البحيرة و الوصيلة و السائبة و الحام .
( أخبرنا الربيع بن سليمان ) قال : قال الشافعي C تعالى : قال الله تبارك و تعالى : { ما جعل الله من بحيرة و لا سائبة و لا وصيلة و لا حام } فلم يحتمل إلا ما جعل الله ذلك نافذا على ما جعلتموه و هذا إبطال ما جعلوا منه على غير طاعة الله عز و جل قال الشافعي C تعالى : كانوا يبحرون البحيرة و يسيبون السائبة و يوصلون الوصيلة و يحمون الحام على غير معان سمعت كثيرا من طوائف العرب يحكون فيه فتجتمع حكايتهم على أن ما حكوا منه عندهم من العلم العام الذي لا يشكون فيه و لا يمكن في مثله الغلط لأن فيما ذكروا أنهم سمعوا عوامهم يحكونه عن عوام من كان قبلهم فكان مما حكوا مجتمعين على حكايته أن قالوا : البحيرة الناقة تنتج بطونا فيشق مالكها أذنها و يخلي سبيلها و يحلب لبنها في البطحاء و لا يستجيزون الانتفاع بلبنها ثم زاد بعضهم على بعض فقال بعضهم : تنتج خمسة بطون فتبحر و قال بعضهم : و ذلك إذا كانت تلك البطون كلها إناثا و السائبة : العبد يعتقه الرجل عند الحادث مثل البرء من المرض أو غيره من وجوه الشكر : أو أن يبتدئ عتقه فيقول : قد أعتقتك سائبة يعني سيبتك فلا تعود إلي و لا لي الانتفاع بولائك كما لا يعود إلى الانتفاع بملكك و زاد بعضهم فقال : السائبة وجهان : هذا أحدهما و السائبة أيضا يكون من وجه آخر : و هو البعير ينجح عليه صاحبه الحاجة أو يبتدئ الحاجة أن يسيبه فلا يكون عليه سبيل قال الشافعي C تعالى : و رأيت مذاهبهم في هذا كله فيما صنعوا أنه كالعتق قال : و الوصيلة الشاة تنتج الأبطن فإذا ولدت آخر بعد الأبطن التي وقتوا لها قيل : وصلت أخاها و زاد بعضهم : تنتج الأبطن الخمسة عناقين عناقين في كل بطن فيقال هذه وصيلة تصل كل ذي بطن بأخ له معه و زاد بعضهم فقال : قد يوصلونها في ثلاثة أبطن و يوصلونها في خمسة و في سبعة قال : و الحام الفحل يضرب في إبل الرجل عشر سنين فيخلى و يقال : قد حمى هذا ظهره فلا ينتفعون من ظهره بشيء و زاد بعضهم فقال : يكون لهم من صلبه و ما أنتج مما خرج من صلبه عشر من الإبل فيقال : قد حمى هذا ظهره قال : و أهل العلم من العرب أعلم بهذا ممن لقيت من أهل التفسير و قد سمعت من أهل التفسير من يحكي معنى ما حكيت العرب و فيما سمعت من حكايتهم نصا و دلالة من أخبارهم أنهم كانوا يبحرون البحيرة و يسيبون السائبة و يوصلون الوصيلة و يحمون الحام على وجوه جماعها أن يكونوا مؤدين بما يصنعون من ذلك حقا عليهم من نذر نذروه فوفوا به أو فعلوه بلا نذرهم أو بحق وجب عليهم عندهم فأدوه وكان عندهم إذا فعلوه خارجا من أموالهم بما فعلوا فيه مثل خروج ما أخرجوا إلى غيرهم من المالكين و كانوا يرجون بأدائه البركة في أموالهم و ينالون به عندهم مكرمة مع التبرر بما صنعوا فيه قال الشافعي C تعالى : و كان فعلهم يجمع أمورا منها أمر واحد بر في الأخلاق و طاعة لله عز و جل في منفعته ثم شرطوا في ذلك الشيء شرطا ليس من البر فأنفذ البر و رد الشرط الذي ليس من البر و هو : أن أحدهم كان يعتق عبده سائبة و معنى يعتقه سائبة هو أن يقول : أنت حر سائبة فكما أخرجتك من ملكي و ملكتك نفسك فصار ملكك لا يرجع إلي بحال أبدا فلا يرجع إلي ولاؤك كما لا يرجع إلي ملكك فكان العتق جائزا في كتاب الله عز و جل بدأ فيه ثم في سنة رسول الله A ثم عند عوام المسلمين و كان الشرط بأن العتق سائبة لا يثبت ولاؤه لمعتقه شرطا مبطلا في كتاب الله تبارك و تعالى بقوله عز و جل : { ما جعل الله من بحيرة و لا سائبة و لا وصيلة و لا حام } و الله تعالى أعلم لأنا بينا أن قول الله جل و علا : { و لا سائبة } لا يحتمل إلا معنيين : أحدهما أن العبد إذا أعتق سائبة لم يكن برا كما لم تكن البحيرة و الوصيلة و الحام على ما جعل مالكها من تبحيرها و توصيلها و حماية ظهورها فلما أبطل الله جل ذكره شرط مالكها فيها كانت على أصل ملك مالكها قبل أن يقول مالكها ما قال قال الشافعي : فإن قال قائل : أفتوجدني في كتاب الله عز و جل في غير هذا بيانا لأن الشرط إذا بطل في شيء أخرجه إنسان من ماله بغير عتق بني آدم رجع إلى أصل ملكه ؟ قيل : نعم قال الله عز ذكره : { اتقوا الله و ذروا ما بقي من الربا } و قال عز و جل : { و إن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون و لا تظلمون } و في الإجماع : أن من باع بيعا فاسدا فالبائع على أصل ملكه لا يخرج من ملكه إلا و البيع فيه صحيح و المرأة تنكح نكاحا فاسدا هي على ما كانت عليه لا زوج لها قال الشافعي C تعالى : و يحتمل لقائل لو قال بظاهر الآية إذا لم يكن من أهل العلم أبطل الشرط في السائبة كما أبطله في البحيرة و الوصيلة و الحام و كلها على أصل ملكها لمالكها لم تخرج منه و لا عتق للسائبة لأن سياق الآية فيها واحد ( قال ) : و هذا قول و إن احتملته الآية لا يقوم و لا أعلم قائلا يقول به و الآية محتملة المعنى الأول قبله الذي ذكرت أنه أحد المعنيين و هو أن قوله جل و عز : { ما جعل الله من بحيرة و لا سائبة و لا وصيلة و لا حام } يعني - و الله أعلم - على ما جعلتم فأبطل في الجزيرة و الوصيلة و الحام لأن العتق لا يقع على البهائم و لا تكون إلا مملوكة للآدميين و لا تخرج من ملك مالكها منهم إلا إلى مالك منهم و أكثر السائبة إذا كان من الإبل و البهائم قبل التسييب و بعده سواء لا تملك أنفسها كهي و إذا كان من الناس يخرج من ملك مالكه للآدمي إلى أن يصير مثله في الحرية و أن يكون مالكا كما يكون معتقه مالكا و كان الذي أبطل الله تعالى - و الله أعلم - من السائبة أن يكون كما قال خارجا من ولائه بشرط ذلك في عتقه و أقر ولاؤه لمعتقه كما أقر ملك البحيرة و السائبة و الوصيلة لمالكه قال الشافعي : فإن قال قائل : هل على ما وصفت دلالة من كتاب الله عز و جل تبين ما قلت من خلاف بني آدم للبهائم و غير بني آدم من الأموال أو سنة أو إجماع ؟ قيل : نعم فإن قال قائل : فأين هي ؟ قيل : قال الله عز و جل : { فلا اقتحم العقبة } إلى قوله { ذا متربة } و دل على أن تحرير الرقبة و الإطعام ندب الله إليه حين ذكر تحرير الرقبة و قال الله عز و جل في المظاهرة : { فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا } و قال تبارك اسمه في القاتل خطأ : { فدية مسلمة إلى أهله و تحرير رقبة } و قال في الحالف : { فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة } و كان حكمه تبارك و تعالى فيما ملكه الآدميون من الآدميين أنهم يخرجونهم من ملكهم بمعنيين أحدهما فك الملك عنهم بالعتق طاعة لله عز و جل برا جائزا و لا يملكهم آدمي بعده و الآخر : أن يخرجهم مالكهم إلى آدمي مثله و يثبت له الملك عليهم كما يثبت للمالك الأول بأي وجه صيرهم إليه قال : فكان حكم الله - و الله تعالى أعلم - في البهائم ما وصفت : من أن العتق لا يقع عليها و لا تزايل ملك صاحبها ما كان حيا إلا إلى مالك من الآدميين يقول فيه : قد أخرجتها من ملكي و كان هكذا كل ما سوى بني آدم مما يملك بنو آدم نصا في كتاب الله عز و جل و دلالة بما ذكرت فيما سوى الآدميين من بهيمة و متاع و مال و لا أعلم مخالفا في أن امرءا لو قال لممالكيه من الآدميين : أنت أحرار عتقوا و لو قال لملكه من البهائم : أنتم أحرار لم تعتق بهيمة و لا غير آدمي