حكم النذر .
و أما حكم النذر فالكلام فيه في مواضع .
الأول : في بيان أصل الحكم .
و الثاني : في بيان وقت ثبوته .
و الثالث : في بين كيفية ثبوته .
أما أصل الحكم فالناذر لا يخلو من أن يكون نذر و سمى أو نذر و لم يسم فإن نذر و سمى فحكمه وجوب الوفاء بما سمى بالكتاب العزيز و السنة و الإجماع و المعقول .
أما الكتاب الكريم فقوله عز شأنه : { وليوفوا نذورهم } و قوله تعالى : { وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا } و قوله سبحانه : { وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم } و النذر نوع عهد من الناذر مع الله جل و علا فيلزمه الوفاء بما عهد و قوله جلت عظمته : { أوفوا بالعقود } أي العهود و قوله عز شأنه : { ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين } إلى قوله تعالى : { بما أخلفوا الله ما وعدوه } ألزم الوفاء بعهده حيث أوعد على ترك الوفاء .
و أما السنة : فقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ من نذر أن يطع الله تعالى فليطعه ] و قوله صلى الله عليه و سلم : [ من نذر و سمى فعليه الوفاء بما سمى ] و على كلمة إيجاب و قوله صلى الله عليه و سلم : [ المسلمون عند شروطهم ] و الناذر شرط الوفاء بما نذر فيلزمه مراعاة شرطه و عليه إجماع الأمة .
و أما المعقول : فهو أن المسلم يحتاج إلى أن يتقرب إلى الله سبحانه و تعالى بنوع من القرب المقصودة التي له رخصة تركها لما يتعلق به من المعاقبة الحميدة و هي نيل الدرجات العلى و السعادة العظمى في دار الكرامة و طبعه لا يطاوعه على تحصيله بل يمنعه عنه لما فيه من المضرة الحاضرة و هي المشقة و لا ضرورة في الترك فيحتاج إلى اكتساب سبب يخرجه عن رخصة الترك و يلحقه بالفرائض الموظفة و ذلك يحصل بالنذر لأن الوجوب يحمله على التحصيل خوفا من مضرة الترك فيحصل مقصوده فثبت أن حكم النذر الذي فيه تسمية هو وجوب الوفاء بما سمى .
و سواء كان النذر مطلقا أو مقيدا بشرط بأن قال : إن فعلت كذا فعلي لله حج أو عمرة أو صوم أو صلاة أو ما أشبه ذلك من الطاعات حتى لو فعل ذلك يلزمه الذي جعله على نفسه و لم يجز عنه كفارة و هذا قول أصحابنا Bهم .
و قال الشافعي C : إن علقه بشرط يريد كونه لا يخرج عنه كما إذا قال : إن شفى الله مريضي أو إن قدم غائبي فعلي كذا و إن علقه بشرط لا يريد كونه بأن قال إن كلمت فلانا أو قال إن دخلت الدار فلله علي كذا يخرج عنه بالكفارة و هو بالخيار إن شاء و فى بالنذر و إن شاء كفر و أصحاب الشافعي C يسمون هذا يمين الغصب .
و روى عامر عن علي بن معبد عن محمد رحمهم الله أنه رجع عن ذلك و قال : يجزي فيه كفارة اليمين و روى عبد الله بن مبارك و غيره عن أبي حنيفة أنه يجزيه كفارة اليمين .
و روي أن أبا حنيفة عليه الرحمة : رجع عن الكفارة في آخر عمره فإنه روي عن عبد العزيز بن خالد أنه قال : قرأت على أبي حنيفة C كتاب الأيمان فلما انتهيت إلى هذه المسألة قال : قف فإن من رأيي أن أرجع إلى الكفارة قال فخرجت حاجا فلما رجعت وجدت أبا حنيفة Bه قد مات فأخبرني الوليد بن أبان أن أبا حنيفة رجع عن الكفارة .
و المسألة مختلفة بين الصحابة Bهم روي عن علي و عبد الله بن عباس Bه أن عليه الوفاء بما سمى و عن سيدنا عمر و عبد الله بن سيدنا عمر و سيدتنا عائشة و سيدتنا حفصة Bهم أن عليه الكفارة .
احتج من قال : بوجوب الكفارة بقوله جلت عظمته { ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان } و قوله جل شأنه { ذلك كفارة أيمانكم } و هذا يمين لأن اليمين بغير الله تعالى جل شأنه شرط و جزاء و هذا كذلك .
