خيار الثابت بالشرط .
أما الخيار الثابت بالشرط فنوعان : .
أحدهما : يسمى خيارالتعيين .
و الثاني : خيار الشرط .
أما خيار التعيين فالكلام فيه في جواز البيع الذي فيه خيار التعيين قد ذكرناه في موضعه و إنما الحاجة ههنا إلى بيان حكم هذا البيع و إلى بيان صفة الحكم و إلى بيان ما يبطل به الخيار بعد ثبوته و يلزم .
أما الأول : فحكمه ثبوت الملك للمشتري في أحد المذكورين غير عين و خيار التعيين إليه عرف ذلك بنص كلامهما حيث قال البائع : بعت منك أحد هذين الثوبين أو هذين العبدين أو الدابتين أو غيرهما من الأشياء المتفاوتة على أن تأخذ أيهما شئت و قبل المشتري و هذا يوجب ثبوت الملك للمشتري في أحدهما و ثبوت خيار التعيين له و الآخر يكون ملك البائع أمانة في يده إذا قبضه لأنه قبضه بإذن المالك لا على وجه التمليك و لا على وجه الثبوت فكان أمانة و ليس للمشتري أن يأخذهما جميعا لأن المبيع أحدهما .
و لو هلك أحدهما قبل القبض لا يبطل البيع لأنه يحتمل أن يكون الهالك هو المبيع فيبطل البيع بهلاكه و يحتمل أن يكون غيره فلا يبطل و البيع قد صح بيقين و وقع الشك في بطلانه فلا يبطل بالشك و لكن المشتري بالخيار إن شاء أخذ الباقي بثمنه و إن شاء ترك لأن المبيع قد تغير قبل القبض بالتعيين فيوجب الخيار و كذلك لو كان اشترى أحد الأثواب الثلاثة فهلك واحد منها و بقي اثنان لا يبطل لما قلنا و للمشتري أن يأخذ أيهما شاء لأن المالك إذا لم يعين المبيع كان احد الباقين فكان له أن يأخذ أيهما شاء و له أن يتركهما كما لو اشترى أحدهما من الابتداء .
و لو هلك الكل قبل القبض بطل البيع لأن المبيع قد هلك بيقين فيبطل البيع و الله عز و جل أعلم .
و أما صفة هذا الحكم فهو أن الملك الثابت بهذا البيع قبل الاختيار ملك غير لازم و للمشتري أن يردهما جميعا لأن خيار التعيين يمنع لزوم العقد كخيار العيب و خيار الرؤية فيمنع لزوم الملك فكان محتملا للفسخ و هذا لأن جواز هذا النوع من البيع إنما يثبت بتعامل الناس لحاجتهم إلى ذلك لما بينا فيما تقدم و لا تنعدم حاجتهم إلا بعد اللزوم لأنه عسى لا يوافقه كلاهما جميعا فيحتاج إلى ردهما .
و أما بيان ما يبطل به الخيار و يلزم البيع فنقول و بالله التوفيق : ما يبطل به الخيار و يلزم البيع في الأصل نوعان : اختياري و ضروري و الاختياري نوعان أحدهما صريح الاختيار و ما يجري مجرى الصريح و الثاني الاختيار من طريق الدلالة أما الصريح فهو أن يقول : اخترت هذا الثوب أو شئته أو رضيت به أو اخترته و ما يجري هذا المجرى لأنه لما اختار أحدهما فقد عين ملكه فيه فيسقط خيار التعيين و لزم البيع .
و أما الاختيار من طريق الدلالة فهو ان يوجد منه فعل في أحدهما يدل على تعيين الملك فيه و هو كل تصرف هو دليل اختيار الملك في الشراء بشرط الخيار و سنذكر ذلك في البيع بشرط الخيار إن شاء الله تعالى .
و لو تصرف البائع في أحدهما فتصرفه موقوف إن تعين ما تصرف فيه للبيع لم ينفذ تصرفه لأنه تبين أنه تصرف في ملك غيره و إن تعين ما تصرف فيه للأمانة نفذ تصرفه لأنه ظهر إنه تصرف في ملك نفسه فينفذ الاستبراء .
