أحكام المياه .
و لو اختلط الماء المستعمل بالماء القليل قال بعضهم : لا يجوز التوضأ به و إن قل و هذا فاسد أما عند محمد فلأنه طاهر لم يغلب على الماء المطلق فلا يغيره عن صفة الطهورية كاللبن و أما عندهما : فلأن القليل مما لا يمكن التحرز عنه يجعل عفوا و لهذا قال ابن عباس Bه حين سئل عن القليل منه لا بأس به و سئل الحسن البصري عن القليل فقال : و من يملك نشر الماء و هو ما تطاير منه عند الوضوء و انتشر أشار إلى تعذر التحرز عن القليل فكان القليل عفوا و لا تعذر في الكثير فلا يكون عفوا .
ثم الكثير عند محمد ما يغلب على الماء المطلق و عندهما : أن يتبين مواقع القطرة في الإناء .
و أما بيان حال الاستعمال و تفسير الماء المستعمل فقال بعض مشايخنا ت الماء المستعمل ما زايل البدن و استقر في مكان .
و ذكر في الفتاوى أن الماء إذا زال عن البدن لا ينجس ما لم يستقر على الأرض أو في الإناء و هذا مذهب سفيان الثوري و أما عندنا فما دام على العضو الذي استعمله فيه لا يكون مستعملا و إذا زايله صار مستعملا و إن لم يستقر على الأرض أو في الإناء فإنه ذكر في الأصل إذذا مسح رأسه بماء أخذه من لحيته لم يجزه و إن لم يستقر على الأرض .
و ذكر في باب المسح على الخفين أن من مسح على خفيه و بقي في كفه بلل فمسح به رأسه لا يجزيه و علل بأن هذا ماء قد مسح به مرة أشار إلى صيرورته مستعملا و إن لم يستقر على الأرض أو في الإناء و قالوا فيمن توضأ و بقي على رجله لمعة فغسلها ببلل أخذه من عضو آخر لا يجوز و إن لم يوجد الاستقرار على المكان فدل على أن المذهب ما قلنا .
أما سفيان فقد استدل بمسائل زعم أنها تدل على صحة ما ذهب إليه .
منها إذا توضأ أو اغتسل و بقي على يده لمعة فأخذ البلل منها في الوضوء أو من أي عضو كان في الغسل و غسل اللمعة يجوز .
و منها : إذا توضأ و بقي في كفه بلل فمسح به رأسه يجوز و إن زايل العضو الذي استعمله فيه لعدم الاستقرار في مكان و منها : إذا مسح أعضاءه بالمنديل و ابتل حتى صار كثيرا فاحشا أو تقاطر الماء على ثوب مقدار الكثير الفاحش جازت الصلاة معه و لو أعطى له حكم الاستعمال عند المزايلة لما جازت .
و لنا : أن القياس أن يصير الماء مستعملا بنفس الملاقاة لما ذكرنا فيما تقدم أنه وجد سبب صيرورته مستعملا و هو إزالة الحدث أو استعماله على وجه القربة و قد حصل ذلك بمجرد الملاقاة فكان ينبغي أن يؤخذ لكل جزء من العضو جزء من الماء إلا أن في ذلك حرجا فالشرع أسقط اعتبار حالة الاستعمال في عضو واحد حقيقة أو في عضو واحد حكما كما في الجنابة ضرورة دفع الحرج فإذا زايل العضو زالت الضرورة فيظهر حكم الاستعمال بقضية القياس و قد خرج الجواب عن المسألة الأولى .
و أما المسألة الثانية : فقد ذكر الحاكم الجليل أنها على التفصيل إن لم يكن استعمله في شيء من أعضائه يجوز أما إذا كان استعمله لا يجوز و الصحيح أنه يجوز و إن استعمله في المغسولات لأن فرض الغسل إنما تأدى بماء جرى على عضوه لا بالبلة الباقية فلم تكن هذه البلة مستعملة بخلاف ما إذا استعمله في المسح على الخف ثم مسح به رأسا حيث لا يجوز لأن فرض المسح يتأدى بالبلة و تفصيل الحاكم محمول .