و روي عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ النذر يمين و كفارته كفارة اليمين ] و هذا نص و لأن هذا في معنى اليمين بالله تعالى لأن المقصد من اليمين بالله الامتناع من المحلوف عليه أو تحصيله خوفا من لزوم الحنث و هذا موجود ههنا لأنه إن قال إن فعلت كذا فعلي حجة فقد قصد الامتناع من تحصيل الشرط و إن قال إن لم أفعل كذا فعلي حجة فقد قصد تحصيل الشرط و كل ذلك خوفا من الحنث فكان في معنى اليمين بالله تعالى فتلزمه الكفارة عند الحنث .
و لنا : قوله عز شأنه : { ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله } الأية و غيرها من نصوص الكتاب العزيز و السنة المقتضية لوجوب الوفاء بالنذر عاما من غير فصل بين المطلق و المعلق بالشرط و الوفاء بالنذر هو فعل ما تناوله النذر لا الكفارة لأن الأصل اعتبار التصرف على الوجه الذي أوقعه المتصرف تنجيزا كان أو تعليقا بشرط و المتصرف أوقعه نذرا عليه عند وجود الشرط و هو إيجاب الطاعة المذكورة لا إيجاب الكفارة .
و احتج أبو يوسف C في ذلك و قال : القول بوجوب الكفارة يؤدي إلى وجوب القليل بإيجاب الكثير و وجوب الكثير بإيجاب القليل لأنه لو قال إن فعلت كذا فعلي صوم سنة أو إطعام ألف مسكين لزمه صوم ثلاثة أيام أو إطعام عشرة مساكين .
و لو قال : إن فعلت كذا فعلي صوم يوم أو إطعام مسكين لزمه إطعام عشرة مساكين أو صوم ثلاثة و لا حجة لهم بالآية الكريمة لأن المراد بها اليمين بالله عز شأنه لأن الله تعالى أثبت باليمين المعقودة ما نفاه بيمين اللغو بقوله تعالى جلت كبرياؤه { لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان } و المراد من النفي اليمين بالله تعالى كذا في الإثبات و الحديث محمول على النذر المبهم توفيقا بين الدلائل صيانة لها عن التناقض .
و أما قولهم : إن هذا في معنى اليمين بالله تعالى ممنوع بأن النذر المعلق بالشرط صريح في الإيجاب عند وجود الشرط و اليمين بالله تعالى ليس بصحيح في الإيجاب و كذا الكفارة في اليمين بالله تعالى تجب جبرا لهتك حرمة اسم الله عز اسمه الحاصل بالحنث و ليس في الحنث ههنا هتك حرمة اسم الله تعالى و إنما فيه إيجاب الطاعة فلم يكن في معنى اليمين بالله تعالى .
ثم الوفاء بالمنذور به نفسه حقيقة إنما يجب عند الإمكان فأما عند التعذر فإنما يجب الوفاء به تقديرا بخلفه لأن الخلف يقوم مقام الأصل كأنه هو كالتراب حال عدم الماء و الأشهر حال عدم الأقراء حتى لو نذر الشيخ الفاني بالصوم يصح نذره و تلزمه الفدية لأنه عاجز عن الوفاء بالصوم حقيقة فيلزمه الوفاء به تقديرا بخلفه و يصير كأنه صام .
و على هذا يخرج أيضا النذر بذبح الولد أنه يصح عند أبي حنيفة عليه الرحمة و محمد C و يجب ذبح الشاة لأنه إن عجز عن تحقيق القربة بذبح الولد حقيقة لم يعجز عن تحقيقها بذبحه تقديرا بذبح خلفه و هو الشاة كما في الشيخ الفاني إذا نذر بالصوم .
و أما وجوب الكفارة عند فوات المنذور به إذا كان متعينا بان نذر صوم شهر بعينه ثم أفطر فهل هو من حكم النذر فجملة الكلام فيه أن الناذر لا يخلو إما إن قال ذلك و نوى النذر و لم يخطر بباله اليمين أو نوى النذر و نوى أن لا يكون يمينا أو لم يخطر بباله شيء لا النذر و لا اليمين أو نوى اليمين و لم يخطر بباله النذر أو نوى اليمين و نوى أن لا يكون نذرا أو نوى النذر و اليمين جميعا فإن لم يخطر بباله شيء لا النذر و لا اليمين أو نوى النذر و لم يخطر بباله اليمين أو نوى النذر و نوى أن لا يكون يمينا يكون نذرا بالإجماع .
و إن نوى اليمين و نوى أن لا يكون نذرا بالاتفاق و إن نوى اليمين و لم يخطر بباله النذر أو نوى النذر و اليمين جميعا كان نذرا و يمينا في قول أبي حنيفة و محمد و عند أبي يوسف يكون يمينا و لا يكون نذرا .