و اما الضروري فنحو أن يهلك أحدهما بعد القبض قيبطل الخيار لأن الهالك منهما تعين للبيع و لزمه ثمنه و تعين الآخر للأمانة لأن أحدهما مبيع و الآخر أمانة والأمانة منهما مستحق الرد على البائع و قد خرج الهالك عن احتمال الرد فيه فتعين الباقي للرد فتعين الهالك للبيع ضرورة .
و لو هلكا جميعا قبل القبض فلا يخلو إما إن هلكا على التعاقب و إما إن هلكا معا إن هلكا على التعاقب فالأول يهلك مبيعا و الآخر أمانة لما ذكرنا و إن هلكا معا لزمه ثمن نصف كل واحد منهما لأنه ليس أحدهما بالتعيين أولى من الآخر فشاع البيع فيهما جميعا .
و لو هلكا علىالتعاقب لكنهما اختلفا في ترتيب الهلاك فإن كان ثمنها متساويا فلا فائدة في هذا الاختلاف لأن لأيهما هلك أولا فثمن الآخر مثله فلا يفيد الاختلاف و إن كان متفاوتا بأن كان ثمن أحدهما أكثر فادعى البائع هلاك أكثرهما ثمنا و ادعى المشتري هلاك أقلهما ثمنا كان أبو يوسف أولا يقول يتحالفان و أيهما نكل لزمه دعوى صاحبه و إن حلفا جميعا يجعل كأنهما هلكا معا و يلزمه ثمن نصف كل واحد منهما ثم رجع و قال القول قول المشتري مع يمينه و هو قول محمد لأنهما اتفقا على أصل الدين و اختلفا في قدره .
و الأصل أن الاختلاف متى وقع بين صاحب الدين و بين المديون في قدر الدين أو في جنسه أو نوعه أو صفته كان القول قول المديون مع يمينه لأن صاحب الدين يدعي عليه زيادة و هو ينكر فكان ينكر فكان القول قوله مع يمينه لأنه صاحب الدين و أيهما أقام البينة قبلت بينته و سقطت اليمين و إن أقاما البينة فالبينة بينة البائع لأنها تظهر زيادة .
و لو تعيب أحدهما فإن كان قبل القبض لا يتعين المعيب للبيع لأن التعيين لم يوجد لا نصا و لا دلالة و لا ضرورة إلى التعيين أيضا لإمكان الرد و المشتري على خياره و إن شاء أخذ المعيب منهما و إن شاء أخذ الآخر و إن شاء تركهما كما لو لم يتعيب أصلا فإن أخذ المعيب منهما أخذه بجميع ثمنه لأنه تبين أنه هو المبيع من الأصل و كذلك لو تعيبا جميعا فالمشتري على خيار لما قلنا و إن كان بعد القبض تعين المعيب للبيع و لزمه ثمنه و تعين الآخر للأمانة كما إذا هلك أحدهما بعد القبض لأن تعيب المبيع هلاك بعضه فلهذا منع الرد و لزم البيع في المبيع المعين فكذا في غير المعين يمنع الرد و تعين المبيع .
و لو تعيبا جميعا فإن كان على التعاقب تعين الأول للبيع و لزمه ثمنه و يرد الآخر لما قلنا و لا يغرم بحدوث العيب شيئا لما قلنا إنه أمانة و إن تعيبا معا لا يتعين أحدهما للبيع لأنه ليس أحدهما بالتعيين أولى من الآخر و للمشتري أن يأخذ أيهما شاء بثمنه لأنه إذا لم يتعين أحدهما للبيع بقي المشتري على خياره إلا أنه ليس له أن يردهما جميعا لأن البيع قد لزم في أحدهما بتعيينهما في يد المشتري و بطل خيار الشرط .
و هذا يؤيد قول من يقول من المشايخ : إن هذا البيع فيه خياران : خيار التعيين و خيار الشرط و لا بد له من رتبة معلومة إذ لو لم يكن لملك ردهما جميعا كما لو لم يتعيب أحدهما أصلا لكنه لم يملك لأن ردهما جميعا قبل التعييب ثبت حكما لخيار الشرط و قد بطل خيار الشرط بعد تعينهما معا فلم يملك ردهما و بقي خيار التعيين فيملك رد أحدهما .
