فصل ـ ما يرجع إلى نفس الركن ـ القسم الأول .
و أما الذي يرجع إلى نفس الركن فمنها : أن لا يلحقه استثناء أصلا و رأسا سواء كان وضعيا أو عرفيا عند عامة العلماء .
و عند مالك : الاستثناء العرفي لا يمنع وقوع الطلاق و سنذكر المسألة إن شاء الله تعالى و الكلام في هذا الشرط يقع في مواضع في بيان أنواع الاستثناء و في بيان ماهية كل نوع و في بيان شرائط صحته .
أما الأول : فالاستثناء في الأصل نوعان : استثناء وضعي و استثناء عرفي أما الوضعي فهو : أن يكون بلفظ موضوع للإستثناء و هو كلمة إلا و ما يجري مجراها نحو سوى و غير و أشباه ذلك .
و أما العرفي : فهو تعليق بمشيئة الله تعالى و أنه ليس باستثناء في الوضع لانعدام كلمة الاستثناء بل الموجود كلمة الشرط إلا أنهم تعارفوا إطلاق اسم الاستثناء على هذا النوع قال الله تعالى : { إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين * و لا يستثنون } أي لا يقولون : إن شاء الله تعالى و بينه و بين الأول مناسبة في معنى ظاهر لفظ الاستثناء وهو المنع و الصرف دون الحقيقة فأطلق اسم الاستثناء عليه و بعض مشايخنا قال : الاستثناء نوعان : استثناء تحصيل و استثناء تعطيل فسمى الأول استثناء تحصيل لأنه تكلم بالحاصل بعد الثنيا و الثاني تعطيلا لما أنه يتعطل الكلام به .
و أما الكلام في بيان ماهية كل نوع : .
أما النوع الأول : فهو تكلم بالباقي بعد الثنيا و هذه العبارة هي المختارة دون قولهم : استخراج بعض الجملة الملفوظة لأن القدر المستثنى إما أن يدخل بعد نص المستثنى منه و إما أن لا يدخل فإن لم يدخل لا يتصور الإخراج و إن دخل يتناقض الكلام لأن نص المستثنى منه يثبت و نص الاستثناء ينفي و يستحيل أن يكون الحكم الواحد في زمان مثبتا و منفيا و لهذا فهم من قوله تعالى : { فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما } ما ذكرنا حتى يصير في التقدير كأنه قال : فلبث فيهم تسعمائة و خمسين عاما لا معنى الإخراج لئلا يؤدي إلى الخلف في خبر الله تعالى .
و أما النوع الثاني : فهو تعليق بالشرط إلا أن الشرط إذا كان مما يتوقف عليه و يعلم وجوده ينزل المعلق عند وجوده و إن كان مما لا يعلم لا ينزل وهذا النوع من التعليق من هذا القبيل لما نذكره إن شاء الله تعالى .
و أما شرط صحته : فلصحته الاستثناء شرائط بعضها يعم النوعين و بعضها يخص أحدهما أما الذي يعمهما جميعا فهو أن يكون الاستثناء موصولا بما قبله من الكلام عند عدم الضرورة حتى لو حصل الفصل بينهما بسكوت أو غير ذلك من غير ضرورة لا يصح و هذا قول عامة الصحابة Bهم و عامة العلماء إلا شيئا روي عن عبد الله بن عباس Bهما أن هذا ليس بشرط و يصح متصلا و منفصلا .
و احتج بما روي عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ لأغزون قريشا ثم قال : بعد سنة إن شاء الله تعالى ] و لو لم يصح لما قال و لأن الاستثناء في معنى التخصيص لأن كل واحد منهما بيان ثم التخصيص يصح مقارنا و متراخيا فكذا الاستثناء يجب أن يكون متصلا و منفصلا .
و لنا : أن الأصل في كل كلام تام بنفسه فإن كان مبتدأ و خبر أن لا يقف حكمه على غيره و الوقف عند الوصل لضرورة و هي ضرورة استدراك الغلط و الضرورة تندفع بالموصول فلا يقف عند عدم الوصل و لهذا لم يقف على الشرط المنقطع فكذا على الاستثناء المنقطع و لأنه عند عدم الوصول ليس باستثناء لغة لأن العرب لم تتكلم به و من تكلم به لا يعدونه استثناء بل يسخرون منه و بهذا تبين أن الرواية عن ابن عباس Bهما لا تكاد تصح لأنه كان إماما في اللغة كما كان إماما في الشريعة .
