فصل : و أما حكم الإحصار .
و أما حكم الإحصار فالإحصار يتعلق به أحكام لكن الأصل فيه حكمان أحدهما جواز التحلل عن الإحرام و الثاني و جوب قضاء ما أحرم به بعد التحلل أما جواز التحلل فالكلام فيه مواضع : في تفسير التحلل و في بيان جوازه و في بيان ما يتحلل به و في بيان مكانه و في بيان زمانه و في بيان حكم التحلل .
أما الأول : فالتحلل هو فسخ الإحرام و الخروج منه بالطريق الموضوع له شرعا و أما دليل جوازه فقوله تعالى : { فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي } و فيه إضمار و معناه و الله أعلم فإن أحصرتم عن إتمام الحج و العمرة و أردتم أن تحلوا فاذبحوا ما تيسر من الهدي إذ الإحصار لا يوجب الهدي .
ألا ترى أن له أن لا يتحلل و يبق محرما كما كان إلى أن يزول المانع فيمضي في موجب الإحرام و هو كقوله تعالى : { فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية } معناه فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه فحلق ففدية و إلا فكون الأذى في رأسه لا يوجب الفدية و كذا قوله تعالى : { فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر } معناه فأفطر فعدة من أيام أخر و إلا فنفس المرض و السفر لا يوجب الصوم في عدة أيام أخر و كذا قوله : { فمن اضطر غير باغ و لا عاد فلا إثم عليه } معناه فاكل فلا إثم عليه و إلا فنفس الإضطرار لا يوجب الإثم كذا ههنا و لأن المحصر محتاج إلى التحلل لأنه منع عن المضي في موجب الإحرام على وجه لا يمكنه الدفع فلو لم يجز لبقي محرما لا يحل له ما حظره الإحرام إلى أن يزول المانع فيمضي في موجب الإحرام و فيه من الضرر و الحرج ما لا يخفي فمست الحاجة إلى التحلل و الخروج من الإحرام دفعا للضرر و الحرج و سواء كان الإحصار عن الحج أو عنهما عند عامة العلماء لما ذكرنا و الله D أعلم .
و أما بيان ما يتحلل فالمحصر نوعان : نوع لا يتحلل إلا بالهدي و نوع يتحلل بغير الهدي أما الذي لا يتحلل إلا بالهدي فكل من منع من المضي في موجب الإحرام حقيقية أو منع منه شرعا حقا الله تعالى لا لحق العبد على ما ذكرنا فهذا لا يتحلل إلا بالهدي وهو أن يبعث بالهدي أو بثمنه ليشتري به هديا فيذبح عنه و ما لم يذبح لا يحل و هذا قول عامة العلماء سواء كان شرط عند الإحرام إلا حلال بغير ذبح عند الإحصار أو لم يشترط .
و قال بعض الناس : المحصر يحل بغير هدي : إلا إذا كان معه هدي فيذبحه و يحل و قيل إنه قول مالك .
و قال بعضهم : إن كان لم يشترط عند الإحرام الإحلال عند الإحصار من غير هدي لا يحل إلا بالهدي و إن كان شرط عند الإحرام الإحلال عند الإحصار من غير هدي لا يحل إلا بالهدي احتج من قال بالتحلل من غير هدي [ بما روي أن رسول الله صلى الله عليه و سلم حل عام الحديبية عن إحصاره بغير هدي ] لأن الهدي الذي نحره كانةهديا ساقه لعمرته له لإحصاره فنحر هديه علىالنية الأولى و حل من إحصاره بغير دم فدل أن المحصر يحل بغير هدي يحقق ما قلنا إنه ليس في حديث صلح الحديبة أنه نحر دمين و إنما نحر دما واحدا و لو كان المحصر لا يحل إلا بدم لنحر دمين و أنه غير منقول .