و لو ازداد عيب أحدهما أو حدث معه غيره لزمه ذلك لأن عدم التعيين للمزاحمة و قد بطلت بزيادة عيب أحدهما أو حدوث عيب آخر معه و لا يبطل هذا الخيار بموت المشتري بل يورث بخلاف خيار الشرط لأن خيار التعيين إنما يثبت للمورث لثبوت الملك له في أحدهما غير عين و قد قام الوارث مقامه في ذلك الملك فله أن يختار أيهما شاء دون الآخر إلا أنه ليس له أن يردهما جميعا و قد كان للمورث ذلك و هذا يؤيد قول أولئك المشايخ أنه لا بد من خيارين في هذا البيع و قد بطل أحدهما و هو خيار الشرط بالموت لأنه لا يورث على أصل أصحابنا فبطل الحكم المختص به و هو ولاية ردهما جميعا .
هذا إذا اشترى أحدهما شراء صحيحا فأما إذا اشترى أحدهما شراء فاسدا بان قال البائع بعت منك أحد هذين العبدين بكذا و لم يذكر الخيار أصلا فإن المشتري لا يملك واحدا منهما قبل القبض لأن البيع الفاسد لا يفيد الملك قبل القبض فإن قبضهما ملك أحدهما ملكا فاسدا و أيهما هلك لزمته قيمته لأنه تعين للبيع و البيع الفاسد يوجب الملك بالقيمة .
و لو هلكا فإن كان على التعاقب لزمته قيمة الهالك الول لأنه تعين للبيع و إنه بيع فاسد فيفيد المالك بالقيمة و لو هلكا معا لزمه نصف قيمة كل واحد منهما لأنه ليس أحدهما بتعيينه للبيع أولى من الآخر فشاع البيع فيهما و لو تعيب أحدهما فعليه أن يردهما جميعا أما غير المعيب فلأنه أمانة و أما المعيب فلأنه تعين للبيع و المشترى شراء فاسدا واجب الرد فيردهما و يرد معهما نصف نقصان العيب لأن المتعيب يحتمل أن يكون هو المبيع فيجب نقصان العيب و يحتمل أن يكون هو الأمانة فلا يجب شيء و لا دلالة على التعيين فيتنصف الواجب و لو تعيب الآخر بعد ذلك .
و كذا الجواب في نقصان الآخر لأن أحدهما أمانة و الآخر مضمون بالقيمة و لو تعيبا معا فكذلك يردهما مع نصف نقصان كل واحد منهما لأن أحدهما ليس بأولى من الآخر في التعيين للبيع .
و لو تصرف المشتري في أحدهما يجوز تصرفه فيه و لزمته قيمته و لا يجوز تصرفه في الآخر بعد ذلك لأن المتصرف فيه تعين للبيع .
و لو تصرف البائع في أحدهما فتصرفه موقوف إن رد ذلك عليه نفذ تصرفه فيه لأنه تبين أنه تصرف في ملك نفسه و إن لم يرد عليه و تصرف فيه المشتري نفذ فيه و لزمته قيمته و بطل تصرف البائع فيه و كذلك إذا هلك في يد المشتري و الأصل أن في كل موضع يلزم المشتري الثمن في البيع الصحيح تلزمه القيمة في البيع الفاسد و الله عز و جل أعلم .
هذا إذا كان الخيار للمشتري أما إذا كان الخيار للبائع فلا يزول أحدهما عن ملكه بنفس البيع و له أن يلزم المشتري أي ثوب شاء قبضه للخيار و ليس للمشتري خيار الترك لأن البيع بات في جانبه و للبائع أن يفسخ البيع لأنه غير لازم و ليس للبائع أن يلزمهما المشتري لأن المبيع أحدهما و لو هلك أحدهما قبل القبض لا يبطل البيع و يهلك أمانة لما ذكرنا في خيار المشتري و خيار البائع على حاله إن شاء ألزم المشتري الباقي منهما لأنه تعين للبيع و إن شاء فسخ البيع فيه لأنه غير لازم و ليس له أن يلزمه الهالك لأنه هلك أمانة .
