أحكام النجاسة الحكمية .
و على هذا إذا وقعت الفأرة في السمن فماتت فيه أنه إن كان جامدا تلقى الفأرة و ما حولها و يؤكل الباقي و إن كان ذائبا لا بؤكل و لكن يستصبح به و يدبغ به الجلد و يجوز بيعه و ينبغي للبائع أن يبين عيبه فإن لم يبين و باعه ثم علم به المشتري فهو بالخيار إن شاء رده و إن شاء رضي به .
و قال الشافعي C : لا يجوز بيعه و لا الانتفاع به و احتج بما روي [ عن أبي موسى الأشعري رضي الله .
عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم سئل عن فأرة ماتت في سمن فقال : إن كان جامدا فألقوها و ما حولها و كلوا الباقي و إن كان ذائبأ فأريقوه ] و لو جاز الانتفاع به لما أمر بإراقته و لأنه نجس فلا يجوز الانتفاع به و لا بيعه كالخمر .
و لنا : ما [ روى ابن عمر Bه أن النبي صلى الله عليه و سلم سئل عن فأرة ماتت في سمن فقال : تلقى الفأرة و ما حولها و يؤكل الباقي فقيل يا رسول الله أرأيت لو كان السمن ذائبا فقال لا تأكلوا لكن انتفعوا به ] و هذا .
نص في الباب و لأنها في الجامد لا تجاور إلا ما حولها و في الذائب تجاور الكل فصار الكل نجسا و أكل النجس لا يجوز فأما الانتفاع بما ليس بنجس العين فمباح كالثوب النجس و أمر النبي صلى الله عليه و سلم بإلقاء ما حولها في الجامد و إراقة الذائب في حديث أبي موسى لبيان حرمة الأكل لأن معظم الانتفاع بالسمن هو الأكل .
و الحد الفاصل بين الجامد و الذائب أنه إن كان بحال لو قور ذلك الموضع لا يستوي من ساعته فهو جامد و إن كان يستوي من ساعته فهو ذائب و إذا دبغ به الجلد يؤمر بالغسل ثم إن كان ينعصر بالعصر يغسل و يعصر ثلاث مرات و إن كان لا ينعصر لا يطهر عند محمد أبدا و عند أبي يوسف يغسل ثلاث مرات و يجفف في كل مرة و على هذا مسائل نذكرها في موضعها إن شاء الله .
و أما غسالة النجاسة الحكمية و هي الماء المستعمل فالكلام في الماء المستعمل يقع في ثلاثة مواضع : .
أحدها : في صفته أنه طاهر أم نجس .
و الثاني : في أنه في أي حال يصير مستعملا .
و الثالث : في أنه بأي سبب يصير مستعملا .
أما الأول : فقد ذكر في ظاهر الرواية أنه لا يجوز التوضؤ به ولم يذكر أنه طاهر أم نجس و روى محمد عن أبي حنيفة أنه طاهر غير طهور و به أخذ الشافعي و هو أظهر أقوال الشافعي .
و روى أبو يوسف و الحسن بن زياد عنه أنه نجس غير أن الحسن روى عنه أنه نجس نجاسة غليظة .
يقدر فيه بالدرهم و به أخذ و أبو يوسف روى عنه أنه نجس نجاسة خفيفة يقدر فيه بالكثير الفاحش و به أخذ .
وقال زفر إن كان المستعمل متوضأ فالماء المستعمل طاهر و طهور و إن كان محدثا فهو طاهر غير طهور و هو أحد أقاويل الشافعى و في قول له أنه طاهر و طهور بكل حال و هو قول مالك .
ثم مشايخ بلخ حققوا الخلاف فقالوا : الماء المستعمل نجس عند أبي حنيفة و أبي يوسف و عند محمد طاهر غير طهور و مشايخ العراق لم يحققوا الخلاف فقالوا : إنه طاهر غير طهور عند أصحابنا حتى روي عن القاضي أبي حازم العراقي أنه كان يقول : إنا نرجو أن لا تثبت رواية نجاسة الماء المستعمل عن أبي حنيفة و هو اختيار المحققين من مشايخنا بما وراء النهر .
