خطبة الكتاب .
بسم الله الرحمن الرحيم .
قال الإمام : العالم الاوحد الصدر الكامل السيد الفاضل شيخ الإسلام سيد العلماء إمام أهل السنة بقية السلف مفتي الأمة : موفق الدين أبو محمد عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي Bه وأرضاه كما اختاره لنصر دينه وارتضاه : .
الحمد لله بارئ البريات وغافر الخطيئات وعالم الخفيات المطلع على الضمائر والنيات أحاط بكل شيء علماء ووسع كل شيء رحمة وحلما وقهر كل مخلوق عزة وحكما { يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما } لا تدركه الابصار ولا تغيره الأعصار ولا توهممه الأفكار { وكل شيء عنده بمقدار } أتقن ما صنع وأحكمه وأحصى كل شيء وعلمه وخلق الإنسان وعلمه ورفع قدر العلم وعظمه وحظره على من استرذله وحرمه وخص به من خلقه من كرمه وحض عبادة المؤمنين على النفير للتفقه في الدين فقال تعالى وهو أصدق القائلين : { فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون } ندبهم إلى انذار بريته كما ندب إلى ذلك أهل رسالته ومنحهم ميراث أهل نبوته ورضيهم للقيام بحجته والنيابة عنه في الاخبار بشريعته واختصهم من بين عباده بخشيته فقال تعالى : { إنما يخشى الله من عباده العلماء } ثم أمر سائر الناس بسؤالهم والرجوع إلى أقوالهم وجعل علامة زيفهم وضلالهم ذهاب علمائهم واتخاذ الرؤوس من جهالهم فقال النبي A : [ ان الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالم تخذ الناس رؤساء جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا ] وصلى الله على خاتم الانبياء وسيد الاصفياء وإمام العلماء وأكرم من مشى تحت أديم السماء محمد نبي الرحمة الداعي إلى سبيل ربه بالحكمة والكاشف برسالته جلابيب الغمة وخير نبي بعث إلى خير أمة أرسله بشيرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما كثيرا .
أما بعد فإن الله برحمته وطوله وقوته وحوله ضمن بقاء طائفة من هذه الامة على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك وجعل السبب في بقائهم بقاء علمائهم واقتداؤهم بأئمتهم وفقهائهم وجعل هذه الأمة مع علمائها كالأمم الخالية مع أنبيائها وأظهر في كل طبقة من فقهائها أئمة يقتدى بها وينتهى إلى رايها وجعل في سلف هذه الأمة أئمة من الاعلام مهد بهم قواعد الاسلام وأوضح بهم مشلات الاحكام اتفاقهم حجة قاطعة واختلافهم رحمة واسعة تحيا القلوب بأخبارهم وتحصل السعادة باقتفاء آثارهم ثم اختص منهم نفرا على قدرهم ومناصبهم وأبقى ذكرهم ومذاهبهم فعلى أقوالهم مدار الاحكام وبمذاهبهم يفتي فقهار الاسلام وكان إمامنا أبو عبد الله أحمد بن محمد بن محمد بن حنبل Bه من أوفاهم فضيلة وأقربهم إلى الله وسيلة وأتبعهم لرسول الله A وأعلمهم به وأزهدهم في الدنيا وأطوعهم لربه فلذلك وقع اختيارنا على مذهبه وقد أحببت أن أشرح مذهبه واختياره ليعلم ذلك من اقتضى آثاره وأبين في كثير من المسائل ما اختلف فيه مما أجمع عليه وأذكر لكل إمام ما ذهب إليه تبركا بهم وتعريفا لمذاهبهم وأشير إلى دليل بعض أقوالهم على سبيل الاختصار والاقتصار من ذلك على المختار وأعزو ما أمكنني عزوه من الاخبار إلى كتب الأئمة من علماء الآثار ليحصل الثقة بمدلولها والتمييز بين صحيحها ومعلولها فيعتمد على معروفها ويعرض عن مجهولها ثم بنيت ذلك على شرح مختصر أبي القاسم عمر بن الحسين بن عبد الله الخرقي C لكونه كتابا مباركا نافعا ومختصر موجزا جامعا ومؤلفه إمام كبير صالح ذو دين أخو ورع جمع العلم والعمل فنتبرك بكتابه ونجعل الشرح مرتبا على مسائلهع وأبوابه ونبدأ في كل مسألة بشرحها وتبيينها وما دلت عليه بمنطوقها ومفهومها ومضمونها ثم نتبع ذلك ما يشابهها مما ليس بمذكور في الكتاب فتحصل المسائل كتراجم الأبواب وبالله أستعين فيما أقصده وأتوكل عليه فيما أعتمده وإياه أسأل أن يوفقنا ويجعل سعينا مقربا إليه ومزلفا لديه برحمته فنقول وبالله التوفيق .
قال أبو القاسم عمر بن الحسين بن عبد الله بن أحمد الخرفي رحمة الله عليه : .