و إن هلكا جميعا قبل القبض بطل البيع بهلاك المبيع قبل القبض بيقين و إن هلك أحدهما بعد القبض كان الهالك أمانة أيضا كما لو هلك قبل القبض و ألزمه الباقي منهما إن شاء و إن شاء فسخ البيع فيه لأن خيار البائع يمنع زوال السلعة عن ملكه فيهلك على ملك البائع و له الخيار لما قلنا و إن هلكا جميعا فإن كان هلاكهما على التعاقب فالأول يهلك أمانة و عليه قيمة آخرهما هلاكا لأنه تعين للبيع و إنه مبيع هلك في يد المشتري و فيه خيار للبائع فتجب قيمته و إن هلكا معا لزمه نصف قيمة كل واحد منهما لأنه ليس أحدهما بالتعيين أولى من الآخر .
و لو تعيب أحدهما او تعيبا معا قبل القبض أو بعده فخيار البائع على حاله لأن المعيب لم يتعين للبيع لانعدام المعين فكان البائع على خياره له أن يلزم المشتري أيهما شاء كما قبل التعيب .
ثم إذا لزمه أحدهما ينظر إن كان ذلك غير المتعيب منهما لزمه ما لزمه و لا خيار للمشتري في تركه لانعدام التعين فيه و إن كان ما يلزمه هو المتعيب فإن تعيب قبل القبض فالمشتري بالخيار لأن المبيع تغير قبل القبض و تغير المبيع قبل القبض يوجب الخيار للمشتري و إن تعيب بعد القبض فلا خيار له لأن التعين بعد القبض لا يثبت الخيار إن شاء البائع فسخ البيع و استردهما لأن البيع غير لازم فله ولاية الفسخ ثم ينظر إن كان تعيبهما في يد البائع فلا شيء له لأنهما تعيبا لا في ضمان المشتري و إن كان تعيبهما في يد المشتري فللبائع أن يأخذ من المشتري نصف نقصان كل واحد منهما لأن أحدهما مضمون عنده بالقيمة و الآخر عنده أمانة و لا يعلم أحدهما من الآخر و لا يجوز للمشتري أن يتصرف فيهما أو في أحدهما لأن أحدهما ليس بمبيع بيقين و الآخر مبيع لكن لبائعه فيه خيار و خيار البائع يمنع زوال المبيع عن ملكه .
و لو تصرف البائع في أحدهما جاز تصرفه فيه و يتعين الآخر للبيع و له خيار الإلزام فيه و الفسخ و لو تصرف فيهما جميعا جاز تصرفه فيهما و يكون فسخا للبيع لأن تصرفه فيهما دليل إقرار الملك فيهما فيضمن فسخ البيع كما في المبيع المعين و الله أعلم .
و أما خيار الشرط فالكلام في جواز البيع بشرط الخيار و شرائه قد مر في موضعه و إنما الحاجة ههنا إلى بيان صفة هذا البيع و إلى بيان حكمه و إلى بيان ما يسقط به الخيار و يلزم البيع و إلى بيان ما ينفسخ به البيع .
أما صفته فهي : أنه بيع غير لازم لأن الخيار يمنع لزوم الصفقة قال سيدنا عمر Bه : ( البيع صفقة أو خيار ) و لأن الخيار هو التخيير بين البيع و الإجازة و هذا يمنع اللزوم كخيار العيب و خيار الرؤية .
ثم الخيار كما يمنع لزوم الصفقة فعدم القبض يمنع تمام الصفقة لأن الثابت بنفس البيع ملك غير متأكد و إنما التأكد بالقبض و على هذا يخرج ما إذا كان المبيع شيئا واحدا أو أشياء أنه ليس لمن له الخيار أن يجيز البيع في البعض دون البعض من غير رضا الآخر سواء كان الخيار للبائع أو للمشتري و سواء كان البيع مقبوضا أو غير مقبوض لأن الإجازة في البعض دون البعض تفريق الصفقة في اللزوم و كما لا يجوز تفريق أصل الصفقة و هو الإيجاب و القبول إلا برضا العاقدين بأن يقبل البيع في بعض المبيع دون البعض بعد إضافة الإيجاب و القبول إلى الجملة و يوجب البيع بعد إضافة القبول إلى جملته لا يجوز في وصفها و هو أن يلزم البيع في البعض دون البعض إلا برضاهما و لو هلك أحد العبدين في يد البائع و الخيار له لم يكن له ان يجيز البيع في الباقي إلا برضا المشتري لأن البيع انفسخ في قدر الهالك فالإجازة في الباقي تكون تفريق الصفقة على المشتري فلا يجوز من غير رضاه .
