- وأما الفعل بعدها فهو رمي الجمار وذلك أن المسلمين اتفقوا على " أن النبي A وقف بالمشعر الحرام وهي المزدلفة بعد ما صلى الفجر ثم دفع منها قبل طلوع الشمس إلى منى وأنه في هذا اليوم وهو يوم النحر رمى جمرة العقبة من بعد طلوع الشمس " وأجمع المسلمون أن من رماها في هذا اليوم في ذلك الوقت : أعني بعد طلوع الشمس إلى زوالها فقد رماها في وقتها وأجمعوا أن رسول الله A لم يرم يوم النحر من الجمرات غيرها .
واختلفوا فيمن رمى جمرة العقبة قبل طلوع الفجر فقال مالك : لم يبلغنا أن رسول الله A رخص لأحد أن يرمي قبل طلوع الفجر ولا يجوز ذلك فإن رماها قبل الفجر أعادها وبه قال أبو حنيفة وسفيان وأحمد .
وقال الشافعي : لا بأس به وإن كان المستحب هو بعد طلوع الشمس فحجة منع ذلك فعله A مع قوله " خذوا عني مناسككم " وما روي عن ابن عباس " أن رسول الله A قدم ضعفة أهله وقال : لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس " .
وعمدة من جوز رميها قبل الفجر حديث أم سلمة خرجه أبو داود وغيره وهو " أن عائشة قالت : أرسل رسول الله A لأم سلمة يوم النحر فرمت الجمرة قبل الفجر ومضت فأفاضت وكان ذلك اليوم الذي يكون رسول الله A عندها .
وحديث أسماء أنه رمت الجمرة بليل وقالت : إنا كنا نصنعه على عهد رسول الله A .
وأجمع العلماء أن الوقت المستحب لرمي جمرة العقبة هو من لدن طلوع الشمس إلى وقت الزوال وأنه إن رماها قبل غروب الشمس من يوم النحر أجزأ عنه ولا شيء عليه إلا مالكا فإنه قال : أستحب له أن يريق دما .
واختلفوا فيمن لم يرمها حتى غابت الشمس فرماها من الليل أو من الغد فقال مالك : عليه دم .
وقال أبو حنيفة : إن رمى من الليل فلا شيء عليه وإن أخرها إلى الغد فعليه دم .
وقال أبو يوسف ومحمد والشافعي لا شيء عليه إن أخرها إلى الليل أو إلى الغد وحجتهم " أن رسول الله A رخص لرعاة الإبل في مثل ذلك : أعني أن يرموا ليلا " وفي حديث ابن عباس " أن رسول الله A قال له السائل : يا رسول الله رميت بعد ما أمسيت قال له : لا حرج " وعمدة مالك أن ذلك الوقت المتفق عليه الذي رمى فيه رسول الله A هو السنة ومن خالف سنة من سنن الحج فعليه دم على ما روي عن ابن عباس وأخذ به الجمهور .
وقال مالك : ومعنى الرخصة للرعاة إنما ذلك إذا مضى يوم النحر ورموا جمرة العقبة ثم كان اليوم الثالث وهو أول أيام النفر فرخص لهم رسول الله A أن يرموا في ذلك اليوم له ولليوم الذي بعده فإن نفروا فقد فرغوا وإن أقاموا إلى الغد رموا مع الناس يوم النفر الأخير ونفروا ومعنى الرخصة للرعاة عند جماعة العلماء هو جمع يومين في يوم واحد إلا أن مالكا إنما يجمع عنده ما وجب مثل أن يجمع في الثالث فيرمي عن الثاني والثالث لأنه لا يقضي عنده إلا ما وجب ورخص كثير من العلماء في جمع يومين في يوم سواء تقدم ذلك اليوم الذي أضيف إلى غيره أو تأخر ولم يشبهوه بالقضاء وثبت " أن رسول الله A رمى في حجته الجمرة يوم النحر ثم نحر بدنة ثم حلق رأسه ثم طاف طواف الإفاضة " وأجمع العلماء على أن هذا سنة الحج .