وجه قول من قال : أنه طهور ما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ الماء طهور لا ينجسه شيء إلا ما غير .
لونه أو طعمه أو ريحه ] و لم يوجد التغير بعد الاستعمال و لأن هذا ماء طاهر لاقى عضوا طاهرا فلا يصير نجسا كالماء الطاهر إذا غسل به ثوب طاهر و الدليل على أنه لاقى محلا طاهرا إن أعضاء المحدث طاهرة حقيقة و حكما أما الحقيقة فلانعدام النجاسة الحقيقية حسا و مشاهدة و أما الحكم فلما روي أن رسول صلى الله عليه و سلم كان يمر في بعض سكك المدينة فاستقبله حذيفة بن اليمان فأراد النبي صلى الله عليه و سلم أن يصافحه فامتنع و قال : إني جنب يا رسول الله فقال النبي صلى الله عليه و سلم [ إن المؤمن لا ينجس ] و روي أنه صلى الله عليه و سلم قال لعائشة Bها [ ناوليني الخمرة فقالت إني حائض فقال ليست حيضتك في يدك ] و لهذا جاز صلاة .
حامل المحدث و الجنب و حامل النجاسة لا تجوز صلاته .
و كذلك عرقه طاهر و سؤره طاهر و إذا كانت أعضاء المحدث طاهرة كان الماء الذي لاقاها طاهرا ضرورة لأن الطاهر لا يتغير عما كان عليه إلا بانتقال شيء من النجاسة إليه و لا نجاسة في المحل على ما مر فلا يتصور الانتقال فبقي طاهرا و بهذا يحتج محمد C تعالى لإثبات الطهارة إلا أنه لا يجوز التوضؤ به لأنا تعبدنا باستعمال الماء عند القيام إلى الصلاة شرعا غير معقول التطهير لأن تطهير الطاهر محال و الشرع ورد باستعمال الماء المطلق و هو الذي لا يقوم به خبث و لا معنى يمنع جواز الصلاة و قد قام بالماء المستعمل أحد هذين المعنيين أما على قول محمد فلأنه أقيم به قربة إذا توضأ به لأداء / الصلاة لأن الماء إنما يصير مستعملا بقصد التقرب عنده و قد ثبت بالأحاديث أن الوضوء سبب لإزالة الآثام عن المتوضىء للصلاة فينتقل ذلك إلى الماء فيتمكن فيه نوع خبث كالمال الذي تصدق به و لهذا سميت الصدقة غسالة الناس .
و أما على قول زفر فلأنه قام به معنى مانع من جواز الصلاة و هو الحدث لأن الماء عنده إنما يصير مستعملا بإزالة الحدث .
و قد انتقل الحدث من البدن إلى الماء ثم الجنابة و الحدث و إن كانا من صفات المحل و الصفات لا تحتمل الانتقال لكن ألحق ذلك بالعين النجسة القائمة بالمحل حكما و الأعيان الحقيقية قليلة للانتقال فكذا ما هو ملحق بها شرعا و إذا قام بهذا الماء أحد هذين المعنيين لا يكون في معنى الماء المطلق فيقتصر الحكم عليه على الأصل المعهود أن ما لا يعقل من الأحكام يقتصر على المنصوص عليه و لا يتعدى إلى غيره إلا .
إذا كان في معناه من كل وجه ولم يوجد .
وجه رواية النجاسة : ما روي عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ لا يبولن أحدكم في الماء الدائم و لا يغتسلن .
