فصل : و أما الذي يرجع إلى الطبيب .
و أما الذي يرجع إلى الطيب و ما يجري مجراه من إزالة الشعث و قضاء التفث .
أما الطيب فنقول : لا يتطيب المحرم لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ المحرم الأشعث الأغبر ] و الطيب ينافي الشعث .
و روي أن رجلا جاء النبي صلى الله عليه و سلم و عليه مقطعان مضمخان بالخلوق فقال : ما أصنع في حجتي يا رسول الله فسكت النبي صلى الله عليه و سلم حتى أوحي الله إليه فلما سرى عنه قال صلى الله عليه و سلم : [ أين السائل ؟ فقال الرجل أنا فقال : اغسل هذا الطيب عنك و اصنع في حجتك ما كنت صانعا في عمرتك ] .
و روينا : أن محرما و قصت به ناقته فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ لا تخمروا رأسه و لا تقربوه طيبا فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا ] جعل كونه محرما علة حرمة تخمير الرأس و التطيب في حقه فإن طيب عضوا كاملا كالرأس و الفخذ و الساق و نحو ذلك فعليه دم و إن طيب أقل من عضو فعليه صدقة و قال محمد : يقوم ما يجب فيه الدم فيتصدق بذلك القدر حتى لو طيب ربع عضو فعليه من الصدقة قدر قيمة ربع شاة و إن طيب نصف عضو تصدق بقدر قيمة نصف شاة هكذا .
و ذكر الحاكم في المنتقى في موضع : إذا طيب مثل الشارب أو بقدره من اللحية فعليه صدقة .
و في موضع : إذ طيب ربع الرأس فعليه دم أعطى الربع حكم الكل كما في الحلق .
و قال الشافعي : في قليل الطيب و كثيره دم لوجوده الارتفاق و محمد اعتبر البعض بالكل و الصحيح ما ذكر في الأصل لأن تطيب عضو كامل الارتفاق كامل فكان جناية كاملة فيوجب كفارة كاملة و تطيب ما دونه ارتفاق قاصر فيوجب كفارة قاصرة إذا الحكم يثبت على قدر السبب فإن طيب مواضع متفرقة من كل عضو يجمع ذلك كله فإذا بلغ عضوا كاملا يجب عليه دم و إن لم يبلغ فعليه صدقة لما قلنا .
و إن طيب الأعضاء كلها فإن كان في مجلس واحد فعليه دم واحد لأن جني الجناية واحد حظرها إحرام واحد من جهة من غير متقومة فيكفيه دمة واحد و إن كان في مجلسين مختلفين بأن طيب كل عضو في مجلس على حدة فعليه لكل واحد دم في قول أبي حنيفة و أبي يوسف سواء للأول لم يذبح كفر للأول أو لم يكفر .
و قال محمد : إن ذبح للأول فكذلك و إن لم يذبحه فعليه دم واحد و الاختلاف فيه كالاختلاف في الجماع بأن جامع قبل الوقوف بعرفة ثم جامع إنه إن كان ذلك في مجلس واحد يجب على كل واحد و إن كان في مجلسين مختلفين يجب على كل واحد منهما دمان في قول أبي حنيفة و أبي يوسف .
و عند محمد : إن ذبح للأول فعليه دم آخر و إن لم يذبح يكفي دم واحد قياسا على كفارة الإفطار في شهر رمضان و سنذكر المسألة إن شاء الله تعالى .
و لو ادهن بدهن فإن كان الدهن مطيبا كدهن البنفسج و الورد و الزنبق و البان و الحري و سائر الأدهان التي فيها الطيب فعليه دم إذا بلغ عضوا كاملا و حكي عن الشافعي أن البنفسج ليس بطيب و أنه غير سديد لأنه دهن مطيب فأشبه البان و غيره من الأدهان المطيبة و إن كان غير مطيب بأن أدهن بزيت أو بشيرج فعليه دم في قول أبي حنيفة و عند أبي يوسف و محمد : عليه صدقة .
و قال الشافعي : إن استعمله في شعره فعليه دم و إن استعمله في بدنة فلا شيء عليه و احتجا بما روي أن رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ادهن بزيت وهو محرم ] ولو كان ذلك موجبا للدم لما فعل صلى الله عليه و سلم لأنه ما كان يفعل ما يوجب الدم و لأن غير المطيب منة الأدهان يستعمل استعمال الغذاء فأشبه اللحم و الشحم و السمن إلا أنه يوجب الصدقة لأنه يقتل الهوام لا لكونه طيبا .
و أبي حنيفة : ما روي عن أم حبيبة Bها أنه لما نعي إليها وفاة أخيها قعدت ثلاثة أيام ثم استدعت بزنة زيت و قالت : ما لي إلى الطيب من حاجة لكني سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ لا يحل لامرأة تؤمن بالله و اليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاثة أيام إلا على زوجها أربعة أشهر و عشرا ] سمت الزيت طيبا و لأنه أصل الطيب بدليل أنه يطيب بإلقاء الطيب فيه فإذا استعمله على وجه الطيب كان كسائر الأدهان المطيبة و لأنه يزيل الشعث الذي هو علم الإحرام و شعاره على ما نطق به الحديث فصار جارحا إحرامه بإزالة عمله فتكاملت جنايته فيجب الدم و الحديث محمول على حال الضرورة لأنه صلى الله عليه و سلم كما كان لا يفعل ما يوجب الدم كان لا يفعل ما يوجب الصدقة .
