باب ما يتوفى المحرم وما أبيح له .
مسألة : قال أبو القاسم : ويتوقى في إحرامه ما نهاه الله عنه من الرفث وهو الجماع والفسوق وهو السباب والجدال وهو المرء .
يعني بقوله : ما نهاه الله عن قوله سبحانه : { الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج } وهذا صيغته صيغة النفي أريد به النهي كقوله سبحانه : { لا تضار والدة بولدها } والرفث هو الجماع روي ذلك عن ابن عباس و ابن عمر و عطاء بن أبي رباح و عطاء بن يسار و مجاهد و الحسن و النخعي و الزهري و قتادة وروي عن ابن عباس أنه قال : الرفث غشيان النساء والتقبيل والغمز وأن يعرض لهما بالفحش من الكلام وقال أبو عبيدة : الرفث لغا الكلام وأنشد قول العجاج : .
عن اللغا ورفث التكلم .
وقيل : الرفث هو ما يكنى عنه من ذكر الجماع وروي عن ابن عباس أنه أنشد بيتا فيه التصريح بما يكنى عنه من الجماع وهو محرم فقيل له في ذلك فقال إنما الرفث ما روجع به النساء وفي لفظ ما قيل من ذلك عند النساء وكل ما يفسر به الرفث ينبغي للمحرم أن يجتنبه إلا أنه في الجماع أظهر لما ذكرنا من تفسير الأئمة له بذلك ولأن قد جاء في الكتاب في موضع آخر وأريد به الجماع قال الله تعالى { أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم } فأما الفسوق فهو السباب لقول النبي A : [ سباب المسلم الفسوق ] متفق عليه وقيل الفسوق المعاصي روي ذلك عن ابن عباس وابن عمر وعطاء وإبراهيم وقالوا أيضا الجدال المراء وقال ابن عباس هو أن تماري صاحبك حتى تغضبه والمحرم ممنوع من ذلك كله [ قال النبي A : من حج فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه ] متفق عليه وقال مجاهد في قوله تعالى : { ولا جدال في الحج } أي لا مجادلة ولا شك في الحج أنه في ذي الحجة وقول الجمهور أولى .
مسألة : قال : ويستحب له قله الكلام إلا فيما ينفع وقد روي عن شريح أنه كان إذا أحرم كأنه حية صماء .
وجملة ذلك أن قلة الكلام فيما لا ينفع مستحبة في كل حال صيانة لنفسه عن اللغو والوقوع في الكذب وما لا يحل فإن من كثير كلامه كثر سقطه وفي الحديث عن أبي هريرة و [ عن رسول الله A أنه قال : من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت ] قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح متفق عليه وعنه قال : [ قال رسول الله عليه وسلم : من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه ] رواه ابن عيينه عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة وروي في المسند عن الحسن بن علي عن النبي A وقال أبو داود : أصول السنن أربعة أحاديث هذا أحدها وهذا في حال الإحرام أشد استحبابا لأنه حال عبادة واستشعار بطاعة الله D فيشبه الاعتكاف وقد احتج أحمد على ذلك بأن شريحا C كان إذا أحرم كأنه حية صماء فيستحب للمحرم أن يشتغل بالتلبية وذكر الله تعالى أو قراءة القرآن أو أمر بمعروف أو نهى عن منكر أو تعليم الجاهل أو يأمر بحاجته أو يسكت أو تكلم بما لا مأثم فيه أو أنشد شعرا لا يقبح فهو مباح ولا يكثر فقد روي عن عمر ( رض ) أنه كان على ناقة له وهو محرم فجعل يقول : .
( كأن راكبها غصن بمروحة ... إذا تدلت به أو شارب ثمل ) .
الله أكبر الله أكبر وهذا يدل على الإباحة والفضيلة الأول .
مسألة : قال : ولا يتفلى المحرم ولا يقتل القمل ويحك رأسه وجسده حكا رفيقا .
اختلفت الرواية عن أحمد رحمة الله في إباحة قتل القمل فعنه إباحته لأنه من أكثر الهوام أذى فأبيح قتله كالبراغيث وسائر ما يؤذي وقول النبي A : [ خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم ] يدل بمعناه على إباحة قتل كل ما يؤذي بني آدم في أنفسهم وأموالهم وعنه أن قتله محرم وهو ظاهر كلام الخرقي لأنه يترفه بإزالته عنه فحرم كقطع الشعر ول [ أن النبي A رأى كعب بن عجرة والقمل يتناثر على وجهه فقال له : احلق رأسك ] فلو كان قتل القمل أو إزالته مباحا لم يكن كعب ليتركه حتى يصير كذلك أو لكان النبي A أمره بإزالته خاصة والصئبان كالقمل في ذلك ولا فرق بين قتل القمل أو إزالته بالقائه على الأرض أو قتله بازئبق فإن قتله لم يحرم لحرمته لكن لما فيه من الترفه فعم المنع إزالته كيفما كانت ولا يتفلى فإن التفلي عبارة عن إزالة القمل وهو ممنوع منه ويجوز له حك رأسه ويرفق في الحك كيلا يقطع شعرا أو يقتل قلمه فإن حك فرأى في يده شعرا أحببنا أن يفديه احتياطا ولا يجب عليه حتى يستيقن أنه قلعه قال بعض أصحابنا : إنما اختلفت الرواية في القمل الذي في شعره فأما ما ألقاه من ظاهر بدنه فلا فدية فيه .