واختلفوا فيمن قدم من هذه ما أخره النبي A أو بالعكس فقال مالك : من حلق قبل أن يرمي جمرة العقبة فعليه الفدية .
وقال الشافعي وأحمد وداود وأبو ثور : لا شيء عليه .
وعمدتهم ما رواه مالك من حديث عبد الله بن عمر أنه قال " وقف رسول الله A للناس بمنى والناس يسألونه فجاءه رجل فقال : يا رسول الله لم أشعر فحلقت قبل أن أنحر .
فقال رسول الله A : إنحر ولا حرج ثم جاءه آخر فقال : يا رسول الله لم أشعر فنحرت قبل أن أرمي فقال E : إرم ولا حرج قال : فما سئل رسول الله A يومئذ عن شيء قدم أو أخر إلا قال : إفعل ولا حرج " .
وروى هذا من طريق ابن عباس عن النبي A .
وعمدة مالك أن رسول الله A حكم على من حلق قبل محله من ضرورة بالفدية فكيف من غير ضرورة مع أن الحديث لم يذكر فيه حلق الرأس قبل رمي الجمار وعند مالك أن من حلق قبل أن يذبح فلا شيء عليه وكذلك من ذبح قبل أن يرمي .
وقال أبو حنيفة : إن حلق قبل أن ينحر أو يرمي فعليه دم وإن كان قارنا فعليه دمان وقال زفر : عليه ثلاث دماء دم للقران ودمان للحلق قبل النحر وقبل الرمي .
وأجمعوا على أن من نحر قبل أن يرمي فلا شيء عليه لأنه منصوص عليه إلا ما روي عن ابن عباس أنه كان يقول : من قدم من حجه شيئا أو أخر فليهرق دما .
وأنه من قدم الإفاضة قبل الرمي والحلق أنه يلزمه إعادة الطواف .
وقال الشافعي ومن تابعه : لا إعادة عليه .
وقال الأوزاعي : إذا طاف للإفاضة قبل أن يرمي جمرة العقبة ثم واقع أهله أراق دما .
واتفقوا على أن جملة ما يرميه الحاج سبعون حصاة منها في يوم النحر جمرة العقبة بسبع وأن رمي هذه الجمرة من حيث تيسر من العقبة من أسفلها أو من أعلاها أو من وسطها كل ذلك واسع والموضع المختار منها بطن الوادي لما جاء في حديث ابن مسعود أنه استبطن الوادي ثم قال : من ههنا والذي لا إله غيره رأيت الذي أنزلت عليه سورة البقرة يرمي . وأجمعوا على أنه يعيد الرمي إذا لم تقع الحصاة في العقبة وأنه يرمي في كل يوم من أيام التشريق ثلاث جمار بواحد وعشرين حصاة كل جمرة منها بسبع وأنه يجوز أن يرمي منها يومين وينفر في الثالث لقوله تعالى - فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه - وقدرها عندهم أن يكون في مثل حصى الخذف لما روي من حديث جابر وإبن عباس وغيرهم " أن النبي E رمى الجمار بمثل حصى الخذف " والسنة عندهم في رمي الجمرات كل يوم من أيام التشريق أن يرمي الجمرة الأولى فيقف عندها ويدعو وكذلك الثانية ويطيل المقام ثم يرمي الثالثة ولا يقف لما روي في ذلك عن رسول الله A " أنه كان يفعل ذلك في رميه " والتكبير عندهم عند رمي كل جمرة حسن لأنه يروى عنه E .
وأجمعوا على أن من سنة رمي الجمار الثلاث في أيام التشريق أن يكون ذلك بعد الزوال .
