كيفية ثبوت النذر .
و أما كيفية ثبوته : فالنذر لا يخلو إما إن أضيف إلى وقت مبهم و إما إن أضيف إلى وقت معين فإن أضيف إلى وقت مبهم بأن قال لله علي أن أصوم شهرا و لا نية له فحكمه هو حكم الأمر المطلق عن الوقت .
و اختلف أهل الأصول في ذلك أن حكمه وجوب الفعل على الفور أم على التراخي حكى الكرخي C عن أصحابنا أنه على الفور .
و روى ابن شجاع البلخي عن أصحابنا أنه يجب وجوبا موسعا فظهر الاختلاف بين أصحابنا في الحج فعند أبي يوسف يجب على الفور و عند محمد على التراخي و روي عن أبي حنيفة عليه الرحمة مثل قول أبي يوسف .
و قال عامة مشايخنا : بما وراء النهر أنه على التراخي و تفسير الواجب على التراخي عندهم أنه يجب في جزء من عمره غير عين و إليه خيار التعيين ففي أي وقت شرع فيه تعيين ذلك الوقت للوجوب و إن لم يشرع يتضيق الوجوب في آخر عمره إذا بقي من آخر عمره قدر ما يمكنه الأداء فيه بغالب ظنه حتى لو مات قبل الأداء يأثم بتركه و هو الصحيح لأن الأمر بالفعل مطلق عن الوقت فلا يجوز تقييده إلا بدليل فكان النذر لأن النصوص المقتضية لوجوب الوفاء بالنذر مطلقة عن الوقت فلا يجوز تقييدها إلا بدليل و كذا سبب الوجوب و هو النذر وجد مطلقا عن الوقت و الحكم يثبت على وفق السبب فيجب عليه أن يصوم شهرا من عمره غير عين و خيار التعيين إليه إلى أن يغلب على ظنه الفوات لو لم يصم فيضيق الوقت حينئذ .
و كذا حكم الاعتكاف المضاف إلى وقت مبهم بأن قال لله علي أن أعتكف شهرا و لا نية له و هذا بخلاف اليمين بالكلام بأن قال و الله لا أكلم فلانا شهرا أنه يتعين الشهر الذي يلي اليمين .
و كذا الإجارة بأن آجر داره أو عبده شهرا فإنه يتعين الشهر الذي العقد لأنه أضاف النذر إلى شهر منكر و انصرف إلى الشهر الذي يلي النذر يعين المنكر و لا يجوز تعيين المنكر إلا بدليل هو الأصل و قد قام دليل التعيين في باب اليمين و الإجارة لأن غرض الحالف منع نفسه عن الكلام و الإنسان إنما يمنع نفسه عن الكلام مع غيره لإهانته و الاستخفاف به لداع يدعوه إلى ذلك الحال و الإجارة تنعقد للحاجة إلى الانتفاع بالمستأجر و الحاجة قائمة عقيب العقد فيتعين الزمان المتعقب للعقد لثبوت حكم الإجارة و يجوز تعيين المبهم عند قيام الدليل المعين و لو نوى شهرا معينا صحت نيته لأنه نوى ما يحتمله لفظه وفيه تشديد عليه ثم في النذر المضاف إلى وقت مبهم إذا عين شهرا للصوم فهو بالخيار إن شاء تابع و إن شاء فرق بخلاف الاعتكاف أنه إذا عين شهرا للاعتكاف فلا بد و أن يعتكف متتابعا في النهار و الليالي جميعا لأن الإيجاب في النوعين حصل مطلقا عن صفة التتابع إلا أن في ذات الاعتكاف ما يوجب التتابع و هو كونه لبثا على الدوام فكان مبناه على الاتصال و الليالي و النهر قابلة لذلك فلا بد من التتابع و مبنى الصوم ليس على التتابع بل على التفريق لما بين كل يومين ما لا يصلح له و هو الليل فبقي له الخيار و إن أضيف إلى وقت معين بأن قال لله علي أصوم غدا يجب عليه صوم الغد وجوبا مضيقا ليس له رخصة التأخير من غير عذر .
و كذا إذا قال : لله علي صوم رجب فلم يصم فيما سبق من الشهور على رجب حتى هجم رجب لا يجوز له التأخير من غير عذر لأنه لم يصم قبله حتى جاء رجب تعين رجب لوجوب الصوم فيه التضييق فلا يباح له التأخير .
و لو صام رجبا و أفطر منه يوما لا يلزمه الاستقبال و لكنه يقضي ذلك اليوم من شهر آخر بخلاف ما إذا قال لله علي أن أصوم شهرا متتابعا أو قال : أصوم شهرا و نوى التتابع فأفطر يوما أنه يستقبل لأن هناك أوجب على نفسه صوما موصوفا بصفة التتابع و صح الإيجاب لأن صفة التتابع زيادة بقريبة لما يلحقه بمراعاتها من زيادة مشقة و هي صفة معتبرة شرعا ورد الشرع بها في كفارة القتل و الظهار و الإفطار و اليمين عندنا فيصح التزامه بالنذر فيلزمه كما التزم فإذا ترك فلم يأت بالملتزم فيستقبل كما في صوم كفارة الظهار و القتل .
فأما ههنا فما أوجب على نفسه صوما متتابعا و إنما وجب عليه التتابع لضرورة تجاور الأيام لأن أيام الشهر متجاورة فكانت متتابعة فلا يلزمه إلا قضاء ما أفطر كما لو أفطر يوما من رمضان لا يلزمه إلا قضاؤه و إن كان صوم شهر رمضان متتابعا لما قلنا كذا هذا .
و لأنا لو ألزمناه الاستقبال لوقع أكثر الصوم في غير ما أضيف إليه النذر و لو أتم و قضى يوما لكان مؤديا أكثر الصوم في الوقت المعين فكان هذا أولى .
و لو أفطر رجب كله قضى في شهر آخر لأنه فوت الواجب عن وقته فصار دينا عليه و الدين مقضي على لسان رسول الله صلى الله عليه و سلم و لهذا وجب قضاء رمضان إذا فات عن وقته و لن الوجوب عند النذر بإيجاب الله عز شأنه فيعتبر بالإيجاب المبتدأ و ما أوجبه الله تعالى عز شأنه على عباده ابتداء لا يسقط عنه إلا بالأداء أو بالقضاء كذا هذا و الله تعالى عز شأنه أعلم