و أما التخصيص المتراخي : فعند بعض مشايخنا ليس ببيان بل هو فسخ فلا يلزم .
و عند بعضهم : بيان لكن إلحاق البيان بالمجمل و العام الذي يمكن العمل بظاهره متراخيا مشهور عندهم و أنه كثير النظير في كتاب الله عز و جل .
و أما الحديث ففيه أنه قال بعد تلك المقابلة : [ بسنة إن شاء الله تعالى ] و ليس فيه أن قصد به تصحيح الاستثناء فيحمل أنه أراد به استدراك الاستثناء المأمور به في الكتاب العزيز قال عز و جل : { و لا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا * إلا أن يشاء الله } أي إلا أن تقول : إن شاء الله فنسي ذلك فتذكره بعد سنة فأمر باستدراكه بقوله سبحانه و تعالى : { و اذكر ربك إذا نسيت } و يحتمل أنه عليه الصلاة و السلام أضمر في نفسه أمرا و أراد في قلبه و عزم عليه فأظهر الاستثناء بلسانه فقال : إن شاء الله و مثل هذا معتاد فيما بين الناس فلا يصح الاحتجاج به مع الاحتمال .
هذا الذي ذكرنا إذا كان الفصل من غير ضرورة فأما إذا كان لضرورة التنفس فلا يمنع الصحة و لا يعد ذلك فصلا إلا أن يكون سكتة هكذا روى هشام عن أبي يوسف لأن هذا النوع من الفصل مما لا يمكن التحرز عنه فلا يعتبر فصلا و يعطى له حكم الوصل للضرورة .
و أما كون الاستثناء مسموعا فهل هو شرط ؟ ذكر الكرخي أنه ليس بشرط حتى لو حرك لسانه و أتى بحروف الاستثناء يصح و إن لم يكن مسموعا و ذكر الفقيه أبو جعفر الهنداوي : أنه شرط و لا يصح الاستثناء بدونه .
وجه ما ذكر الكرخي : أن الكلام هو الحروف المنظومة و قد وجدت فأما السماع فليس بشرط لكونه كلاما فإن الأصم يصح استثناؤه و إن كان لا يسمع و الصحيح ما ذكره الفقيه أبو جعفر : لأن الحروف المنظومة و إن كانت كلاما عند الكرخي و عندنا هي دلالة على الكلام و عبارة عنه لا نفس الكلام في الغائب و الشاهد جميعا فلم توجد الحروف المنظومة ههنا لأن الحروف لا تتحقق بدون الصوت فالحروف المنظومة لا تتحقق بدون الأصوات المتقطعة بتقطيع خاص فإذا لم يوجد الصوت لم توجد الحروف فلم يوجد الكلام عنده و لا دلالة الكلام عندنا فلم يكن استثناء و الله الموفق .
و أما الذي يخص أحد النوعين و هو الاستثناء الوضعي فهو أن يكون المستثنى بعض المستثنى منه لا كله لما ذكرنا أن الاستثناء تكلم بالباقي بعد الثنيا و لا يكون تكلما بالباقي إلا أن يكون المستثنى بعض المستثنى منه لا كله و لأن الاستثناء يجري مجرى التخصيص و التخصيص يرد على بعض أفراد العموم لا على الكل لأن ذلك يكون نسخا لا تخصيصا و كذا الاستثناء نسخ الحكم و نسخ الحكم يكون بعد ثبوته و الطلاق بعد وقوعه لا يحتمل النسخ فبطل الاستثناء .
و من مشايخنا من قال : إن استثناء الكل من الكل إنما يصح لأنه رجوع و الطلاق مما لا يحتمل الرجوع عنه و كذا العتاق و كذا الإعتاق و كذا الإقرار و هذا غير سديد لأنه لو كان كذلك لصح فيما يحتمل الرجوع و هو الوصية و مع هذا لا يصح حتى لو قال : أوصيت لفلان بثلث مالي إلا ثلث مالي لم يصح الاستثناء و تصح الوصية فدل أن عدم الصحة ليس لمكان الرجوع بل لما قلنا : إنه ليس باستثناء و يصح استثناء البعض من الكل سواء كان المستثنى أقل من المستثنى منه أو أكثر عند عامة العلماء و عامة أهل اللغة .