و لنا : قوله تعالى : { و لا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله } معناه حتى يبلغ الهدي محله فيذبح نهى D عن حلق الرأس قبل ذبح الهدي في محله و هو الحرم من غير فصل بيم ما إذا كان معه هدي وقت الإحصار أم لا شرط المحصر عند الإحرام الإحلال عند الإحصار أو لم يشرط فيجري على إطلاقه و لأن شرع التحلل ثبت بطريق الرخصة لما فيه من فسخ الإحرام و الخروج منه قبل أو أنه فكان ثبوته بطريق الضرورة و الضرورة تندفع بالتحلل بالهدي فلا يثبت التحلل بدونه .
و أما الحديث فليس فيه ما يدل على أن النبي صلى الله عليه و سلم حل عام الحديبية عن إحصاره بغير هدي إذ لا يتوهم على النبي صلى الله عليه و سلم أن يكون حل من إحصاره بغير هدي و الله تعالى أمر المحصر أن لا يحل حتى ينحر هديه بنص الكتاب العزيز و لكن وجه ذلك و الله أعلم و هو معنى المروي في حديث صلح الحديبية أنه نحر دما واحدا إن الهدي الذي كان ساقه النبي صلى الله عليه و سلم كان هدي متعه أو قران فلما منع عن البيت سقط عنه دم القران فجاز له أن يجعله من دم الإحصار .
فإن قيل ك كيف قلتم إن النبي صلى الله عليه و سلم صرف الهدي عن سبيله و أنتم تزعمون أن من باع هدية التطوع فهو مسيء لما أنه صرف عن سبيله فالجواب أنه لا مشابهة بين الفصلين لأن باعه صرفه عن سبيل التقرب به إلى الله تعالى رأسا فاما النبي صلى الله عليه و سلم فلم يصرف الهدي عن سبيله التقرب أصلا و رأسا بل صرفه إلى ما هو أفضل و هو الواجب و هو دم الإحصار و مما يدل على أن النبي صلى الله عليه و سلم جعل الهدي لإحصاره ما روي أنه لم يحلق حتى تحر هدية و قال : أيها الناس : انحروا و حلوا و الله D أعلم و إذا لم يتحلل إلا بالهدي و أراد التحلل يجب أن يبعث الهدي أو ثمنه ليشتري به الهدي فيذبح عنه و يجب أن يواعدهم يوما معلوما يذبح فه فيحل بعد الذبح و لا يحل قبلعه بل يحرم عليه كما يحرم على المحرم غير المحصر فلا يحلق رأسه و لا يفعل شيئا من محظورات الإحرام حتى يكون اليوم الذي واعدهم فيه و يعلم أنه هدية قد ذبح لقوله تعالى : { و لا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله } حتى لو فعل شيئا من محظورات الإحرام قبل ذبح الهدى يجب عليه ما يجب على المحرم إذا لم يكن محصرا .
و سنذكر ذلك إن شاء الله تعالى في موضعه حتى لو حلق قبل الذبح تجب عليه الفدية سواء حلق لغير أو لعذر لقوله تعالى : { فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك } أي فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه فحلق ففدية من صيام أو صدقة أو نسك كقوله تعالى : { فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر } أي فأفطر فعدة من أيام أخر .
و عن كعب بن عجرة قال : [ في نزلت الآية و ذلك أن النبي صلى الله عليه و سلم مر بي و القمل يتناثر على وجهي ] .
فقال صلى الله عليه و سلم : [ أيؤذيك هوام رأسك فقلت : نعم يا رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال صلى الله عليه و سلم : احلق و اطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع من حنطة أو صوم ثلاثة أيام أو نسك نسيكة ] فنزل الآية و النسك جمع نسيكة و النسيكة : الذبيحة و المراد منه الشاة لإجماع المسلمين على أن الشاة مجزئة في الفدية .
و في بعض الروايات [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لكعب بن عجزة : انسك شاة ] و إذا وجبت الفدية عليه إذا حبق رأسه لأذى بالنص فيجب عليه إذا حلق لا لأذى بدلالة النص لأن العذر سبب تخفيف الحكم في الجملة فلما وجب في حال الضرورة ففي حال الاختيار أولى و لا يجزئ دم الفدية إلا في الحرم كدم الإحصار و دم المتعة و القران .