على هذا و ما مسح بالمنديل أو تقاطر على الثوب فهو مستعمل إلا أنه لا يمنع جواز الصلاة لأن الماء المستعمل طاهر عند محمد و هو المختار وعندهما و إن كان نجسا لكن سقوط اعتبار نجاسته ههنا لمكان ا لضرورة .
و أما بيان سبب صيرورة الماء مستعملا فعند أبي حنيفة و أبي يوسف الماء إنما يصير مستعملا بأحد أمرين : إما بإزالة الحدث أو بإقامة القربة و عند محمد لا يصير لم مستعملا إلا بإقامة القربة و عند زفر و الشافعي : لا يصير مستعملا إلا بإزالة الحدث و هذا الاختلاف لم بنقل عنهم نصا لكن مسائلهم تدل عليه و الصحيح قول أبي حنيفة و أبي يوسف لما ذكرنا من زوال المانع من الصلاة إلى الماء و استخباث الطبيعة إياه في الفصلين جميعا .
إذا عرفنا هذا فنقول : إذا توضأ بنية إقامة القربة نحو الصلاة المعهودة و صلاة الجنازة و دخول المسجد و مس المصحف و قراءة القرآن و نحوها فإن كان محدثا صار الماء مستعملا بلا خلاف لوجود السببين و هو إزالة الحدث لم إقامة القربة جميعا و إن لم يكن محدثا يصير مستعملا عند أصحابنا الثلاثة لوجود إقامة القربة لكون الوضوء على الوضوء نورا على نور و عند زفر و الشافعي : لا يصير مستعملا لانعدام إزالة الحدث .
و لو توضأ أو اغتسل للتبرد فإن كان محدثا صار الماء مستعملا عند أبي حنيفة و أبي يوسف و زفر .
و الشافعي لوجود إزالة الحدث .
و عن محمد : لا يصير مستعملا لعدم إقامة القربة و إن لم يكن محدثا لا يصير مستعملا بالاتفاق على اختلاف الأصول .
و لو توضأ بالماء المقيد كماء الورد و نحوه لا يصير مستعملا بالإجماع لأن التوضأ به غير جائز فلم يوجد إزالة الحدث ولا إقامة القربة و كذا إذا غسل الأشياء الطاهرة من النبات و الثمار و الأواني و الأحجار و نحوها أو غسل يده من الطين و الوسخ و غسلت المرأة يدها من العجين أو الحناء و نحو ذلك لا يصير مستعملا لما قلنا و لو غسل يده للطعام أو من الطعام لقصد إقامة السنة صار الماء مستعملا لأن إقامة السنة قربة لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ الوضوء قبل الطعام بركة و بعده ينفي اللمم ] .
و لو توضأ ثلاثا ثلاثا ثم زاد على ذلك : فإن أراد بالزيادة ابتداء الوضوء صار الماء مستعملا لما قلنا و إن أراد الزيادة على الوضوء الأول اختلف المشايخ فيه فقال بعضهم : لا يصير مستعملا لأن الزيادة على الثلاث من باب التعدي بالنص و قال بعضهم يصير مستعملا لأن الزيادة في معنى الوضوء على الوضوء فكانت قربة .
و لو أدخل جنب أو حائض أو محدث يده في الإناء قبل أن يغسلها و ليس عليها قذر أو شرب الماء منه فقياس أصل أبي حنيفة و أبي يوسف أن يفسد و في الاستحسان لا يفسد .
وجه القياس : أن الحدث زال عن يده بإدخالها في الماء وكذا عن شفته فصار مستعملا .
وجه الاستحسان : ما [ روي عن عائشة Bها أنها قالت : كنت أنا و رسول الله في صلى الله عليه و سلم نغتسل من إناء واحد و ربما كانت تتنازع فيه الأيدي ] .