و روي عن أبي يوسف : أنه لا يصح استثناء الأكثر من الأقل و هو قول الفراء و جه قولهما : أن الاستثناء من باب اللغة و أهل اللغة لم يتكلموا باستثناء الأكثر من الأقل و لأن الاستثناء وضع في الأصل لاستدراك الغلط و الغلط يجري في الأقل لا في الأكثر .
و لنا : أن أهل اللغة قالوا الاستثناء بالباقي بعد الثنيا من غير فصل بين الأقل و الأكثر إلا أنه قل استعمالهم الاستثناء في مثله لقلة حاجتهم إليه لقلة وقوع الغلط فيه و هذا لا يكون منهم إخراجا للفظ من أن يكون استثناء حقيقة كمن أكل لحم الخنزير لا يمتنع أحد من أهل اللسان من إطلاق القول بأن أكل لحم الخنزير و إن كان يقل استعمال هذه اللفظة لكن قلة استعمالها لقلة وجود الأكل لا لانعدام معنى اللفظ حقيقة كذا هذا .
و على هذا تخرج مسائل هذا النوع إذا قال لامرأته : أنت طالق ثلاثا إلا واحدة يقع ثنتان لأن هذا استثناء صحيح لكونه تكلما بالباقي بعد الثنيا و الباقي بعد استثناء الواحدة من الثلاث ثنتان إلا أن للثنتين اسمين أحدهما ثنتان و الآخر ثلاث إلا واحدة و لو قال : إلا اثنتين يقع واحدة لأن استثناء الأكثر من الأقل استثناء صحيح أيضا لما ذكرنا .
و لو قال : إلا ثلاثا وقع الثلاث لأن الاستثناء لم يصح لأنه استثناء الكل من الكل و لو قال أنت طالق ثلاثا إلا واحدة و واحدة و واحدة وقع الثلاث و بطل الاستثناء في قول أبي حنيفة و محمد و قال أبو يوسف : جاز استثناء الأولى و الثانية و بطل استثناء الثالثة و تلزمه واحدة .
وجه قوله : أن استثناء الأولى و الثانية استثناء البعض من الكل إلا أنه لو سكت عليه لجاز فأما استثناء الثالثة فاستثناء الكل من الكل فلم يصح فالتحق بالعدم فيقع واحدة .
و لأبي حنيفة و محمد : أن أو الكلام في الاستثناء يقف على آخره فكان استثناء الكل من الكل فلا يصح كما لو قال : أنت طالق ثلاثا إلا ثلاثا و لأنه لما قال : إلا واحدة و واحدة و واحدة فقد جمع بين الكل بحرف الجمع فصار كأنه قال : إلا ثلاثا .
و لو قال : أنت طالق واحدة و واحدة و واحدة إلا ثلاثا يقع الثلاث و يبطل الاستثناء في قولهم جميعا لأن الاستثناء إذا كان موصولا يقف أول الكلام على آخره فكان الاستثناء راجعا إلى الكل فبطل و لأنه ذكر جملتين و جمع بين كل جملة بحرف الجمع فكان استثناء الجملة من الجملة فلا يصح و إذا قال : أنت طالق اثنتين و اثنتين إلا اثنتين يقع اثنتان في قول أبي يوسف و محمد و قال زفر : يقع ثلاث كذا ذكر القدوري و لم يذكر قول أبي حنيفة .
وجه قول زفر : أن الأصل في الاستثناء لأنه ينصرف إلى ما يليه لأنه أقرب إليه و هو متصل به أيضا و لا ينصرف إلى غيره إلا بدليل و متى انصرف إلى ما يليه كان استثناء الكل من الكل فلا يصح .
و لهما : أن الاستثناء يصحح ما أمكن و لو جعلنا مما يليه لبطل و لو صرف إلى الجملتين يصح لأنه يصير مستثنيا من كل ثنتين واحدة فبقي من كل جملة واحدة .