و أما الصدقة فإنهما يجزيان حيث شاء و قال الشافعي : لا تجزئ الصدقة إلا بمكة .
و جه قوله : أن الهدي يختص بمكة فكذا الصدقة و الجامع بينهما أن أهل الحرم ينتفعون بذلك .
و لنا قوله تعالى : { ففدية من صيام أو صدقة أو نسك } مطلقا عن المكان إلا أن النسك قيد بالمكان بدليل فمن ادعى تقييد الصدقة فعليه الدليل و أما قوله إن الهدي إنما اختص بالحرم لينتفع به أهل الحرم فكذا الصدقة فنقول : هذا الاعتبار فاسد لأنه لا خلاف في أنه لو ذبح الهدي في غير الحرم و تصدق بلحمه في الحرم أنه لا يجوز و لو ذبح في الحرم و تصدق به على غير أهل الحرم يجوز و الدليل على التفرقة بين الهدي و الإطعام أن من قال : لله علي أن أهدي ليس له أن يذبح إلا بمكة .
و لو قال : لله علي إطعام عشرة مساكين أو لله علي عشرة دراهم صدقة له أن يطعم و يتصدق حيث شاء فدل على التفرقة بينهما و لو حل على ظن أنه ذبح عنه ثم تبين أنه لم يذبح فهو محرم كما كان لا يحل ما لم يذبح عنه لعدم شرط الحل و هو ذبح الهدي و عليه لإحلاله تناول محظور إحرامه دم لأنه جنى على إحرامه فيلزمه الدم كفارة لذنبه ثم الهدي بدنة أو بقرة أو شاة و أدناه شاة لما روينا و لأن الهدي في اللغة اسم يهدى أي يبعث و ينقل و في الشرع اسم لما يهدى إلى حرم و كذلك مما يهدى إلى الحرم .
و الأفضل هو البدنة ثم البقرة لما ذكرنا في المتمتع و لما روينا [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لما أحصر بالحديبية نحر البدن و كان يختار من الأعمال أفضلها ] و إن كان قارنا لا يحل إلا بدمين عندنا و عند الشافعي يحل بدم واحد بناء على أصل ذكرناه فيما تقدم أن القارن محرم بإحرامين فلا يحل إلا بهديين و عنده محرم بإحرام واحد و يدخل إحرام العمرة في الحجة فيكفيه دم واحد و لو بعث القارن بهديين و لم يبين أيهما للحج و أيهما للعمرة لم يضره لأن الموجب لهما واحد فلا يشترط فيه تعيين النية كقضاء يومين من رمضان .
و لو بعث القارن بهدي واحد ليتحلل من الحج و يبقى في إحرام العمرة لم يتحلل من واحد منهما لأن تحلل القارن من أحد الإحرامين متعلق بتحلله من الآخر لأن الهدي بدل عن الطواف ثم لا يتحلل بأحد الطوافين عن أحد الإحرامين فكذا بأحد الهديين و لو كان أحرم بشيء واحد لا ينوي حجة و لا عمرة ثم أحصر يحل واحد و عليه عمرة استحسانا لأن الإحرام بالمجهول صحيح لما ذكرنا فيما تقدم و كان البيان إليه إن شاء إلى العمرة لأنه هو المجمل فكان البيان إليه كما في الطلاق و غيره .