و عندهما : تجنب الصدقة فكان المراد منه حالة العذر و الضرورة ثم إنه ليس فيه أنه يكفر فيحتمل أنه فعل و كفر فلا يكون حجة .
و لو داوى بالزيت جرحه أو شقوق رجليه فلا كفارة عليه لأنه ليس بطيب بنفسه و إن كان أصل الطيب لكنه ما استعمله على وجه الطيب فلا تجنب به الكفارة لأنه طيب في نفسه فيستوي فيه استعماله للتطيب أو لغيره .
و ذكر محمد في الأصل و إن دهن شقاق رجليه طعن عليه في ذلك فقيل : الصحيح شقوق رجليه و إنما قال محمد : ذلك اقتداء بعمر بن الخطاب Bه فإنه قال هكذا في هذه المسألة و من سيرة أصحابنا الاقتداء بألفاظ الصحابة و معاني كلامهم Bهم و إن ادهن بشحم أو سمن فلا شيء عليه لأنه ليس بطيب في نفسه و لا أصل للطيب بدليل أنه لايطيب بإلقاء الطيب فيه و لا يصير طيبا بوجه .
و قد قال أصحابنا : إن الأشياء التي تستعمل في البدن على ثلاثة أنواع : نوع هو طيب مخص معد للتطيب به كالمسك و الكافور و العنبر و غير ذلك و تجب الكفارة على أي وجه استعمل حتى قالوا : لو داوى عينه بطيب تجب عليه الكفارة لأن العين عضو كامل استعمل فيه الطيب فتجب الكفارة .
و نوع ليس بطيب بنفسه و لا فيه معنى الطيب ولا يصير طيبا بوجه كالشحم فسواء أكل أو ادهن به أو جعل في شقاق الرجل لا تجب الكفارة .
و نوع ليس بطيب بنفسه لكنه أصل الطيب يستعمل على وجه الطيب و يستعمل على وجه الإدام كالزيت و الشبرج فيعتبر فيه الاستعمال فإن استعمل استعمال الأدهان في البدن يعطى له حكم الطيب و إن استعمل في مأكول أو شقاق رجل لا يعطى له حكم الطيب كالشحم و لو كان الطيب في طعام طبخ و تغير فلا شيء على المحرم في أكله سواء كان يوجد ربه أو لا لأن الطيب صار مستهلكا في الطعام بالطبخ و إن لم يطبخ يكره إذا كان ريحه يوجد منه و لا شيء عليه لأن الطعام غالب عليه فكان الطيب مغمورا مستهلكا فيه إن أكل عين الطيب غير مخلوط بالطعام فعليه الدم إذا كان كثيرا .
و قالوا في الملح : يجعل فيه الزعفران أنه إن كان الزعفران غالبا فعليه الكفارة لأن الملح يصير تبعا له فلا يخرجه عن حكم الطيب و إن كان الملح غالبا فلا كفارة عليه لأنه ليس فيه معنى الطيب .
و قد روي عن ابن عمر Bهما : أنه يأكل الخشكنا بخ الأصفر و هو محرم و يقول : لا بأس بالخبيص الأصفر للمحرم فإن تداوى المحرم بما لا يؤكل من الطيب لمرض أو علة أو اكتحل الطيب لعله فعليه أي الكفارات شاء لما ذكرنا أن ما يحظره إلا حرام إذا فعله المحرم لضرورة و عذر فعليه إحدى الكفارات الثلاث و يكره للمحرم أن يشم الطيب و الريحان كذا روي عن ابن عمر و جابر Bهما : [ أنهما كرها شم الريحان للمحرم ] .
و عن ابن عباس Bهما : أنه لا بأس به و لو شمه لا شيء عليه عندنا و قال الشافعي تجب عليه الفدية .
وجه قوله : أن الطيب ماله رائحة و الريحان له رائحة طيبة فكان طيبا و غنا نقول : نعم إنه طيب لكنه لم يلتزق ببدنه و لا بثيابه شيء منه و إنما شم رائحته فقط و هذا لا يوجب الكفارة كما لو جلس عند العطارين فشم رائحة العطر إلا أنه كره لما فيه من الارتفاق و كذا كل نبات له رائحة طيبة و كل ثمرة لها رائحة طيبة لأنه ارتفاق بالرائحة و لو فعل لا شيء عليه لأنه لم يلتزق ببدنه و ثيابه شيء منه .
و حكى عن مالك : أنه كان يأمر برفع العطارين بمكة في أيام الحج و ذلك غير سديد لأن النبي صلى الله عليه و سلم و أصحابه لم يفعلوا ذلك فإن شم المحرم رائحة طيب تطيب به قبل الإحرام لا بأس به لأن استعمال الطيب حصل في وقت مباح فبقي شم نفس الرائحة فلا يمنع منه كما لو مر بالعطارين .