و روى هشام بن عبد الله الرازي : عن محمد فيمن قال : أنت طالق اثنتين و اثنتين إلا ثلاثا أنه يقع ثلاث لأنه لا يمكن تصحيح الاستثناء ههنا لأن أول الكلام في كل واحجة من الجملتين وقف على آخره فصار كأنه قال : أنت طالق ثلاثا إلا ثلاثا لأنه لا يمكن أن يجعل الاستثناء في الجملتين على السواء لأنه يصير مستثنيا من كل جملة تطليقة و نصفا و هذا استثناء جميع الجملة لأن استثناء واحدة ونصف استثناء ثنتين لأن ذكر البعض فيما لا يتبعض ذكر لكله فكان استثناء الكل من الكل و لا يمكن أن يجعل من إحدى الجملتين لأنه يكون استثناء الكل من الكل و زيادة و لا يمكن أن يصرف اثنتان من الثلاث أو جملة واحدة إلى جملة أخرى لأن هذا خلاف تصرفه و إنشاء تصرف آخر لم يوجد منه فتعذر تصحيح هذا الاستثناء من جميع الجوه فبطل و الإشكال على القسم الأول أن ذكر البعض فيما لا يتبعض لا يكون ذكرا للكل في الاستثناء بل هو ملحق بالعدم بدليل أنه لو قال : أنت طالق ثلاثا إلا واحدة و نصفا يقع عليها ثنتان .
و لو كان ذكر بعض الطلاق ذكرا لكله في الاستثناء لوقع عليها واحدة لأنه يصير كأنه قال : أنت طالق ثلاثا إلا اثنتين و كان الفقه في ذلك أن الاستثناء تكلم بالباقي بعد الثنيا فينظر إلى الباقي و الباقي ههنا تطليقة و نصف و نصف تطليقة تطليقة كاملة فيقع ثنتان كأنه قال : أنت طالق اثنتين و إذا لم يصر ذكر البعض ذكرا للكل في الاستثناء يصير مستثنيا من كل جملة تطليقة واحدة و تلغو واحدة من الاستثناء و هذا أولى من إلغاء الكل فيجب أن يقع ثنتان كما في المسألة الأولى عندهما .
و في هذه المسألة إشكال على ما روى هشام عن محمد و روى هشام أيضا عن محمد فيمن قال : أنت طالق اثنتين و أربعا إلا خمسا أنها تطلق ثلاثا لأنه لا يمكن تصحيح الاستثناء بالصرف إلى الجملتين على الشيوع و لا بالصرف إلى واحدة منهما و لا يصرف البعض عينا إلى جملة و البعض إلى جملة أخرى لما قلنا و الإشكال على القسم الأول على ما بينا .
و قال بشر عن أبي يوسف فيمن قال لامأته : أنت طالق واحدة و اثنتين إلا اثنتين أنه ثلاث و هو قول محمد .
و الوجه فيه ما ذكرنا و الإشكال على نحو ما بينا هذا إذا كان لفظ الاستثناء من جنس المستثنى منه فإن كان شيئا خلاف جنسه يصح الاستثناء و لا تطلق و إن أتى على جميع المسمى نحو أن يقول نسائي طوالق إلا هؤلاء و ليس له نساء غيرهن فإنه يصح الاستثناء و لا تطلق واحدة منهن لأن الاستثناء يعتبر فيه اللفظ و الإشارة مع التسمية مختلفان لفظا فصح الاستثناء بخلاف قوله نسائي طوالق إلا نسائي و لأن عند اختلاف اللفظين يكون معناه نسائي غير هؤلاء طوالق و هذا إضافة الطلاق إلى غير هؤلاء .
و قيل : هذا إذا كان الأربع ما دون هؤلاء فإذا كن أربعا لا يصح الاستثناء و يطلقن كلهن لأنه لا يتصور استثناء غيرهن فصار كما لو قال : نسائي طوالق و لا نساء له و هناك لا يصح الاستثناء و يطلقن كلهن فيصير التقدير كأنه قال نسائي إلا نسائي طوالق و لو قال ذلك طلقن كذا هذا و كذا هذا في العتاق إذا قال عبيدي كلهم أحرار إلا عبيدي لم يصح الاستثناء و عتقوا جميعا .
و لو قال : عبيدي أحرار إلا هؤلاء و ليس له عبيد غير هؤلاء لم يعتق واحد منهم و كذلك هذا في الوصية إذا قال : أوصيت بثلث مالي لفلان أو أوصيت لفلان بثلث مالي إلا ألف درهم و مات و ثلث ماله ألف درهم صح الاستثناء و بطلت الوصية .