و القياس : أن لا تتعين العمرة بالإحصار لعدم التعيين قولا و لا فعلا لأن ذلك أن يأخذ في عمل أحدهما و لم يوجد إلا أنهم استحسنوا و قالوا : تتعين العمرة بالإحصار لأن العمرة أقلهما و هو متيقن و لو كان أحرم بشيء واحد و سماه ثم نسبه و أحصر يحل بهدي واحد و عليه حجة و عمرة إما الحل بهدي واحد فلأنه محرم بإحرام واحد و أيهما كان فإنه يقع التحلل منه بدم واحد و إما لزوم حجة و عمرة فلأنه يحتمل أنه كان قد أحرم بحجة و يحتمل بعمرة فإن كان إحرامه بحجة فالعمرة لا تنوب منابها و إن كان بالعمرة فالحجة لا تنوب منابها فيلزمه أن يجمع بينهما احتياطا ليسقط الفرض عن نفسه بيقين كمن نسي صلاة من الصلوات الخمس أنه يجب عليه إعادة خمس صلوات ليسقط الفرض عن نفسه بيقين كذا هذا .
و كذلك إن لم يحضر و وصل فعليه حجة و عمرة و يكون عليه ما على القارن لأن جمع بين الحج و العمرة على طريق النسك و أما مكان ذبح الهدي فالحرم عندنا .
و قال الشافعي : أن يذبح في الموضع الذي أحصر فيه .
احتج لما روي [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم نحر الهدي عام الحديبية و لم يبلغنا أنه نحر في الحرم ] و لأن التحلل بالهدي ثبت رخصة و تيسيرا و ذلك في الذبح في أي موضع كان .
و لنا : قوله تعالى : { و لا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله } و لو كان كل موضع محلا له لم يكن لذكر المحل فائدة و لأنه عز و جل قال ثم محلها إلى البيت العتيق أي إلى البقعة التي فيها البيت بخلاف قوله تعالى : { و ليطوفوا بالبيت العتيق } إن المراد منه نفس البيت لأن هناك ذكر بالبيت و ههنا ذكر إلى البيت و أما ما روي من الحديث فقد روي في رواية أخرى أنه نحر هدية عام الحديبية في الحرم فتعارضت الروايات فلم يصح الاحتجاج به .
و عن ابن عباس Bهما [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم نزل الحديبية فحال المشركون بينه و بين دخول مكة فجاء سهيل بن عمرو يعرض عليه الصلح و أن يسوق البدن و ينحر حيث شاء فصالحه رسول الله صلى الله عليه و سلم ] و لا يحتمل أن ينحر رسول الله صلى الله عليه و سلم بدنه في الحل مع إمكان النحر في الحرم و هو بقرب الحرم بل هو فيه و روي عن مروان و المسور بن مخرمة قالا : [ نزل رسول الله A بالحديبية في الحل و كان يصلي في الحرم ] فهذا يدل على أنه قادرا على أن ينحر بدنه في الحرم حيث كان يصلي في الحرم و لا يحتمل أن يترك نحر البدن في الحرم و له سبيل النحر في الحرم و لأن الحديبية مكان الحل و الحرم جميعا فلا يحتمل أن ينحر في الحل مع كونه قادرا على النحر في الحرم و لو حل من إحرامه على ظن أنهم ذبحوا عنه في الحرم ثم ظهر أنهم ذبحوا في غير الحرم فهو على إحرامه و لا يحل منه إلا بذبح الهدي في الحرم لفقد شرط التحلل و هو الذبح في الحرم فبقي محرما كما كان و عليه لإحلاله في تناوله محظورات إحرامه دم لما قلنا .
و كذلك لو بعث الهدي و واعدهم أن يذبحوا عنه في الحرم في يوم بعينه ثم حل من إحرامه على ظن أنهم ذبحوا عنه فيه ثم تبين أنهم لم يذبحوا فإنه يكون محرما لما قلنا .
و لو بعث هديين و هو مفرد فإنه يحل من إحرامه بذبح الأول منهما و يكون الآخر تطوعا لوجود شرط الحل عند وجود ذبح الأول منهما و لو كان قارنا لا يحل إلا بذبحهما و لا يحل بذبح الأول لأن شرط الحل في حقه الزمان فما لم يوجد لا يحل و لو أراد أن يتحلل بالهدي فلم يجد هديا يبعث و لا ثمنه هل يحل بالصوم و يكون الصوم بدلا عنه .