فيه من جنابة ] حرم الاغتسال في الماء القليل لإجماعنا على أن الاغتسال في الماء الكثير ليس بحرام فلولا أن القليل من الماء ينجس بالاغتسال بنجاسة الغسالة لم يكن للنهي معنى لأن إلقاء الطاهر في الطاهر ليس بحرام أما تنجيس الطاهر فحرام فكان هذا نهيا عن تنجيس الماء الطاهر بالاغتسال و ذا يقتضي التنجيس به و لا يقال : أنه يحتمل أنه نهي لما فيه من إخراج الماء عن أن يكون مطهرا من غير ضرورة و ذلك حرام لأنا نقول الماء القليل إنما يخرج عن كونه مطهرا باختلاط غير المطهر به إذا كان الغير غالبا عليه كماء الورد و اللبن و نحو ذلك فأما إذا كان مغلوبا فل ا و ههنا الماء المستعمل ما يلاقي البدن و لا شك أن ذلك أقل من غير المستعمل فكيف يخرج به من أن يكون مطهرا فأما ملاقاة النجس الطاهر فتوجب تنجيس الطاهر و إن لم يغلب على الطاهر لاختلاطه بالطاهر على وجه لا يمكن التمييز بينهما فيحكم بنجاسة الكل فثبت أن النهي لما قلنا .
و لا يقال : إنه يحتمل أنه نهي لأن أعضاء الجنب لا تخلو عن النجاسة الحقيقية و ذا يوجب تنجيس الماء القليل لأنا نقول الحديث مطلق فيجب العمل بإطلاقه و لأن النهي عن الاغتسال ينصرف إلى الاغتسال المسنون لأنه هو المتعارف فيما بين المسلمين و المسنون منه هو إزالة النجاسة الحقيقية عن البدن قبل الاغتسال على أن النهي عن إزالة النجاسة الحقيقية التي على البدن استفيد بالنهي عن البول فيه فوجب حمل .
النهي عن الاغتسال فيه على ما ذكرنا صيانة لكلام صاحب الشرع عن الإعادة الخالية عن الإفادة و لأن هذا .
الماء مما تستخبثه الطباع السليمة فكان محرما لقوله تعالى : { ويحرم عليهم الخبائث } و الحرمة لا للاحترام دليل النجاسة و لأن الأمة أجمعت على أن من كان في السفر ومعه ماء يكفيه لوضوئه و هو بحال يخاف على نفسه العطش يباح له التيمم و لو بقي الماء طاهرا بعد الاستعمال لما أبيح لأنه يمكنه أن يتوضأ و يأخذ الغسالة في إناء نظيف و يمسكها للشرب .
والمعنى في المسألة من وجهين : .
أحدهما : في المحدث خاصة .
و الثاني : يعم الفصلين .
أما الأول : فلأن الحدث هو خروج شيء نجس من البدن وبه يتنجس بعض البدن حقيقة فيتنجس الباقي تقديرا و لهذا أمرنا بالغسل و الوضوء و سمي تطهيرا و تطهير الطاهر لا يعقل فدل تسميتها تطهيرا على النجاسة تقديرا و لهذا لا يجوز له أداء الصلاة التي هي من باب التعظيم و لولا النجاسة المانعة من التعظيم لجازت فثبت أن على أعضاء المحدث نجاسة تقديرية فإذا توضأ انتقلت تلك النجاسة إلى الماء فيصير الماء .
نجسا تقديرا و حكما و النجس قد يكون حقيقيا و قد يكون حكميا كالخمر .
و الثاني ما ذكرنا أنه يزيل نجاسة الآثام و خبثها فنزل ذلك منزلة خبث الخمر إذا أصاب الماء ينجسه .
كذا هذا .
ثم إن أبا يوسف جعل نجاسته خفيفة لعموم البلوى فيه لتعذر صيانة الثياب عنه و لكونه محل الاجتهاد .
فأوجب ذلك خفة في حكمه و الحسن جعل نجاسته حكيمة و أنها نجاسة حكمية و أنها أغلظ من الحقيقية ألا .
ترى أنه عفي عن القليل من الحقيقية دون الحكمية بأن بقي على جسده لمعة يسيرة .
و على هذا الأصل ينبني أن التوضأ في المسجد مكروه عند أبي حنيفة و أبي يوسف .
و قال محمد لا بأس به إذا لم يكن عليه قذر فمحمد مر على أصله أنه طاهر و أبو يوسف مر على .
أصله أنه نجس و أما عند أبي حنيفة فعلى رواية النجاسة لا يشكل و أما على رواية الطهارة فلأنه مستقذر طبعا فيجب تنزيه المسجد عنه كما يجب تنزيهه عن المخاط و البلغم