واختلفوا إذا رماها قبل الزوال في أيام التشريق فقال جمهور العلماء : من رماها قبل الزوال أعاد رميها بعد الزوال . وروي عن أبي جعفر محمد بن علي أنه قال : رمي الجمار من طلوع الشمس إلى غروبها . وأجمعوا على أن من لم يرم الجمار أيام التشريق حتى تغيب الشمس من آخرها أنه لا يرميها بعد . واختلفوا في الواجب من الكفارة فقال مالك : إن من ترك الجمار كلها أو بعضها أو واحدة منها فعليه دم وقال أبو حنيفة : إن ترك كلها كان عليه دم وإن ترك جمرة واحدة فصاعدا كان عليه لكل جمرة إطعام مسكين نصف صاع حنطة إلى أن يبلغ دما بترك الجميع إلا جمرة العقبة فمن تركها فعليه دم . وقال الشافعي : عليه في الحصاة مد من طعام وفي حصاتين مدان وفي ثلاث دم . وقال الثوري مثله إلا أنه قال في الرابعة الدم . ورخصت طائفة من التابعين في الحصاة الواحدة ولم يروا فيها شيئا والحجة لهم حديث سعد بن أبي وقاص قال " خرجنا مع رسول الله A في حجته فبعضنا يقول : رميت بسبع وبعضنا يقول : رميت بست فلم يعب بعضنا على بعض " وقال أهل الظاهر : لا شيء في ذلك والجمهور على أن جمرة العقبة ليست من أركان الحج . وقال عبد الملك من أصحاب مالك : هي من أركان الحج . فهذه هي جملة أفعال الحج من حين الإحرام إلى أن يحل والتحلل تحللان : تحلل أكبر وهو طواف الإفاضة وتحلل أصغر وهو رمي جمرة العقبة وسنذكر ما في هذا الإختلاف .
القول في الجنس الثالث : .
وهو الذي يتضمن القول في الأحكام وقد نفى القول في حكم الإختلالات التي تقع في الحج وأعظمها في حكم من شرع في الحج فمنعه بمرض أو بعدو أو فاته وقت الفعل الذي هو شرط في صحة الحج أو أفسد حجه بإتيانه بعض المحظورات المفسدة للحج أو للأفعال التي هي تروك أو أفعال فلنبتدئ من هذه بما هو نص في الشريعة وهو حكم المحصر وحكم قاتل الصيد وحكم الحالق رأسه قبل محل الحلق وإلقائه التفث قبل أن يحل وقد يدخل في هذا الباب حكم المتمتع وحكم القارن على القول بأن وجوب الهدي في هذه هو لمكان الرخصة .
القول في الإحصار .
وأما الإحصار فالأصل فيه قوله سبحانه : - فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي - إلى قوله - فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي - فنقول : اختلف العلماء في هذه الآية اختلافا كثيرا وهو السبب في اختلافهم في حكم المحصر بمرض أو بعدو فأول اختلافهم في هذه الآية هل المحصر ههنا هو المحصر بالمرض . فأما من قال : إن المحصر ههنا هو المحصر بالعدو فاحتجوا بقوله تعالى - فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه - قالوا : فلو كان المحصر هو المحصر بمرض لما كان لذكر المرض بعد ذلك فائدة واحتجوا أيضا بقوله سبحانه - فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج - وهذه حجة ظاهرة ومن قال : إن الآية إنما وردت في المحصر بالمرض فإنه زعم أن المحصر هو من أحصر ولا يقال أحصر في العدو وإنما يقال حصره العدو وأحصره المرض قالوا : وإنما ذكر المرض بعد ذلك لأن المرض صنفان : صنف محصر وصنف غير محصر وقالوا معنى قوله - فإذا أمنتم - معناه من المرض . وأما الفريق الأول فقالوا عكس هذا وهو أن أفعل أبدا وفعل في الشيء الواحد إنما يأتي لمعنيين : أما فعل فإذا أوقع بغيره فعلا من الأفعال وأما أفعل فإذا عرضه لوقوع ذلك الفعل