قال أبو حنيفة و محمد : لا يحل بالصوم و ليس بدلا عن هدي المحصر و هو ظاهر قول أبي يوسف و يقيم حراما حتى يذبح الهدي عنه في الحرم أو يذهب إلى مكة فيحل من إحرامه بأفعال العمرة و هو الطواف بالبيت و السعي بين الصفا و المروة و يحلق أو يقصر كما يفعله إذا فاته الحج و هو أحد قولي الشافعي .
و قال عطاء بن أبي رياح في المحصر لا يجد الهدي : قوم الهدي طعاما و تصدق به على المساكين فإن لم يكن عنده طعام صام لكل نصف صاع يوما و هو مروي عن أبي يوسف .
و قال الشافعي في قول أن الهدي للإحصار بدلا و اختلف قوله في ماهية البدل فقال في قول البدل هو الصوم مثل صوم المتعة و في قول البدل هو الإطعام و هل يقوم الصوم مقامه ؟ له فيه قولان وجه قول من قال إن له بدلا ان هذا دم يقع به التحلل فجاز أن يكون له بدل كدم المتعة .
و لنا : قوله تعالى : { و لا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله } أي حتى يبلغ الهدي محله فيذبح نهى الله عن حلق الرأس ممدودا إلى غاية الهدي و الحكم الممدود إلى غاية لا ينتهي قبل وجود الغاية فيقضي أن لا يتحصل ما لم يذبح الهدي سواء صام او أطعم أولا و لأن التحلل بالدم قبل إتمام موجب الإحرام عرف بالنص بخلاف القياس فلا يجوز إقامة غيره مقامه بالرأي و أما الحلق فليس بشرط للتحلل و يحل المحصر بالذبح بدون الحلق في قول أبي حنيفة و محمد و إن حلق فحسن .
و قال أبو يوسف : أرى عليه أن يحلق فإن لم يفعل فلا شيء عليه و روي عنه أنه قال هو واجب لا يسعه تركه و ذكر الجصاص و قال : إنما لا يجب الحلق عندهما إذا أحصر في الحل لأن الحلق يختص بالحرم فأما إذا أحصر في الحرم يجب الحلق عندهما .
احتج أبو يوسف بما روي [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم حلق عام الحديبية و أمر أصحابه بالحلق ] فدل أن الحلق واجب و لهما قوله تعالى : { فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي } معناه فإن أحصرتم و أردتم أن تحلوا فاذبحوا ما استيسر من الهدي جعل ذبح الهدي في حق المحصر إذا أراد الحل كل موجب الإحصار فمن أوجب الحلق فقد جعله بعض الموجب و هذا خلاف النص و لأن الحلق للتحلل عن أفعال الحج و المحصر لا يأتي بأفعال الحج فلا حلق عليه .
و أما الحديث : فعلى ما ذكره الجصاص لا حجة فيه لأن الحديبية بعضها في الحل و بعضها في الحرم فيحتمل أنه أحصر في الحرم فأمر بالحلق .
و أما وجوب جواب المذكور في الأصل فهو محمول على الندب و الاستحباب و أما زمان ذبح الهدي فمطلق الوقت لا يتوقت بيوم النحر سواء كان الإحصار عن الحج أو عن العمرة و هذا قول أبي حنيفة .
و قال أبو يوسف و محمد : إن المحصر عن الحج لا يذبح عنه إلا في أيام النحر لا يجوز في غيرها و لا خلاف في المحصر عن العمرة إنه يذبح عنه في أي وقت كان وجه قولهما أن هذا الدم سبب للتحلل من إحرام الحج فيختص بزمان التحلل كالحلق بخلاف العمرة فإن التحلل من إحرامها بالحلق لا يختص بزمان فكذا بالهدي و لأبي حنيفة : أن التحلل من المحصر تحلل قبل أوان التحلل يباح لضرورة دفع الضرر ببقائه محرما رخصة و تيسيرا فلا يختص بيوم النحر كالطواف الذي يتحلل به فائت الحج إذ المحصر فائت الحج و الله أعلم .