فصل : فإن خالف وتفلى أو قتل قملا فلا فدية فيه فإن كعب بن عجرة حين حلق رأسه قد أذهب قملا كثيرا ولم يجب عليه لذلك شيء وإنما وجبت الفدية بحلق الشعر ولأن القمل لا قيمة له أشبه البعوض والبراغيث ولأنه ليس بصيد ولا هو مأكول حكي عن ابن عمر قال : هي أهون مقتول وسئل ابن عباس عن محرم ألقى قملة ثم طلبها فلم يجدها فقال : تلك ضالة لا تبتغى وهذا قول طاوس وسعيد بن جبير وعطاء وأبي ثور وابن المنذر وعن أحمد فمن قتل قملة قال : يطعم شيئا فعلى هذا أي شيء تصدق به أجزأه سواء قتل كثيرا أو قليلا وهذا قول أصحاب الرأي وقال إسحاق : تمرة فما فوقها وقال مالك حفنة من طعام وروي ذلك عن ابن عمر وقال عطاء قبضة من طعام وهذه الأقوال كلها ترجع إلى ما قلناه فإنهم لم يردوا بذلك التقدير وإنما هو على التقريب لأقل ما يتصدق به .
فصل : ولا بأس أن يغسل المحرم رأسه وبدنه برفق فعل ذلك عمر وابنه ورخص فيه علي وجابر و سعيد بن جبير و الشافعي و أبو ثور وأصحاب الرأي وكره مالك للمحرم أن يغطس في الماء ويغيب فيه رأسه ولعله ذهب إلى أن ذلك ستر له والصحيح أنه لا بأس بذلك وليس ذلك بستر ولهذا لا يقوم مقام السترة في الصلاة وقد روي عن ابن عباس قال : ربما قال لي عمر ونحن محرمون بالجحفة تعال أباقيك أينا أطوال نفسا في الماء وقال : ربما قاسمت عمر بن الخطاب بالجحفة ونحن محرمون رواهما سعيد ولأنه ليس بستر معتاد أشبه صب الماء عليه أو وضع يديه عليه وقد [ روى عبد الله بن جبير قال : أرسلني ابن عباس إلى أبي أيوب الأنصاري فأتيته وهو يغتسل فسلمت عليه فقال : من هذا ؟ فقلت : أنا عبد الله بن جبير أرسلني إليك عبد الله بن عباس يسألك كيف كان رسول الله A يغسل رأسه وهو محرم فوضع أبو أيوب يده على الثوب فطاطاه حتى بدا لي رأسه ثم قال لإنسان يصب عليه الماء : صب فصب على رأسه ثم حرك رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر قم قال : هكذا رأيت رسول الله A يفعل ] متفق عليه وأجمع أهل العلم على أن المحرم يغتسل من الجنابة .
فصل : ويكره له غسل رأسه بالسدر والخطمي ونحوهما لما فيه من إزالة الشعث والتعرض لقلع الشعر وكرهه جابر بن عبد الله و مالك و الشافعي وأصحاب الرأي فإن فعل فلا فدية عليه وبهذا قال الشافعي وأبو ثور وابن المنذر وعن أحمد عليه الفدية به قال مالك وأبو حنيفة وقال صاحباه : عليه صدقة لأن الخطمي تستلذ رائحته وتزيل الشعث وتقتل الهوام فوجبت به الفدية كالورس .
ولنا [ أن النبي A قال في المحرم الذي وقصه بعيره : اغسلوه بماء وسدر وكفنونه في ثوبيه ولا تحنطوه ولا تخمروا رأسه فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا ] متفق عليه فأمر بغسله بالسدر مع إثبات حكم الإحرام في حقه والخمطي كالسدر ولأنه ليس بطيب فلم تجب الفدية باستعماله كالتراب وقولهم تستلذ رائحته ممنوع ثم يبطل بالفاكهة وبعض التراب وإزالة الشعث تحصل بذلك أيضا وقتل الهوام لا يعلم حصوله ولا يصح قياسه على الورس لأنه طيب ولذلك لو استعمله في غير الغسل أو في ثوب منع منه بخلاف مسألتنا