و الأصل عند أبي يوسف : لا يتصور أن يكون الكلام الواحد نذرا و يمينا بل إذا بقي نذرا لا يكون يمينا و إذا صار يمينا لم يبق نذرا و عند أبي حنيفة و محمد رحمهم الله يجوز أن يكون الكلام الواحد نذرا و يمينا .
وجه قول أبي يوسف : أن الصيغة للنذر حقيقة و تحتمل اليمين مجازا لمناسبة بينهما يكون كل واحد منهما سببا لوجوب الكف عن فعل أو الإقدام عليه فإن بقيت الحقيقة معتبرة لم يثبت المجاز و إذا انقلب مجازا لم تبق الحقيقة لأن الكلام الواحد لا يشتمل على الحقيقة و المجاز لما بينهما من التنافي إذ الحقيقة من الأسامي ما تقرر في المحل الذي وضع له و المجاز لما بينهما من التنافي إذ الحقيقة من الأسامي ما تقرر في المحل الذي وضع له و المجاز ما جاوز محل وضعه و انتقل عنه إلى غيره لضرب مناسبة بينهما و لا يتصور أن يكون الشيء الواحد في زمان واحد متقررا في محله و منتقلا عنه إلى غيره .
و لهما أن النذر فيه معنى اليمين لأن النذر وضع لإيجاب الفعل مقصودا تعظيما لله تعالى و في اليمين وجوب الفعل المحلوف عليه إلا أن اليمين ما وضعت لذلك بل لتحقيق الوعد و الوعيد و وجوب الفعل لضرورة تحقق الوعد و الوعيد لا أنه يثبت مقصودا باليمين لأنها ما وضعت لذلك و إذا كان وجوب الفعل فيها لغيره لم يكن الفعل واجبا في نفسه و لهذا تنعقد اليمين في الأفعال كلها واجبة كانت أو محظورة أو مباحة و لا ينعقد النذر إلا فيما لله تعالى من جنسه إيجاب و لهذا لم يصح اقتداء الناذر بالناذر لتغاير الواجبين لأن صلاة كل واحد منهما وجبت بنذره فتتغاير الواجبات و لم يصح الاقتداء و يصح اقتداء الحالف بالحالف لأن المحلوف عليه إذا لم يكن واجبا في نفسه كان في نفسه نفلا كان اقتدى المتنفل بالمتنفل فصح .
و إذا ثبت أن المنذور واجب في نفسه و المحلوف واجب لغيره فلا شك إن ما كان واجبا في حق نفسه كان في حق غيره واجبا فكان معنى اليمين و هو الوجوب لغيره موجودا في النذر فكان كل نذر فيه معنى اليمين إلا أنه لا يعتبر لوقوع النسبة بوجوبه في حق غيره فإذا نواه فقد اعتبره فصار نذرا و يمينا و به تبين أن ليس هذا من باب الجمع بين الحقيقة و المجاز في لفظ واحد لأن المجاز ما جاوز محل الحقيقة إلى غيره لنوع مناسبة بينهما و هذا ليس من هذا القبيل بل هو من جعل ما ليس بمعتب في محل الحقيقة مع وجوده و تقرره معتبرا بالنسبة فلم يكن من باب المجاز .
و الدليل على أنه يجوز اشتمال لفظ واحد على معنيين مختلفين كالكتابة و الإعتاق على مال أن كل واحد منهما يشتمل على معنى اليمين و معنى المعاوضة على ما ذكرنا في كتاب العتاق و المكاتب .
و أما النذر الذي لا تسمية فيه فحكمه وجوب ما نوى إن كان الناذر نوى شيئا سواء كان مطلقا عن شرط أو معلقا بشرط بأن قال لله علي نذر أو قال إن فعلت كذا فلله علي نذر فإن نوى صوما أو صلاة أو حجا أو عمرة لزمه الوفاء به في المطلق للحال و في المعلق بالشرط عند وجود الشرط و لا تجزيه الكفارة في قول أصحابنا على ما بينا و إن لم تكن له نية فعليه كفارة اليمين غير أنه إن كان مطلقا يحنث للحال و عن كان معلقا بشرط يحنث عند الشرط لقوله عليه السلام [ النذر يمين و كفارته كفارة اليمين ] و المراد منه النذر المبهم الذي لا نية للناذر فيه و سواء كان الشرط الذي علق به هذا النذر مباحا أو معصية بأن قال إن صمت أو صليت فلله على نذر و يجب عليه أن يحنث نفسه و يكفر عن يمينه لقوله عليه الصلاة و السلام : [ من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير و ليكفر عن يمينه ] .