و روينا أيضا [ عن عائشة Bها : أنها كانت تشرب من إناء و هي حائض و كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يشرب من ذلك الإناء و كان يتتبع مواضع فمها ] حبا لها و لأن التحرز عن إصابة الحدث و الجنابة و الحيض .
غير ممكن و بالناس حاجة إلى الوضوء و الاغتسال و الشرب و كل واحد لا يملك الإناء ليغترف الماء من الإناء العظيم و لا كل أحد يملك أن يتخذ آنية على حدة للشرب فيحتاج إلى الاغتراف باليد و الشرب من كل آنية فلو لم يسقط اعتبار نجاسة اليد و الشفة لوقع الناس في الحرج حتى لو أدخل رجله فيه يفسد الماء لانعدام الحاجة إليه في الإناء و لو أدخلها في البئر لم يفسده كذا ذكر أبو يوسف في الأمالي لأنه يحتاج إلى ذلك في البئر لطلب الدلو فجعل عفوا و لو أدخل في الإناء أو البئر بعض جسده سوى اليد و الرجل أفسده لأنه لا حاجة إليه .
و على هذا الأصل تخرج مسألة البئر إذا انغمس الجنب فيها لطلب الدلو لا بنية الاغتسال و ليس على بدنه نجاسة حقيقية و الجملة فيه أن الرجل المنغمس لا يخلو إما أن يكون طاهرا أو لم يكن بأن كان على بدنه نجاسة حقيقية أو حكمية كالجنابة و الحدث و كل وجه على وجهين : إما أن ينغمس لطلب الدلو أو للتبرد أو للاغتسال و في المسألة حكمان حكم الماء الذي في البئر و حكم الداخل فيها فإن كان طاهرا و انغمس لطلب الدلو أو للتبرد لا يصير مستعملا بالإجماع لعدم إزالة الحدث و إقامة القربة و إن انغمس فيها للاغتسال صار الماء مستعملا عند أصحابنا الثلاثة لوجود إقامة القربة .
و عند زفر و الشافعي : لا يصير مستعملا لانعدام إزالة الحدث و الرجل طاهر في الوجهين جميعا و إن لم يكن طاهرا فإن كان على بدنه نجاسة حقيقية و هو جنب أولا فانغمس في ثلاثة آبار أو أكثر من ذلك لا يخرج من الأولى و الثانية طاهرا بالإجماع و يخرج من الثالثة طاهرا عند أبي حنيفة و محمد و المياه الثلاثة نجسة لكن نجاستها على التفاوت على ما ذكرنا .
و عند أبي يوسف الرجل نجس و المياه كلها نجسة سواء انغمس لطلب الدلو أو التبرد أو الاغتسال .
و عندهما : إن انغمس لطلب الدلو أو التبرد فالمياه باقية على حالها و إن كان الانغماس للاغتسال فالماء الرابع فصاعدا مستعمل لوجود إقامة القربة و إن كان على يده نجاسة حكمية فقط فإن أدخلها لطلب الدلو أو التبرد يخرج من الأولى طاهرا عند أبي حنيفة و محمد هو الصحيح لزوال الجنابة بالانغماس مرة واحدة و عند أبي يوسف : هو نجس و لا يخرج طاهرا أبدا .
و أما حكم المياه فالماء الأول مستعمل عند أبي حنيفة لوجود إزالة الحدث و البواقي على حالها لانعدام ما يوجب الاستعمال أصلا و عند أبي يوسف و محمد المياه كلها على حالها أما عند محمد فظاهر لأنه لم يوجد إقامة القربة بشيء منها و أما أبو يوسف فقد ترك أصله عند الضرورة على ما يذكر و روى بشر عنه أن المياه كلها نجسة و هو قياس مذهبه .
و الحاصل : أن عند أبي حنيفة و محمد يطهر النجس بوروده على الماء القليل كما يطهر بورود الماء عليه بالصب سواء كان حقيقيا أو حكميا على البدن أو على غيره غير أن النجاسة الحقيقة لا تزول إلا بالملاقاة ثلاث مرات و الحكمية تزول بالمرة الواحدة .