و لو قال : أوصيت بثلث مالي إلا ثلث مالي لم يصح الاستثناء و كان للموصى له ثلث ماله و لو قال : أنت طالق عشرا إلا تسعا يقع واحدة و الأصل أنه إذا تكلم بالطلاق بأكثر من الثلاث ثم استثنى منه فالاستثناء يرجع إلى جملة الكلام لا إلى القدر الذي يصح وقوعه و هو الثلاث خاصة فيتبع اللفظ لا الحكم فلا يثبت الحكم في القدر المستثنى و يثبت فيما بقي قدر ما يصح ثبوته لأنه تكلم بالباقي بعد الثنيا فإذا قال : أنت طالق عشرا إلا تسعا يقع واحدة .
و لو قال : إلا ثمانيا يقع اثنتان و إذا قال : إلا سبعا يقع ثلاث لما ذكرنا أن الاستثناء يتبع اللفظ لا الحكم فصح الاستثناء و دخل على الجملة الملفوظة و عمل فيها فتبين أن القدر المستثنى لم يدخل في الجملة فلا يقع قدر ما دخل عليه الاستثناء و يقع الباقي و هو الثلاث لأنه مما يصح وقوعه و كذلك إذا قال إلا ستا أو خمسا أو أربعا أو ثلاثا أو اثنتين أو واحدة يقع ثلاث لأن الثلاث هي التي يصح وقوعها مما بقي إذ لا يزيد الطلاق على الثلاث .
و لو قال : أنت طالق ثلاثا إلا ثلاثا إلا واحدة تقع واحدة و الأصل في مسائل الاستثناء من الاستثناء أن لتخريجها طريقين : .
أحدهما : أنه ينظر إلى الاستثناء الأخير فيجعل استثناء مما يليه ثم ينظر إلى ما بقي منه فيجعل ذلك استثناء مما يليه هكذا إلى الاستثناء الأول ثم ينظر إلى الباقي من الاستثناء الأول فيستثنى ذلك القدر من الجملة الملفوظة فما بقي منها فهو الواقع فإذا قال : أنت طالق ثلاثا إلا ثلاثا إلا واحدة يستثنى الواحدة من الثلاثة يبقى اثنتان يستثنيهما من الثلاثة فتبقى واحدة كأنه قال : أنت طالق ثلاثا إلا اثنتين فإن قال : أنت طالق ثلاثا إلا ثلاثا إلا اثنتين يقع اثنتان لأنك تستثني الاثنتين من الثلاثة فتبقى واحدة تستثنيها من الثلاثة فيبقى اثنتان .
فإن قال : أنت طالق ثلاثا إلا ثلاثا إلا اثنتين إلا واحدة يقع واحدة لأنك تستثني الواحدة من اثنتين فيبقى واحدة تستثنيها من الثلاث فيبقى اثنتان تستثنيهما من الثلاث فيبقى واحدة هي الواقع و كذلك إذا قال : أنت طالق عشرا إلا تسعا إلا ثمانيا إنك تستثني ثمانيا من تسع فبقى واحدة تستثنيها من العشر فيبقى تسع كأنه قال : أنت طالق تسعا فيقع ثلاث .
فإن قال : أنت طالق عشرا إلا تسعا إلا واحدة يقع ثنتان لأنك إذا استثنيت الواحدة من التسع يبقى ثمانية تستثنيها من العشر فيبقى اثنتان كأنه قال : أنت طالق عشرا إلا ثمانيا و على هذا جميع هذا الوجه و قياسه .
و الثاني : يرجع إلى عقد اليد و هو أن تعقد العدد الأول بيمينك و الثاني بيسارك و الثالث تضمه إلى ما في يمينك و الرابع بيسارك تضمه إلى ما بيسارك ثم تطرح ما اجتمع في يسارك من جملة ما اجتمع في يمينك فما بقي في يمينك فهو الواقع و الله أعلم .
و أما مسائل النوع الثاني من الاستثناء و هو تعليق الطلاق بمشيئة الله عز و جل فنقول : إذا علق طلاق امرأته بمشيئة الله يصح الاستثناء و لا يقع الطلاق سواء قدم الطلاق على الاستثناء في الذكر بأن قال : أنت طالق إن شاء الله أو أخره عنه بأن قال : إن شاء الله تعالى فأنت طالق و هذا قول عامة للعلماء .