و روى ابن سماعة عن محمد : أن رجلا لو دخل بيتا قد أجمر و طال مكثه بالبيت فعلق في ثوبه شيء يسير فلا شيء عليه لأن الرائحة لم تتعلق بعين و بمجرد الرائحة لا يمنع منها فإن استجمر بثوب فعلق بثوبه شيء كثير فعليه دم لأن الرائحة ههنا تعلقت بعين و قد استعملها في بدنه فصار كما لو تطيب .
و ذكر ابن رستم عن محمد : فيمن اكتحل بكحل قد طيب مرة أو مرتين فعليه صدقة و إن كان كثيرا فعليه دم لأن الطيب إذا غلب الكحل فلا فرق بين استعماله على طريق التداوي أو التطيب فإن مس طيبا فلزق بيده فهو بمنزلة التطيب لأنه طيب به يده و إن لم يقصد به التطيب لأن القصد ليس بشرط لوجوب الكفارة و قالوا : فيمن استلم الحجر فأصاب يده من طيبه أن عليه الكفارة لأنه استعمل الطيب و إن لم يقصد به التطيب و وجوب الكفارة لا يقف على القصد فإن داوى جرحا أو تطيب لعلة ثم حدث جرح آخر قبل أن يبرأ الأول فعليه كفارة واحدة لأن العذر الأول باق فكانت جهة الاستعمال واحدة فتكفيه كفارة واحدة كما قلنا في لبس المخيط و لا بأس بأن يحتجم المحرم و يفتصد و يبطء القرحة و يعصب عليه الخرقة و يجبر الكسر و ينزع الضرس إذا اشتكى منه و يدخل الحمام و يغتسل لما روي أن رسول الله صلى الله عليه و سلم [ احتجم و هو صائم محرم ] بالفاحة و الفصد و بط القرحة و الجرح في معنى الحجامة و لأنه ليس في هذه الأشياء إلا شق الجلدة و المحرم غير ممنوع عن ذلك و لأنها من باب التداوي و الإحرام لا يمنع من التداوي و كذا جبر الكسر من باب العلاج و المحرم لا يمنع منه و كذا قلع الضرس و هو أيضا من باب إزالة الضرر فيشبه قطع اليد من الأكلة و ذا لا يمنع منه المحرم كذا هذا .
و أما الاغتسال فلما روي أن رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ اغتسل و هو محرم و قال : ما نفعل بأوساخنا ] فإن غسل رأسه و لحيته بالخطمي فعليه دم في قول أبي حنيفة و عند أبي يوسف و محمد عليه صدقة لهما أن الخطمي ليس بطيب و إنما يزيل الوسخ فأشبه الأشنان فلا يجب به الدم و تجب الصدقة لأنه يقتل الهوام لا لأنه طيب .
و لأبي حنيفة : أن الخطمي طيب لأنه له رائحة طيبة فيجب به الدم كسائر أنواع الطيب و لأنه يزيل الشعث و يقتل الهوام فأشبه الحلق فإن خضب رأسه و لحيته بالحناء فعليه دم لأن الحناء طيب لما روي أن رسول الله صلى الله عليه و سلم [ نهى المعتدة أن تختضب بالحناء و قال : الحناء طيب ] و لأن الطيب ماله رائحة طيبة و للحناء رائحة طيبة فكان طيبا و إن خضبت المحرمة يديها بالحناء فعليها دم و إن كان قليلا فعليها صدقة لأن الارتفاق الكامل لا يحصل إلا بتطيب عضو كامل و القسط طيب لأن له رائحة طيبة و لهذا يتبخر به و يلتذ برائحته و الوسمة ليس بطيب لأنه ليس لها رائحة طيبة بل كريهة و إنما تغير الشعر و ذلك ليس من باب الارتفاق بل من باب الزينة فإن خاف أن يقتل دواب الرأس تصدق بشيء لأنه يزيل التفث .
و روي عن أبي يوسف : فيمن خضب رأسه بالوسمة أن عليه دما لا لأجل تغطية الرأس و الكحل ليس بطيب و للمحرم أن يكتحل بكحل ليس فيه طيب .
و قال ابن أبي ليلى : هو طيب و ليس للمحرم أن يكتحل به و هذا غير سديد لأنه له رائحة طيبة فلا يكون طيبا و يستوي في وجوب الجزاء بالتطيب الذكر و النسيان و الطوع و الكره عندنا كما في لبس الحاظر و الموجب للجزاء و كذا القارن و المفرد إلا أن على القارن مثلي ما على المفرد عندنا لأنه محرم بإحرامين فأدخل نقصا في إحرامين فيؤاخذ بجزائين و لا يحل للقارن و المفرد التطيب ما لم يحلقا أو يقصرا لبقاء الإحرام قبل الحلق أو التقصير فكان الحاظر باقيا فيبقى الحظر و كذا المعتمر لما قلنا و قد ذكرنا ذلك فيما تقدم و الله أعلم