و أما الحكم التحلل فصيرورته حلالا يباح له تناول جميع ما حظره الإحرام لارتفاع الحاظر فيعود حلالا كما كان قبل الإحرام و أما الذي يتحلل به بغير ذبح الهدي فكل محصر منع عن المضي في موجب الإحرام شرعا لحق العبد كالمرأة و العبد الممنوعين شرعا لحق الزوج و المولى بأن أحرمت المرأة بغير إذن زوجها أو أحرم العبد بغير إذن مولاه فللزوج و المولى أن يحللهما في الحال من غير ذبح الهدي فيقع الكلام في هذا في موضعين .
و الثاني : في بيان ما يتحلل به .
أما الجواز فلأن منافع بضع المرأة حق الزوج و ملكه عليها فيحتاج إلى استيفاء حقه و لا يمكنه ذلك مع قيام الإحرام فيحتاج إلى التحلل و لا سبيل إلى توقيفه على ذبح الهدي في الحرم لما فيه من إبطال حقه للحال فكان له أن يحللها للحال و على المرأة أن تبعث الهدي أو ثمنه إلى الحرم ليذبح عنها لأنها تحللت بغير طواف و عليها حجة و عمرة كما على الرجل المحصر إذا تحلل بالهدي بخلاف ما إذا أحرمت بحجة الإسلام و لا زوج لها و لا محرم أو كان لها زوج أو محرم فمات إنها لا تتحلل إلا بالهدي لأن المنع هناك لحق الله تعالى لا لحق العبد فكان تحللها جائزا لاحقا مستحقا عليها لأحد الا ترى أن لها أن تبقى على إحرامها ما لم تجد محرما أو زوجا فكان تحللها بما هو الموضوع للتحلل في الأصل و هو ذبح الهدي فهو الفرق و كذا العبد بمنافعه ملك المولى فيحتاج إلى تصرفه في وجوه مصالحه و لا يمكنه ذلك مع قيام الإحرام فيحتاج إلى التحلل في الحال لما فيه من التوقيف على ذبح الهدي في الحرم من تعطيل مصالحه فيحلله المولى للحال .
و على العبد إذا عتق هدي الإحصار و قضاء حجة و عمرة لأن الحج وجب عليه بالشروع لكونه مخاطبا أهلا إلا أنه تعذر عليه المضي لحق المولى فإذا عتق زال حقه و تجب عليه العمرة لفوات الحج في عامه ذلك و لو كان أحرم العبد بلإذن مولاه يكره للمولى ان يحلله بعد ذلك لأنه رجوع عما وعد و خلف في الوعد فيكره و لو حلله جاز لأن العبد بمنافعه ملك المولى .
و روي عن أبي يوسف و زفر أن المولى إذا أذن للعبد في الحج ليس له أن يحلله لأنه لما أذن له فقد أسقط حقه بالإذن فأشبه الحر و الصحيح جواب ظاهر الرواية لأن المحلل بعد الإذن قائم و هو الملك إلا أنه يكره لما قلنا و إذا حلله لا هدي عليه لأن المولى لا يجب عليه لعبده شيء .
و لو احصر العبد بعدما أحرم بإذن المولى ذكر القدوري في شرحه مختصر الكرخي أنه لا يلزم المولى إنفاذ هدي لأنه لو لزمه للزمه لحق العبد على مولاه حق فغنه اعتقه وجب عليه ان يبعث الهدي لأنه إذا أعتق صار ممن يثبت له عليه حق فصار كالحر إذا حج عن غيره فأحصر أنه يجب على المحجوج عنه أن يبعث الهدي .
و ذكر القاضي في شرحه مختصر الطحاوي أن على المولى أن يذبح عنه هديا في المحرم فيحل لأن هذا الدم وجب لبلية ابتلي بها العبد بإذن المولى فصار بمنزلة النفة و النفقة على المولى و كذا دم الإحصار و لهذا كان دم الإحصار في مال الميت إذا أحصر الحاج عن الميت لا عليه كذا هذا .
