذا ولا يجوز أن يشق أسفل إزاره نصفين ويعقد كل نصف على ساق لأنه يشبه السراويل ولا يلبس الران لأنه معناه ولأنه معمول على قدر العضو الملبوس فيه فأشبه الخف .
مسألة : قال : ويلبس الهميان ويدخل السيور بعضهما في بعض ولا يعقدها .
وجملة ذلك أن لبس الهميان مباح للمحرم في قول أكثر أهل العلم روي ذلك عن ابن عباس وابن عمر وسعيد بن المسيب وعطاء ومجاهد وطاوس والقاسم والنخعي والشافعي وإسحاق وأبي ثور وأصحاب الرأي قال ابن البر : أجاز ذلك جماعة فقهاء الأمصار متقدموهم ومتأخروهم ومتى أمكنه أن يدخل السيور بعضهما في بعض ويثبت بذلك لم يعقده لأنه لا حاجة إلى عقدة وإن لم يثبت إلا بعقدة عقده نص عليه أحمد وهو قول إسحاق وقال إبراهيم : كانوا يرخصون في عقد الهميان للمحرم ولا يرخصون في عقد غيره وقالت عائشة : أوثق عليك نفقتك وذكر القاضي في الشرح أن ابن عباس قال : رخص رسول الله A للمحرم في الهميان أن يربطه إذا كانت فيه نفقته وقال ابن عباس : أوثقوا عليكم نفقاتكم ورخص في الخاتم والهميان للمحرم وقال مجاهد عن ابن عمر : أنه سئل عن المحرم يشد الهميان عليه فقال : لا بأس به إذا كانت فيه نفقته ولأنه مما تدعو الحاجة إلى شدة فجاز كعقد الإزار فإن لم يكن في الهميان نفقة لم يجز عقده لعدم الحاجة إليه وكذلك المنطقة وقد روي عن ابن عمر أنه كره الهميان والمنطقة للمحرم وكرهه نافع مولاه وهو محمول على ما ليس فيه نفقة لما تقدم من الرخصة فيما فيه النفقة وسئل أحمد عن المحرم يلبس المنقطة من وجع الظهر أو حاجة إليها قال : يفتدي فقيل له : أفلا تكون مثل الهميان ؟ قال : لا وعن ابن عمر أنه كره المنطقة للمحرم وأنه أباح شد الهميان إذا كانت فيه النفقة والفرق بيهما أن الهميان تكون فيه النفقة والمنطقة لا نفقة فيها فأبيح شد ما فيه النفقة للحاجة إلى حفظها ولم يبح شد ما سوى ذلك فإن كانت فيهما نفقة أو لم يكن فيهما نفقة فهما سواء وقد قالت عائشة في المنطقة : للمحرم أوثق عليك نفقتك فرخصت فيها إذا كانت فيها النفقة ولم يبح أحمد شد المنقطة لوجع الظهر إلا أن يفتدي لأن المنطقة ليست معدة لذلك ولأنه فعل المحظور في الإحرام لدفع الضرر عن نفسه أشبه من لبس المخيط لدفع البرد أو حلق رأسه لإزالة أذى القمل أو تطيب لأجل المرض