و لو نوى في النذر المبهم صياما و لم ينو عددا فعليه صيام ثلاثة أيام في المطلق للحال و في المعلق إذا وجد الشرط و إن نوى طعاما و لم ينو عددا فعليه طعام عشرة مساكين لكل مسكين نصف صاع من حنطة لأنه لو لم يكن له نية لكان عليه كفارة اليمين لما ذكرنا أن النذر المبهم يمين و أن كفارته كفارة يمين فلما نوى به الصيام انصرف إلى صيام الكفارة و هو صيام ثلاثة أيام و انصرف الإطعام إلى طعام الكفارة و هو إطعام الكفارة و هو إطعام عشرة مساكين .
و لو قال : لله علي صدقة فعليه نصف صاع و لو قال لله علي صوم فعليه صوم يوم و لو قال لله علي صلاة فعليه ركعتان لأن ذلك أدنى ما ورد الأمر به و النذر يعتبر بالأمر فإذا لم ينو شيئا ينصرف إلى أدنى ما ورد به الأمر في الشرع .
و أما وقت ثبوت هذا الحكم فالنذر لا يخلو إما أن يكون مطلقا و إما أن يكون معلقا بشرط أو مقيدا بمكان أو مضافا إلى وقت و المنذور لا يخلو إما أن كان قربة بدنية كالصوم و الصلاة و إما أن كان مالية كالصدقة فإن كان النذر مطلقا عن الشرط و المكان و الزمان فوقت ثبوت حكمه و هو وجوب المنذور به هو وقت وجود النذر فيجب عليه في الحال مطلقا عن الشرط و المكان و الزمان لأن سبب الوجوب وجد مطلقا فيثبت الوجوب مطلقا .
و إن كان معلقا بشرط نحو أن يقول : إن شفى الله مريضي أو إن قدم فلان الغائب فلله علي أن أصوم شهرا أو أصلي ركعتين أو أتصدق بدرهم و نحو ذلك فوقته وقت الشرط فما لم يوجد الشرط لا يجب بالإجماع و لو فعل ذلك قبل وجود الشرط يكون نفلا لأن المعلق بالشرط عدم قبل وجود الشرط و هذا لأن تعليق النذر بالشرط هو إثبات النذر بعد وجود الشرط كتعليق الحرية بالشرط إثبات الحرية بعد وجود الشرط فلا يجب قبل وجود الشرط لانعدام السبب قبله و هو النذر فلا يجوز تقديمه على الشرط لأنه يكون أداء قبل الوجوب و قبل وجود سبب الوجوب فلا يجوز كما لا يجوز التكفير قبل الحنث لأنه شرط أن يؤديه بعد وجود الشرط فيلزمه مراعاة شرطه لقوله عليه الصلاة و السلام : [ المسلمون عند شروطهم ] و إن كان مقيدا بمكان بأن قال لله علي أن أصلي ركعتين في موضع كذا أو أتصدق على فقراء بلد كذا يجوز أداؤه في غير ذلك المكان عند أصحابنا الثلاثة رحمهم الله و عند زفر لا يجوز إلا في المكان المشروط .
وجه قوله : أنه أوجب على نفسه الأداء في مكان مخصوص فإذا أدى في غيره لم يكن مؤديا ما عليه فلا يخرج عن عهدة الواجب و لأن إيجاب العبد يعتبر بإيجاب الله تعالى مقيدا بمكان لا يجوز أداؤه في غيره كالنحر في الحرم و الوقوف بعرفة و الطواف بالبيت و السعي بين الصفا و المروة كذا ما أوجبه العبد .
و لنا : أن المقصود و المبتغى من النذر هو التقرب إلى الله عز و جل فلا يدخل تحت نذره إلا ما هو قربة و ليس في عين المكان و إنما هو محل أداء القربة فيه فلم يكن بنفسه قربة فلا يدخل المكان تحت نذره فلا يتقيد به فكان ذكره و السكوت عنه بمنزلة و إن كان مضافا إلى وقت بأن قال لله علي أن أصوم رجب أو أصلي ركعتين يوم كذا أو أتصدق بدرهم في يوم كذا فوقت الوجوب في الصدقة هو وقت وجود النذر في قولهم جميعا حتى يجوز تقديمها على الوقت بلا خلاف بين أصحابنا .
و اختلف في الصوم و الصلاة قال أبو يوسف وقت الوجوب فيهما وقت وجود النذر و عند محمد عليه الرحمة وقت مجيء الوقت حتى يجوز تقديمه على الوقت في قول أبي يوسف و لا يجوز في قول محمد C .