و لو أحرم العبد أو الأمة بإذن المولى ثم باعها يجوز البيع و للمشتري أن يمنعها و يحللهما في قول أصحابنا الثلاثة و في قول زفر ليس له ذلك و له أن يردهما بالعيب و على هذا الخلاف المرأة إذا أحرمت بحجة التطوع ثم تزوجت فللزوج أن يحللها و عند زفر ليس ذلك كذا حكى القاضي الخلاف في شرحه مختصر الطحاوي و ذكر القدوري في شرحه مختصر الكرخي الخلاف بين أبي يوسف و زفر وجه قول زفر أن الذي أنتقل إلى المشتري هو ما كان للبائع و لم يكن للبائع أن يحلله عنده لما ذكرنا أنه أسقط حق نفسه بالإذن كذا المشتري .
و لنا : أن الإحرام لم يقع بإذن المشتري فصار كأنه أحرم في مكة ابتداء بغير إذنه و لو كذلك كان له أن يحلله كذا هذا .
و قال محمد : إذا أذن الرجل لعبده في الحج ثم باعه لا أكره للمشتري أن يحلله لأن الكراهة في حق البائع لما فيه من خلف الوعد و لم يوجد ذلك من المشتري و روي ابن سماعة عن محمد : في امة لها زوج أذن لها مولاها في الحج فأحرمت ليس لزوجها أن يحللها لأن التحلل إنما ثبت للزوج بمنعها من السفر ليستوفي حقه منها و منع الأمة من السفر إلى مولاها دون الزوج ألا ترى أن المولى لو سافر بها لم يكن للزوج منعها فكذا إذا أذن لها في السفر .
و أما بيان ما يتحلل عن هذا النوع من الإحصار يقع بفعل الزوج و المولى أدنى محظورات الإحرام من قص ظفرهما أو تطييبهما أو بفعلهما ذلك بأمر الزوج و المولى أو بامتشاط الزوجة رأسها بأمر الزوج أو تقبيلها أو معانقتها فتحل بذلك .
و الأصل فيه ما روي [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لعائشة Bها حين حاضت في العمرة : امتشطي و ارفضي عنك العمرة ] و لأن التحلل صار حقا عليهما للزوج و المولى فجاز بمباشرتهما أدنى ما يحظره الإحرام و لا يكون التحلل بقوله حللتك لأن هذا تحليل من دم الإحرام فلا يقع بالقول كالرجل الحر إذا أحصر فقال : حللت نفسي .
و أما وجوب قضاء ما أحرم به بعد التحلل فجملة الكلام فيه أن المحصر لا يخلو إما إن كان أحرم بالحجة لا غير و إما كان أحرم بالعمرة لا غير و إما إن كان أحرم بهما بأن كان قارنا فإن كان أحرم بالحجة لا غير فإن بقي وقت الحج عند زوال الإحصار و أراد الإحصار و أراد أن يحج من عامة ذلك أحرم و حج و ليس عليه نية القضاء و لا عمرة عليه كذا محمد في الأصل .
و ذكر ابن أبي مالك عن أبي يوسف عن أبي حنيفة و عليه دم لرفض الإحرام الأول و إن تحولت السنة فعلية حجة و عمرة و لا تسقط عنه تلك الحجة إلا بنية القضاء .
و روى الحسن عن أبي حنيفة : أن عليه قضاء حجة و عمرة في الوجهين جميعا و عليه نية القضاء فيهما و هو قول زفر ذكره القاضي في شرحه مختصر الطحاوي و على هذا التفصيل و الاختلاف ما إذا أحرمت المرأة بحجة التطوع بغير إذن زوجها فمنعها زوجها فحللها ثم أذن لها بالإحرام فأحرمت في عامها ذلك أو تحولت السنة فأحرمت .
