ربا النسيئة .
و أما ربا النساء و فروعه و فائدة الاختلاف فيه فالأصل فيه ما روي عن إبراهيم النخعي أنه قال : أسلم ما يكال فيما يوزن و أسلم ما يوزن فيما يكال و لا تسلم ما يكال فيما يكال و لا ما يوزن فيما يوزن و إذا اختلف النوعان مما يكال أو يوزن فلا بأس به اثنان بواحد يدا بيد و لا خير فيه نسيئة و لا بد من شرح هذه الجملة و تفصيل ما يحتاج منها إلى التفصيل لأنه C أجرى القضية فيها عامة و منها : ما يحتمل العموم و منها : ما لا يحتمل فلا بد من بيان ذلك فنقول و بالله التوفيق : لا يجوز إسلام المكيلات في المكيلات على العموم سواء كانا مطعومين كالحنطة في الحنطة أو في الشعير أو غير مطعومين كالجص في الجص أو في النورة .
و كذلك بيع المكيل بالمكيل حالا سلما لكن دينا موصوفا في الذمة لا يجوز سواء كانا من جنس واحد أو من جنسين مطعومين كانا أو غير مطعومين عندنا لأن أحد وصفي علة ربا الفضل جمعهما و هو الكيل و عند الشافعي C إن كانا مطعومين فكذلك و إن لم يكونا مطعومين جاز لأن العلة عنده الطعم .
و أما إسلام الموزونات في الموزونات ففيه تفصيل : إن كانا جميعا مما يتعينان في العقد لا يجوز أيضا سواء كانا مطعومين كالسكر في الزعفران أو غير مطعومين كالحديد في النحاس لوجود أحد وصفي علة ربا الفضل الذي هو علة تامة لربا النساء .
و عند الشافعي : يجوز في غير المطعوم و لا يجوز في المطعوم لما قلنا و إن كانا مما لا يتعينان في العقد كالدراهم في الدنانير و الدنانير في الدراهم أو الدراهم في الدراهم و الدنانير في الدنانير أو لا يتعين المسلم فيه كالحديد في الدراهم و الدنانير لا يجوز لأن المسلم فيه مبيع لما روي أن رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ نهى عن بيع ما ليس عند الإنسان و رخص في السلم ] فهذا يقتضي أن يكون السلم بيع ما ليس عند الإنسان لأنه رخص في بعض ما دخل تحت النهي و الداخل تحت النهي هو البيع دل السلم نوع بيع ليستقيم إثبات الرخصة فيه فكان المسلم فيه مبيعا و المبيع مما يتعين بالتعيين و الدراهم و الدنانير لا يحتملان التعيين شرعا في عقود المعاوضات فلم يكونا متعينين فلا يصلحان مسلما فيهما .
و إن كان رأس المال مما لايتعين و المسلم فيه ما يتعين كما لو أسلم الدراهم أو الدنانير في الزعفران أو في القطن أو الحديد و غيرها من سائر الموزونات فإنه يجوز لانعدام العلة و هي القدر المتفق أو الجنس .
أما المجانسة فظاهرة الانتفاء و أما القدر المتفق فلأن وزن الثمن يخالف وزن المثمن ألا ترى أن الدراهم توزن بالمثاقيل و القطن و الحديد يوزنان بالقبان فلم يتفق القدر فلم توجد العلة فلا يتحقق الربا .
هذا إذا أسلم الدراهم أو الدنانير في سائر الموزونات فأما إذا أسلم نقرة فضة أو تبر ذهب أو المصوغ فيها فهل يجوز ؟ .
ذكر الاختلاف بين أبي يوسف و زفر على قول أبي يوسف : يجوز و على قول زفر : لا يجوز .
وجه قول زفر : أنه وجد علة ربا النساء و هي أحد وصفي علة ربا الفضل و هو الوزن في المالين فيتحقق الربا .
وجه قول أبي يوسف : أن أحد الوصفين الذي هو علة القدر المتفق لا مطلق القدر و لم يوجد لأن النقرة أو التبر من جنس الأثمان و أصل الأثمان و وزن الثمن يخالف وزن المثمن على ما ذكرنا فلم يتفق القدر فلم توجد العلة فلا يتحقق الربا كما إذا أسلم فيها الدراهم و الدنانير .
و لو أسلم فيها الفلوس جاز لأن الفلس عددي و العدد في العدديات ليس من أوصاف العلة و لو أسلم فيها الأواني الصفرية ينظر إن كانت تباع وزنا لوجود الوزن الذي هو أحد وصفي علة ربا الفضل و إن كانت تباع عددية جاز عددية جاز لانعدام العلة .