و لو هلك أحدهما في يد المشتري فللبائع أن يجيز البيع في الباقي في قياس قول أبي حنيفة و أبي يوسف رحمهما الله .
و قال محمد C : ينتقض البيع و ليس له أن يجيز البيع في الباقي و إن كان المبيع بما له مثل من المكيل و الموزون و العددي المتقارب فهلك بعضه فللبائع أن يجيز البيع في الباقي بلا خلاف .
وجه قول محمد : أن الإجازة ههنا بمنزلة إنشاء التمليك لأن خيار البائع يمنع خروج المبيع عن ملكه فكان للإجارة حكم الإنشاء و الهالك منهما خرج عن احتمال الإنشاء و الإنشاء في الباقي تمليك بحصته من الثمن و هي مجهولة فيما لا مثل له فلم يحتمل الإنشاء و فيما له مثل معلومة فاحتمل الإنشاء .
وجه قولهما : أن هذه الإجازة تظهر أن العقد من حين وجوده انعقد في حق الحكم فلم يكن الهلاك مانعا من الإجازة و قوله الإجازة ههنا إنشاء قلنا ممنوع فإن العقد ينعقد في حق الحكم بدون الإجازة من انقضاء المدة و يموت من له الخيار و لو كانت الإجازة إنشاء لتوقف حكم العقد على وجودها و هذا بخلاف بيع الفضولي إذا هلك المبيع قبل الإجازة ثم أجازه المالك لم يجز و ههنا جاز فهلاك المبيع في بيع الفضولي يمنع من الإجازة و ههنا لا يمنع .
وجه الفرق : أن بيع الفضولي يثبت بطريق الاستناد و المستند ظاهر من وجه مقتصر من وجه فكانت الإجازة إظهارا من وجه إنشاء فمن حيث إنها إظهارا كان لا يقف صحته على قيام المحل و من حيث إنهاء إنشاء يقف عليه .
فأما البيع بشرط الخيار فالحكم يثبت عند الإجازة بطريق الظهور المحض فكانت الإجازة إظهارا أن العقد من وقت وجوده انعقد في حق الحكم و المحل كان قابلا وقت العقد فهلاكه بعد ذلك لا يمنع من الإجازة و الله أعلم .
و على هذا يخرج قول أبي حنيفة في رجلين اشتريا شيئا على أنهما بالخيار فيه ثلاثة أيام فاختار أنه يلزم البيع حتى لا يملك الآخر الفسخ احترازا عن تفريق الصفقة في اللزوم و سنذكر المسألة في خيار العيب إن شاء الله تعالى .
و أما حكم هذا البيع فقد اختلف العلماء فيه قال أصحابنا : لا حكم للحال و الخيار يمنع انعقاد العقد في الحكم للحال لمن له الخيار بل هو للحال موقوف على معنى أنه لا يعرف حكمه للحال و إنما يعرف عند سقوط الخيار لأنه لا يدرى أنه يتصل به الفسخ أو الإجازة فيتوقف في الجواب للحال و هذا تفسير التوقف عندنا و قال الشافعي C : في قول مثل قولنا و في قول هو منعقد مفيد للتملك لكن ملكا مسلطا على فسخه بالخيار .
وجه قوله : أن البيع بشرط الخيار لا يفارق البيع البات إلا في الخيار و الخيار لا يمنع ثبوت الملك كخيار العيب بالإجماع و خيار الرؤية على أصلكم .
و لنا : أن جواز هذا البيع مع أنه معدول به عن القياس للحاجة إلى دفع الغبن و لا اندفاع لهذه الحاجة إلا بامتناع ثبوت الملك للحال لأن من الجائز أن يكون المشترى قريب المشتري فلو ملكه للحال لعتق عليه للحال فلا تندفع حاجته ثم الخيار لا يخلو إما إن كان للبائع و المشتري جميعا و إما إن كان للبائع وحده و إما إن كان للمشتري وحده و إما إن كان لغيرهما بأن شرط أحدهما الخيار لثالث فإن كان الخيار لهما فلا ينعقد في حق الحكم في البدلين جميعا فلا يزول المبيع عن ملك البائع و لا يدخل في ملك المشتري .