و قال مالك : لا يصح الاستثناء و الطلاق واقع و على هذا تعليق العتق و النذر و اليمين بمشيئة الله سبحانه و تعالى .
وجه قوله : أن هذا ليس تعليقا بشرط لأن الشرط ما يكون معدوما على خطر الوجود و مشيئة الله تعالى أزلية لا تحتمل العدم فكان هذا تعليقا بأمر كائن فيكون تحقيقا لا تعليقا كما لو قال : أنت طالق إن كانت السماء فوقنا .
و لنا : قوله عز و جل خبرا عن موسى عليه و على نبينا أفضل الصلاة و السلام { ستجدني إن شاء الله صابرا } و صح استثناؤه حتى لم يصر بترك الصبر مخلفا في الوعد و لولا صحة الاستثناء لصار مخلفا في الوعد بالصبر و الخلف في الوعد لا يجوز و النبي معصوم و قال سبحانه و تعالى : { و لا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا * إلا أن يشاء الله } أي إلا أن تقول : إن شاء الله و لو لم يحصل به صيانة الخبر عن الخلف في الوعد لم يكن للأمر به معنى .
و روي عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ من حلف بطلاق أو عتاق و قال : إن شاء الله فلا حنث عليه ] و هذا نص في الباب و روي أنه صلى الله عليه و سلم قال : [ من استثنى فله ثنياه ] و لأن تعليق الطلاق بمشيئة الله تعالى تعليق بما لا يعلم وجوده لأنا لا ندري أنه شاء وقوع هذا الطلاق أو لم يشأ على معنى أن وقوع هذا الطلاق هل دخل تحت مشيئة الله تعالى أو لم يدخل فإن دخل وقع و إن لم يدخل لا يقع لأن ماشاء الله كان و ما لم يشأ لم يكن فلا يقع بالشك و به تبين أن هذا ليس تعليقا بأمر كائن و لأن دخول الوقوع تحت مشيئة الله تعالى غير معلوم و هذا هو تفسير تعليق الطلاق بمشيئة الله عز و جل و من الناس من فرق بين الطلاق و العتاق فقال : لا يقع الطلاق و يقع العتاق و زعم بأنه لم توجد المشيئة في الطلاق و وجدت في العتاق لأن الطلاق مكروه الشرع و العتق مندوب إليه و هذا هو مذهب المعتزلة أن إرادة الله تعالى تتعلق بالقرب و الطاعات لا بالمكان و المعاصي و أن الله تعالى أراد كل خير و صلاح من العبد ثم العبد قد لا يفعله لسوء اختياره و بطلان مذهبهم يعرف في مسائل الكلام ثم إنهم ناقضوا حيث قالوا : فيمن حلف فقال : لأصومن غدا إن شاء الله تعالى أو قال : لأصلين ركعتين أو لأقضين دين فلان فمضى الغد و لم يفعل شيئا من ذلك أنه لا يحنث و لو شاء الله تعالى كل خير لحنث لأن هذه الأفعال خيرات و قد شاءها عندهم .
و كذلك لو قال : أنت طالق لو شاء الله تعالى أو قال : إن لو يشاء الله تعالى لما قلنا و كذا لو قال : إلا أن يشاء الله لأن معناه أن يشاء الله أن لا يقع و ذلك غير معلوم و كذا لو قال : ما شاء الله تعالى لأن معناه الذي شاءه الله تعالى و لو قال : أنت طالق إن لم يشأ الله تعالى يكون المستثنى كقوله : إن شاء الله تعالى لأن هذا في الحقيقة تعليق بعدم دخول الوقوع تحت مشيئة الله تعالى و ذلك غير معلوم .
و لو قال : أنت طالق و إن شاء الله أو قال : فإن شاء الله تعالى لم يكن استثناء عند أبي يوسف لأنه حال بين الطلاق و بين الاستثناء حرف هو حشو فيصير فاصلا بمنزلة السكتة فيمنع التعليق بالشرط فيقع في الحال .
و لو قال : أنت طالق ثلاثا و ثلاثا إن شاء الله تعالى لا يصح الاستثناء ويقع الثلاث في قول أبي حنيفة و قال أبو يوسف و محمد : الاستثناء جائز و على هذا الخلاف إذا قال : أنت طالق ثلاثا و واحدة إن شاء الله تعالى