وجه قول محمد : أن النذر إيجاب ما شرع في الوقت نفلا ألا ترى أن النذر بما ليس بمشروع نفلا و في وقت لا يتصور كصوم الليل و غيره لا يصح و الناذر أوجب على نفسه الصوم في وقت مخصوص فلا يجب عليه قبل مجيئه بخلاف الصدقة لأنها عبادة مالية لا تعلق لها بالوقت بل بالمال فكان ذكر الوقت فيه لغوا بخلاف العبادة البدنية .
وجه قول أبي يوسف : أن الوجوب ثابت قبل الوقت المضاف إليه النذر فكان الأداء قبل الوقت المذكور أداء بعد الوجوب فيجوز .
و الدليل على تحقق الوجوب قبل الوقت المعين وجهان : .
أحدهما : أن العبادات واجبة على الدوام بشرط الإمكان و انتفاء الحرج بالنصوص و المعقول .
أما النصوص : فقوله عز شأنه : { يا أيها الناس اعبدوا ربكم } و قوله تعالى { اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا } و نحو ذلك .
و أما المعقول فهو العبادة ليست إلا خدمة المولى و خدمة المولى على العبد مستحقة و التبرع من العبد على المولى محال و العبودية دائمة فكان وجوب العبادة عليه دائما و لأن العبادات وجبت شكرا للنعمة و النعمة دائمة فيجب أن يكون شكرها دائما حسب دوام النعمة إلا ان الشرع رخص للعبد تركها في بعض الأوقات فإذا نذر فقد اختار العزيمة و ترك الرخصة فيعود حكم العزيمة كالمسافر إذا اختار صوم رمضان فصام سقط عنه الفرض لأن الواجب عليه هو الصوم إلا أنه رخص له تركه لعذر السفر فإذا صام فقد اختار العزيمة و ترك الرخصة فعاد حكم العزيمة لهذا المعنى كان الشروع في نفل العبادة اللزوم في الحقيقة بما ذكرنا من الدلائل بالشروع إلا أنه لما شرع فقد اختار العزيمة و ترك الرخص كذا في النذر .
و الثاني : أنه وجه سبب الوجوب للحال و هو النذر و إنما الأجل ترفيه يترفه به في التأخير فإذا عجل فقد أحسن في إسقاط الأجل فيجوز كما في الإقامة في حق المسافر لصوم رمضان و هذا لأن الصيغة صيغة إيجاب أعني قوله لله علي أن أصوم و الأصل في كل لفظ موجود في زمان اعتباره فيه فيما يقتضيه في وضع اللغة و لا يجوز إبطاله و لا تغييره إلى غير ما وضع له إلا بدليل قاطع أو ضرورة داعية .
و معلوم أنه لا ضرورة إلى إبطال هذه الصيغة و لا إلى تغييرها و لا دليل سوى ذكر الوقت و أنه محتمل قد يذكر للوجوب فيه كما في باب الصلاة و قد يذكر لصحة الأداء كما في الحج و الأضحية و قد يذكر للترفيه و التوسعة كما في وقت الإقامة للمسافر و الحول في باب الزكاة فكان ذكر الوقت في نفسه محتملا فلا يجوز إبطال صيغة الإيجاب الموجودة للحال مع الاحتمال فبقيت الصيغة موجبة و ذكر الوقت للترفيه و التوسعة كيلا يؤدي إلى إبطال الثابت بيقين إلى أمر محتمل و به تبين أن هذا ليس بإيجاب صوم رجب عينا بل هو إيجاب صوم مقدر بالشهر أي شهر كان فكان ذكر رجب لتقرير الواجب لا للتعيين فأي شهر اتصل الأداء به تعين ذلك الشهر للوجوب فيه و إن لم يتصل به الأداء إلى رجب تعين رجب لوجوب الأداء فيه فكان تعيين كل شهر قبل رجب باتصال الأداء به و تعيين رجب بمجيئه قبل اتصال الأداء بشهر قبله كان في باب الصلاة أنها تجب في جزء من الوقت غير عين و إنما يتعين الوجوب بالشروع إن شرع فيها و إن لم يشرع إلى آخر الوقت تعين آخر الوقت للوجوب و هو الصحيح من الأقاويل على ما عرف في أصول الفقه و كما في النذر المطلق عن الوقت و سائر الواجبات المطلقة عن الوقت من قضاء رمضان و الكفارة و غيرهما أنها تجب في مطلق الوقت في غير عين و إنما يتعين الوجوب إما باتصال الأداء به و إما بآخر العمر إذا صار إلى حال لو لم يؤد لفات بالموت