قال القاضي الإمام أبو يعلى C : : كان ال الخرقي علامة بارعا في مذهب أبي عبد الله وكان ذا دين وأخا ورع وقال القاضي أبو الحسين : كانت له المصنفات الكثيرة في المذهب ولم ينشر منها إلا المختصر في الفقه لأنه خرج من مدينة السلام لما ظهر سب الصحابة بها وأودع كتبه في دار سليمان فاحترقت الدار والكتب فيها - قرأ العلم من قرأه على أبي بكر المروذي و حرب الكرماني و صالح و عبد الله ابني أحمد وروى عن أبيه أبي علي الحسين بن عبد الله و كان أبو علي فقيها صحب أصحاب أحمد وأكثر صحبته لـ أبي بكر المرذوي وقرأ على أبي القاسم الخرقي جماعة من شيوخ المذهب منهم أبو عبد الله بن بطة و أبو الحسن التميمي و أبو الحسين ابن سمعون وقال أبو عبد الله بن بطة : توفي أبو القاسم الخرقي سنة أربع وثلاثين وثلثمائة ودفن بدمشق وزرت قبره وسمعت من يذكر أن سبب موتخ أنه أنكر منكرا بدمشق فضرب وكان موته بذلك .
وقال C : اختصرت هذا الكتاب يعني قربته وقللت ألفاظه وأوجزته والاختصار تقليل الشيء فقد يكون اختصار الكتاب بتقليل مسائله وقد يكون بتقليل ألفاظه مع تأ دية المعنى ومن ذلك قول النبي A : [ أوتيت جوامع الكلم واختصر لي الكلام اختصارا ] ومن ذلك مختصرات الطرق وفي الحديث [ الجهاد مختصر طريق الجنة ] وقد نهي عن اختصار السجود ومعناه جمع آي السجدات فيقرؤها في وقت واحد وقيل : هو أن يحذف الآية التي فيها السجدة فلا يقرأها وفائدة الاختصار التقريب والتسهيل على من أراد تعلمه وحفظه فإن الكلام يختصر ليحفظ ويطول ليفهم وقد ذكر C مقصوده بالاختصار فقال : ليقرب على متعلمه أي يسهل عليه ويقل تعبه في تعلمه .
وقوله : على مذهب أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنيل Bه وأرضاه فهو الامام أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد بن ادريس بن عبد الله بن حيان بن عبد الله بن ذهل بن شيبان ابن ثعلبةبن عكاية بن صعب بن علي بن بكر بن وائل بن قاسط بن هنب بن أفصى بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان يلتقي نسبه ونسب رسول الله A في نزار لأن رسول الله A ولد مضر من نزار و أحمد من ولد ربيعة بن نزار قال عبد الله بن أحمد : قال أبي : ولدت سنة أربع وستين ومائة وقال عبد الله ومات في ربيع الآخر سنة إحدى وأربعين ومائتين وله سبع وسبعون سنة حملت به أمه بمرور وولدته ببغداد ونشأ بها وسافر في طلب أسفارا كثيرة ثم رجع إلى بغداد وتوفي بها بعد أن ساد أهل عصره ونصر الله به دينه قال أبو عبيد القاسم بن سلام ليس في شرق ولا غرب مثل أحمد بن حنبل ما رأيت رجلا أعلم بالسنة منه وقال الامام أبو عبد الله محمد بن ادريس الشافعي C ورضوانه عليه : أحمد بن حنبل إمام في ثمان خصال : إمام في الحديث إمام في الفقه إمام في القرآن إمام في اللغة إمام في الفقر إمام في الزهد إمام في الورع إمام في السنة وقال عبد الرحمن بن مهدي فيه وهو صغير لقد كاد هذا الغلام أن يكون إماما في بطن أمه وقال أبو عمر بن النحاس الرملي - وذكر أحمد بن حنبل - : عن الدنيا ما كان أصبره وبالماضين ما كان أشبهه وبالصالحين C ما كان ألحقه عرضت له الدنيا فأباها والبدع فنفاها واختصه الله سبحانه بنصر دينه والقيام بحفظ سنته ورضيه لإقامة حجته ونصر كلامه حين عجز عنه الناس قيل ل بشر بن الحارث حين ضرب أحمد يا أبا نصر لو أنك خرجت فقلت إني على قول أحمد بن حنبل ؟ فقال بشر أتريدون أن أقوم مقام الأنبياء ؟ ان أحمد بن حنبل قام مقام الانبياء وقال علي بن شعيب الطوسي كان أحمد بن حنبل عندنا المثل الذي قال النبي A : [ انه كائن في امتي ما كان في بني إسرائيل حتة إن المنشار ليوضع على مفرق رأس أحدهم ما يصده ذلك عن دينه ] ولولا أن أبا عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل قام بهذا الشأن لكان عارا وشنارا علينا إلى يوم القيامة أن قوما سئلوا فلم يخرج منهم أحمد وفضائله وما قاله الأئمة في مدحه كثير وليس ها هنا موضع استقصائه وقد صنف فيه غير واحد من الأئمة كتبا مفردة وإنما غرضنا هنا الإشارة إلى نكتة من فضله وذكر نسبه ومولده ومبلغ عمره اذ لا يحسن من متمسك بمذهبه ومتفقه على طريقته أن يجعل هذا القدر من امامه ونسأل الله الكريم أن يجمع بيننا وبينه في دار كرامته والدرجات العلى من جنته وأن يجعل عملنا صالحا ويجعله لوجهه خالصا ويجعل سعينا مقربا إليه مبلغا إلى رضوانه أنه جواد كريم