و اما إسلام المكيلات في الموزونات فهو أيضا على التفصيل فإن كان الموزون مما يتعين بالتعيين يجوز سواء كانا مطعومين كالحنطة في الزيت أو الزعفران أو غير مطعومين كالجص في الحديد عندنا لعدم العلة و عند الشافعي لا يجوز في المطعومين لوجود العلة و إن كان مما لا يتعين بالتعيين و هو الدراهم و الدنانير لا يجوز لما مر أن شرط جواز السلم أن يكون المسلم فيه مبيعا و الدراهم و الدنانير أثمان أبدا بخلاف سائر الموزونات .
ثم إذا لم يجز هذا العقد سلما هل يجوز بيعا ؟ ينظر إن كان بلفظ البيع يجوز و يكون بيعا بثمن مؤجل لأنه إن تعذر تصحيحه أمكن تصحيحه سلما بيعا بثمن مؤجل فيجعل بيعا به و إن كان بلفظ السلم اختلف المشايخ فيه : قال بعضهم : لا يجوز لأن السلم يخالف مطلق البيع في الأحكام و الشرائط فإذا لم يصح سلما بطل رأسا .
و قال بعضهم : يجوز لأن السلم نوع بيع ألا ترى أن النبي عليه الصلاة و السلام سماه بيعا حين [ نهى عن بيع ما ليس عند الإنسان و رخص في السلم ] و لهذا ينعقد بلفظ البيع إلا أنه اختص بشرائط مخصوصة فإذا تعذر تصحيحه بيعا هو سلم يصحح بيعا بثمن مؤجل تصحيحا للتصرف بالقدر الممكن و أما إسلام الموزونات في المكيلات فجائز على العموم سواء كان الموزون الذي جعله رأس المال عرضا يتعين بالتعيين أو ثمنا لا يتعين بالتعيين و هو الدراهم و الدنانير لأنه لم يجمعها أحد الوصفين و هو القدر المتفق أو الجنس فلم توجد العلة و لو أسلم جنسا في جنسه و غير جنسه كما إذا أسلم مكيلا و موزون لم يجز السلم في جميعه عند أبي حنيفة C و عند أبي يوسف محمد رحمهما الله يجوز في حصة خلاف الجنس و هو الموزون و هو على اختلاف فيما جمع بين حر و عبد و باعها صفقة واحدة و قد ذكرناه فيما تقدم .
و أما إسلام غير المكيل و الموزون في جنسه من الذرعيات و العدديات كالهروي في المروي و المروي في المروي و الحيوان في الحيوان فلا يجوز عندنا و عند الشافعي C يجوز .
و لقب هذه المسألة أن الجنس بانفراده يحرم النساء عندنا و عنده لا يحرم فلا يجوز إسلام الجوز في الجوز و البيض في البيض و التفاح في التفاح و الحفنة في الحفنة بالإجماع لوجود الجنس عندنا و لوجود الطعم عنده و أجمعوا على أنه يجوز إسلام الهروي في المروي لانعدام أحد الوصفين عندنا و عنده لانعدام الطعم و الثمينة و يجوز إسلام الجوز في البيض و التفاح في السفرجل و الحيوان في الثوب عندنا لما قلنا و عنده : لا يجوز في المطعوم لوجود الطعم .
و لو أسلم الفلوس في الفلوس لا يجوز عندنا لوجود الجنس و عنده لوجود الثمينة و كذا إذا أسلم الأواني الصفرية في جنسها و هي تباع عددا لا يجوز عندنا لوجود المجانسة و عنده لوجود الثمينة و الكلام في مسألة الجنس بانفراده مبني على الكلام في مسألة الربا .
و أصل الشافعي فيها ما ذكرنا : أن حرمة بيع المطعوم بجنسه و حرمة بيع الأثمان بجنسها هي الأصل و التساوي في المعيار الشرعي مع اليد مخلص عن الحرمة بطريق الرخصة أو ربا النساء عنده هو فضل الحلول على الأجل في المطعومات و الثمينة في الأثمان و قد ذكرنا ما له من الدليل على صحة هذا الأصل فيما تقدم و الكلام لأصحابنا في هذه المسألة على نحو ما ذكرنا في علة ربا الفضل و هو أن السلم في المطعومات و الأثمان إنما كان ربا لكونه فضلا خاليا عن العوض يمكن التحرز عنه في عقد المعاوضة لأن البيع عقد مبادلة على طريق المقابلة و المساواة في البدلين و لهذا لو كانا نقدين يجوز و لا مساواة بين النقد و النسيئة لأن العين خير من الدين و المعجل أكثر قيمة من المؤجل فكان ينبغي أن يكون كل فضل مشروط في البيع ربا سواء كان الفضل من حيث الذات أو من حيث الأوصاف إلا ما لا يمكن التحرز عنه دفعا للحرج و فضل التعيين يمكن التحرز عنه بأن يبيع عينا بعين و حالا غير مؤجل و هذا المعنى موجود في غير المطعوم و الأثمان فورود الشرع ثمة يكون ورودا ههنا دلالة و ابتداء الدليل لنا في المسألة ما روي عن النبي عليه الصلاة و السلام أنه قال : [ لا ربا إلا في النسيئة ] .