و عند أبي يوسف : لا يطهر النجس عن البدن بوروده على الماء القليل الراكد قولا واحدا و له في الثوب قولان .
أما الكلام في النجاسة الحقيقية في الطرفين فسيأتي في بيان ما يقع به التطهير .
و أما النجاسة الحكمية فالكلام فيها على نحو الكلام في الحقيقية فأبو يوسف يقول : الأصل أن ملاقاة أول عضو المحدث الماء يوجب صيرورته مستعملا فكذا ملاقاة أول عضو الطاهر الماء على قصد إقامة القربة و إذا صار الماء مستعملا بأول الملاقاة لا تتحقق طهارة بقية الأعضاء بالماء المستعمل فيجب العمل بهذا الأصل إلا عند الضرورة كالجنب و المحدث إذا أدخل يده في الإناء لاغتراف الماء لا يصير مستعملا و لا يزول الحدث إلى الماء لمكان الضرورة .
و ههنا ضرورة لحاجة الناس إلى إخراج الدلو من الآبار فترك أصله لهذه الضرورة و لأن هذا الماء لو .
صار مستعملا إنما يصير مستعملا بإزالة الحدث و لو أزال الحدث تنجس و لو تنجس لا يزيل الحدث و إذا لم يزل الحدث بقي طاهرا و إذا بقي طاهرا يزيل الحدث فيقع الدور فقطعنا الدور من الابتداء فقلنا : إنه لا يزيل الحدث عنه فبقي هو بحالة و الماء على حالة .
و أبو حنيفة و محمد يقولان : إن النجاسة تزول بورود الماء عليها فكذا بورودها على الماء لأن زوال .
النجاسة بواسطة الاتصال و الملاقاة بين الطاهر و النجس موجودة في الحالين و لهذا ينجس الماء بعد الانفصال في الحالين جميعا في النجاسة الحقيقية إلا أن حالة الاتصال لا يعطى لها حكم النجاسة و الاستعمال لضرورة إمكان التطهير و الضرورة متحققة في الصب إذ كل واحد لا يقدر عليه على كل حال فامتنع ظهور حكمه في هذه الحالة و لا ضرورة بعد الانفصال فيظهر حكمه .
و على هذا إذا أدخل رأسه أو خفه أو جبيرته في الإناء و هو محدث .
قال أبو يوسف : يجزئه في المسح و لا يصير الماء مستعملا سواء نوى أو لم ينو لوجود أحد سببي الاستعمال و إنما كان لأن فرض المسح يتأدى بإصابة البلة إذ هو اسم للإصابة دون الإسالة فلم يزل شيء من الحدث إلى الماء الباقي في الإناء و إنما زال إلى البلة و كذا إقامة القربة تحصل بها فاقتصر حكم الاستعمال عليها و قال محمد : إن لم ينو المسح يجزئه و لا يصير الماء مستعملا لأنه لم توجد إقامة القربة فقد مسح بماء غير مستعمل فأجزأه .
و إن نوى المسح اختلف المشايخ على قوله قال بعضهم : لا يجزئه و يصير الماء مستعملا لأنه لم لاقى رأسه الماء على قصد إقامة القربة صيره مستعملا و لا يجوز المسح بالماء المستعمل و الصحيح أنه يجوز و لا يصير الماء مستعملا بالملاقاة لأن الماء إنما يأخذ حكم الاستعمال بعد الانفصال فلم يكن مستعملا قبله فيجزئه المسي به .
جنب على يده قذر فأخذ الماء بفمه وصبه عليه روى المعلى عن أبي يوسف أنه لا يطهر لأنه صار مستعملا بإزالة الحدث عن الفم و الماء المستعمل لا يزيل النجاسة بالإجماع و ذكر محمد في .
الآثار إنه يطهر لأنه لم يقم به قربة فلم يصر مستعملا و الله أعلم