به يقال : أقتله إذا فعل به فعل القتل واقتله إذا عرضه للقتل وإذا كان هذا هكذا فأحصر أحق بالعدو وحصر أحق بالمرض لأن العدو إنما عرض للإحصار والمرض فهو فاعل الإحصار . وقالوا لا يطلق الأمن إلا في ارتفاع الخوف من العدو وإن قيل في المرض فباستعارة ولا يصار إلى الإستعارة إلا لأمر يوجب الخروج عن الحقيقة وكذلك ذكر حكم المريض بعد الحصر الظاهر منه أن المحصر غير المريض وهذا هو مذهب الشافعي . والمذهب الثاني مذهب مالك وأبي حنيفة . وقال قوم : بل المحصر ههنا الممنوع من الحج بأي نوع امتنع إما بمرض أو بعدو أو بخطأ في العدد أو بغير ذلك . وجمهور العلماء على أن المحصر عن الحج ضربان : إما محصر بمرض وإما محصر بعدو . فأما المحصر بالعدو فاتفق الجمهور على أنه يحل من عمرته أو حجه حيث أحصر . وقال الثوري والحسن بن صالح لا يتحلل إلا في يوم النحر والذين قالوا : يتحلل حيث أحصر اختلفوا في إيجاب الهدي عليه وفي موضع نحره إذا قيل بوجوبه وفي إعادة ما حصر عنه من حج أو عمرة فذهب مالك إلى أنه لا يجب عليه الإعادة . وذهب أبو حنيفة إلى أنه إن كان أحرم بالحج عليه حجة وعمرة وإن كان قارنا فعليه حج وعمرتان وإن كان معتمرا قضى عمرته وليس عليه عند أبي حنيفة ومحمد بن الحسن تقصير واختار أبو يوسف تقصيره وعمدة مالك في أن لا إعادة عليه " أن رسول الله A حل هو وأصحابه بالحديبية فنحروا الهدي وحلقوا رؤوسهم وحلوا من كل شيء قبل أن يطوف بالبيت وقبل أن يصل إلى الهدي ثم لم يعلم أن رسول الله A أمر أحد من الصحابة ولا ممن كان معه أن يقضي شيئا ولا أن يعود لشيء " وعمدة من أوجب عليه الإعادة " أن رسول الله A اعتمر في العام المقبل من عام الحديبية قضاء لتلك العمرة " ولذلك قيل لها عمرة القضاء . وإجماعهم أيضا علة أن المحصر بمرض أو ما أشبهه عليه القضاء . فسبب الخلاف هو هل قضى رسول الله A أو لم يقض ؟ وهل يثبت القضاء بالقياس أم لا ؟ وذلك أن جمهور العلماء على أن القضاء يجب بأمر ثان غير أمر الأداء . وأما من أوجب عليه الهدي فبناء على أن الآية وردت في المحصر بالعدو أو على أنها عامة لأن الهدي فيها نص وقد احتج هؤلاء بنحر النبي A وأصحابه الهدي عام الحديبية حين أحصروا . وأجاب الفريق الآخر أن ذلك الهدي لم يكن هدي تحلل وإنما كان هديا سيق ابتداء وحجة هؤلاء أن الأصل هو أن لا هدي عليه إلا أن يقوم الدليل . وأما اختلافهم في مكان الهدي عند من أوجبه فالأصل فيه اختلافهم في موضع نحر رسول الله A هديه عام الحديبية فقال ابن إسحاق : نحره في الحرم وقال غيره : إنما نحره في الحل واحتج بقوله تعالى - هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفا أن يبلغ محله - وإنما ذهب أبو حنيفة إلى أن من أحصر عن الحج أن عليه حجا وعمرة لأن المحصر قد فسخ الحج في عمرة ولم يتم واحدا منهما فهذا هو حكم المحصر بعدو عند الفقهاء . وأما المحصر بمرض فإن مذهب الشافعي وأهل الحجاز أنه لا يحله إلا الطواف بالبيت والسعي ما بين الصفا والمروة وأنه بالجملة يتحلل بعمرة لأنه إذا فاته الحج بطول مرضه انقلب عمرة وهو مذهب ابن عمر وعائشة وابن عباس وخالف في ذلك أهل العراق فقالوا : يحل مكانه وحكمه حكم المحصر بعدو أعني أن يرسل هديه ويقدر يوم نحره ويحل في اليوم الثالث وبه قال ابن مسعود .
( يتبع . . . )