و كذا لا يزول الثمن عن ملك المشتري و لا يدخل في ملك البائع لأن المانع من الانعقاد في حق الحكم موجود في الجانبين جميعا و هو الخيار و إن كان البائع وحده فلا ينعقد في الحكم في حقه حتى لا يزول المبيع عن ملكه و لا يجوز للمشتري أن يتصرف فيه و يخرج الثمن عن ملك المشتري لأن البيع بات في حقه و هل يدخل في ملك البائع ؟ عند أبي حنيفة لا يدخل و عند أبي يوسف و محمد يدخل و إن كان للمشتري وحده لا ينعقد في حق الحكم في حقه حتى لا يزول الثمن عن ملكه .
و لا يجوز للبائع أن يتصرف فيه إذا كان عينا و لا يستحقه على المشتري إذا كان دينا و يخرج المبيع عن ملك البائع حتى لا يجوز له التصرف فيه لأن البيع بات في حقه و هل يدخل في ملك المشتري ؟ عند أبي حنيفة لا يدخل و عندهما يدخل .
وجه قولهما : أن ثبوت الحكم عند وجود المستدعي هو الأصل و الامتناع بعارض و المانع ههنا هو الخيار و أنه وجد في أحد الجانبين لا غير فيعمل في المنع فيه لا في الجانب الآخر ألا ترى كيف خرج المبيع عن ملك البائع إذا كان الخيار للمشتري و الثمن عن ملك المشتري إذا كان الخيار للبائع فدل أن البيع بات في حق من لا خيار له فيعمل في بتات هذا الحكم الذي وضع له .
وجه قول أبي حنيفة C : أن الخيار إذا كان للبائع فالمبيع لم يخرج عن ملكه و إذا كان للمشتري فالثمن لم يخرج عن ملكه و هذا يمنع دخول الثمن في ملك البائع في الأول و دخول المبيع في ملك المشتري لوجهين : .
أحدهما : أنه جمع بين البدل و المبدل في عقد المبادلة و هذا لا يجوز .
و الثاني : أن في هذا ترك التسوية بين العاقدين في حكم المعاوضة و هذا لا يجوز لأنهما لا يرضيان بالتفاوت .
و قولهما : البيع بات في حق من لا خيار له قلنا : هذا يوجب البتات في حق الزوال لا في حق الثبوت لأن الخيار من أحد الجانبين له أثر في المنع من الزوال و امتناع الزوال من أحد الجانبين يمنع الثبوت من الجانب الآخر إن كان لا يمنع الزوال لما ذكرنا من الوجهين و يتفرغ على هذا الأصل بين أبي حنيفة و صاحبيه مسائل .
منها : إذا اشترى ذا رحم محرم منه على أنه بالخيار ثلاثة أيام لا يعتق عليه عند أبي حنيفة C لأنه لم يدخل في ملكه عنده و لا عتق بدون الملك و هو على خياره إن شاء فسخ البيع و إن شاء أجازه فإن فسخ لا يعتق لأن العبد عاد إلى ملك البائع و إن أجازه عتق لأنه سقط الخيار و لزم العقد فيلزمه الثمن و عندهما يعتق عليه بنفس الشراء و يلزمه الثمن و يبطل خياره لأنه دخل في ملكه و لو قال لعبد الغير : إن اشتريتك فأنت حر فاشتراه على أنه بالخيار ثلاثة أيام عتق عليه الإجماع .
أما عندهما : فظاهر لأنه ملكه بنفس الشراء فوجد شرط الحنث فعتق و أما عند أبي حنيفة فلأن المعلق بالشرط كالمنجز عند وجود الشرط و لو نجز عتقه بعد شرائه بشرط الخيار عتق و سقط خياره لكون الإعتاق إجازة و اختيار للملك على ما نذكر كذا هذا و الله عز و جل أعلم .
و منها : إذا اشترى جارية قد ولدت منه بالنكاح على أنه بالخيار ثلاثة أيام لا تصير أم ولد له عند أبي حنيفة لأنها لم تدخل في ملكه و هو على خياره إن شاء فسخ البيع و عادت إلى ملك البائع و إن شاء أجازه و صارت أم ولد له و لزمه الثمن و عندهما صارت أم ولده بنفس الشراء لأنها دخلت في ملكه فبطل خياره و لزمه الثمن .