و روي [ إنما الربا في النسيئة ] حقق عليه الصلاة و السلام الربا في النسيئة من غير فصل بين المطعوم و الأثمان و غيرها فيجب القول بتحقيق الربا فيها على الإطلاق و العموم إلا ما خص أو قيد بدليل و الربا حرام بنص الكتاب العزيز و إذا كان الجنس أحد وصفي علة ربا الفضل و علة ربا النسيئة عندنا و شرط علة ربا الفضل عنده فلا بد من معرفة الجنس من كل ما يجري فيه الربا فنقول و بالله التوفيق : الحنطة كلها على اختلاف أنواعها و اوصافها و بلدانها جنس واحد و كذلك الشعير و كذلك دقيقهما و كذا سويقهما .
و كذلك التمر و كذلك الملح و كذلك العنب و كذلك الزبيب و كذلك الذهب و الفضة فلا يجوز بيع كل مكيل من ذلك بجنسه متفاضلا في الكيل و إن تساويا في النوع و الصفة بلا خلاف .
و أما متساويا في الكيل متفاضلا في النوع و الصفة فنقول : لا خلاف في انه يجوز بيع الحنطة بالحنطة و السقية بالسقية و النحسية بالنحسية و إحداهما بالأخرى و الجيدة بالجيدة و الرديئة بالرديئة و إحداهما بالأخرى و الجديدة بالجديدة و العتيقة بالعتيقة و إحداهما بالأخرى و المقلوة بالمقلوة .
و كذلك الشعير على هذا و كذلك دقيق الحنطة و دقيق الشعير فيجوز بيع دقيق الحنطة بدقيق الحنطة و سويق الحنطة بسويق الحنطة و كذا دقيق الشعير و سويقه و كذا التمر بالتمر البرني بالمعقلي و الجيد بالرديء و الجديد بالجديد و العتيق بالعتيق و أحدهما بالآخر .
و كذلك العنب بالعنب و الزبيب بالزبيب اليابس و لا خلاف في أنه لا يجوز بيع حنطة مقلية بحنطة غير مقلية و المطبوخة بغير المطبوخة و بيع الحنطة بدقيق الحنطة و بسويق الحنطة و بيع تمر مطبوخ متفاضلا في الكيل أو متساويا فيه لأن المقلية ينضم بعض أجزائها إلى بعض يعرف ذلك بالتجربة فيتحقق الفضل من حيث القدر في الكيل فيتحقق الربا و كذا المطبوخة بغير المطبوخة لأن المطبوخ ينتفخ بالطبخ فكان غير المطبوخة أكثر قدرا عند العقد فيتحقق الفضل .
و كذلك بيع الحنطة بدقيق الحنطة لأن في الحنطة دقيقا إلا أنه مجتمع لوجود المانع من التفرق وهو التركيب و ذلك أكثر من الدقيق المتفرق عرف ذلك بالتجربة إلا أن الحنطة إذا طحنت ازداد دقيقها على المتفرق و معلوم أن الطحن لا أثر له في زيادة القدر فدل أنه كان أزيد في الحنطة فيتحقق الفضل من حيث القدر بالتجربة عند العقد فيتحقق الربا و أما بيع الحنطة المبلولة أو الندية بالندية أو الرطبة بالرطبة أو المبلولة بالمبلولة أو اليابسة باليابسة و بيع التمر بالرطب و الرطب بالرطب أو التمر و المنقع بالمنقع و العنب بالزبيب اليابس و اليابس بالمنقع و المنقع بالمنقع متساويا في الكيل فهل يجوز ؟ قال أبو حنيفة C : كل ذلك جائز ول أبو يوسف C : كله جائز إلا بيع التمر بالرطب و قال محمد C : كله فاسد إلا بيع الرطب بالرطب و العنب بالعنب و قال الشافعي C : كله باطل .
و يجوز بيع الكفري بالتمر و الرطب بالبسر متساويا و متفاضلا بالإجماع لعدم الجنس و الكيل إذ هو اسم لوعاء الطلع فأبو حنيفة C يعتبر المساواة في الحال عند العقد و لا يلتفت إلى النقصان في المآل و محمد C يعتبرها حالا و مآلا و اعتبار أبي يوسف مثل اعتبار أبي حنيفة إلا في الرطب بالتمر فإنه يفسده بالنص .
و أصل الشافعي C ما ذكرنا في مسألة علة الربا أن حرمة بيع المطعوم بجنسه هي الأصل و التساوي في المعيار الشرعي مع اليد مخلص إلا أنه يعتبر التساوي ههنا في المعيار الشرعي في أعدل الأحوال و هي حالة الجفاف