و منها : إذا اشترى زوجته بشرط الخيار ثلاثة أيام لا يفسد النكاح عند أبي حنيفة لأنها لم تدخل في ملكه عنده و عندهما فسد لدخولها و ملك أحد الزوجين رقبة صاحبه أو شقصا منها يرفع النكاح فإن وطئها في مدة الخيار فإن كانت بكرا كان إجازة بالإجماع .
أما عند أبي حنيفة : فلأجل النقصان بإزالة البكارة و هي العذرة لا لأجل الوطء لأن ملك النكاح قائم فكان حل الوطء قائما فلا حاجة إلى ملك اليمين و أما عندهما فلأجل النقصان و الوطء جميعا فإن كانت ثيبا لا يبطل خياره عند أبي حنيفة لأن بطلانه الخيار لضرورة حل الوطء و لا ضرورة لأن ملك النكاح قائم فكان حل الوطء ثابتا فلا ضرورة إلى ملك اليمين بحل الوطء فلم يبطل الخيار و عندهما يبطل خياره لضرورة حل الوطء بملك اليمين لارتفاع النكاح بنفس الشراء بخلاف ما إذا لم تكن الجارية زوجة له وطئها أنه يكون إجازة سواء كانت بكرا أو ثيبا لأن حل الوطء هناك لا يثبت إلا بملك اليمين لانعدام النكاح فكان إقدامه على الوطء اختيارا للملك فيبطل الخيار .
و منها : إذا اشترى جارية على أنه بالخيار ثلاثة أيام و قبضها فحاضت عنده في مدة الخيار حيضة كاملة أو بعض حيضة في مدة الخيار فاختار البيع لا تجزي تلك الحيضة في الاستبراء عند أبي حنيفة و عليه أن يستبرئها بحيضة أخرى لأنها لم تدخل في ملكه عنده و لم يوجد سبب وجوب الاستبراء و عندهما يحتسب بها لأنها دخلت في ملكه فكانت الحيضة بعد وجود سبب وجوب الاستبراء فكانت محسوبة منه .
و لو اختار فسخ البيع ورد الجارية فلا استبراء على البائع عند أبي حنيفة سواء كان الرد قبل القبض أو بعده و عندهما قبل القبض القياس أن يجب و في الاستحسان لا يجب و بعد القبض يجب قياسا و استحسانا على ما ذكرنا في مسائل الاستبراء .
و إن كان الخيار للبائع ففسخ العقد لا يجب عليه الاستبراء لأنها لم تخرج عن ملكه و إن أجازه فعلى المشتري أن يستبرئها بعد الإجازة و القبض بحيضة أخرى بالإجماع لأنه ملكها بعد الإجازة و بعد القبض ملكا مطلقا .
ومنها : إذا اشترى شيئا بعينه على أنه بالخيار ثلاثة أيام فقبضه بإذن البائع ثم اودعه البائع في مدة الخيار فهلك في مدة الخيار أو بعدها يهلك على البائع و يبطل البيع عند أبي حنيفة لأنه لم يدخل في ملك المشتري و لما دخل رده على البائع فقد ارتفع قبضه فهلك المبيع قبل القبض و عندهما يهلك على المشتري و يلزمه الثمن لأنه دخل في ملكه ـ أعني المشتري ـ فقد أودع ملك نفسه و يد المودع يده فهلاكه في يده كهلاكه في يد نفسه و لو كان الخيار للبائع فسلمه إلى المشتري ثم إن المشتري أودعه البائع في مدة الخيار فهلك في يد البائع قبل جواز البيع أو بعده بطل البيع بالإجماع و لو كان البيع باتا فقبضه المشتري بإذن البائع أو بغير إذنه و الثمن منقود أو مؤجل و له خيار رؤية أو عيب فأودعه البائع فهلك عند البائع يهلك على المشتري و يلزمه الثمن بالإجماع لأن خيار الرؤية و العيب لا يمنع انعقاد العقد في حق الحكم فكان مودعا ملك نفسه و الله عز و جل أعلم