وجه قول زفر : أن ما تحجه في هذا العام دخل في حد القضاء لأنه يؤدى جديد لا نفساخ الأول بالتحلل فيكون قضاء فلا يتأدى إلا بنية القضاء و عليه حجة و عمرة كما لو تحولت السنة .
و لنا : أن القضاء اسم للفائت عن الوقت و وقت الحج باق فكان الحج فيه أداء لا قضاء فلا يفتقر إلى نية القضاء و لا تلزمه العمرة لأن لزومها لفوات الحج في عامه ذلك و لم يفت .
و قال الشافعي : عليه قضاء حجة لا غير و إن تحولت السنة و احتج بما روي عن ابن عباس أنه قال : حجة بحجة و عمرة بعمرة و هو المعنى له في المسألة أن القضاء يكون مثل الفائت و الفائت هو الحجة لا غير فمثلها الحجة لا غير و روينا عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ من كسر أو عرج حل و عليه الحج من قابل ] و لم يذكر العمرة و لو كانت واجبة لذكرها و لنا الأثر و النظر أما الأثر فما روي عن ابن مسعود و ابن عمر Bهما أنهما قالا في المحصر بحجة يلزمه حجة و عمرة .
و أما النظر فلأن الحج قد وجب عليه بالشروع و لم يمض فيه بل فاته في عامة ذلك و فائت الحج يتحلل بأفعال العمرة .
فإن قيل : فائت الحج يتحلل بالطواف لا بالدم و المحضر قد حل بالدم و قام الدم مقام الطواف من الذي يفوته الحج فكيف يلزمه طواف آخر .
فالجواب : أن الدم الذي حل به المحصر ما وجب بدلا عن الطواف ليقال : إنه قام مقام الطواف فلا يجب عليه طواف آخر و إنما وجب لتعجيل الإحلال لأن المحصر لو لم يبعث هديا لبقي على إحرامه مدة مديدة و فيه حرج و ضرر فجعل له أن يتعجل الخروج من إحرامه و يؤخر الطواف الذي لزمه بدم يهريقه فحل بالدم و لم يبطل الطواف و إذا لم يبطل الدم عنه الطواف و لم يجعل بدلا عنه فعليه أن يأتي به بإحرام جديد فيكون ذلك عمرة و الدليل على أن دم الإحصار ما وجب بدلا عن الطواف الذي يتحلل به فائت الحج أن فائت الحج لو أراد أن يفسخ الطواف الذي لومه بدم يريقه بدلا عنه ليس له ذلك بالإجماع فثبت أن دم الإحصار لتعجيل الإحلال به بدلا عن الطواف فاندفع الإشكال بحمد الله تعالى و منه .
و أما حديث ابن عباس Bهما : إن ثبت فهو تمسك بالمسكوت لأن قوله حجة بحجة و عمرة بعمرة يقتضي وجوب الحجة بالحجة و العمرة بالعمرة و هذا لا ينفي وجوب العمرة و الحجة و لا يقتضي أيضا فكان مسكوتا عنه فيقف على قيام الدليل و قد قام دليل الوجوب و هو ما ذكرنا و هو كقوله تعالى : { الحر بالحر و العبد بالعبد و الأنثى بالأنثى } أنه لا ينفي قتل الحر بالعبد و الأنثى بالذكر بالإجماع كذا هذا و يحمل على فائت الحج و هو الذي لم يدرك الوقوف بعرفة بدليل أنه يتحلل بأفعال العمرة و عليه قضاء الحج من قابل و لا عمرة عليه .
و إن كان إحرامه بالعمرة قضاها لوجوبها بالشروع في أي وقت شاء لأنه ليس وقت معين و إن كان أحرم بالعمرة و الحجة إن كان قارنا فعليه قضاء حجة و عمرتين أما قضاء حجة و عمرة فلوجوبها بالشروع و أما عمرة أخرى فلفوات الحج في عامة ذلك و هذا على أصلنا .
فأما على أصل الشافعي فليس عليه إلا حجة بناء على أصله أن القارن محرم بإحرام واحد و يدخل إخراج العمرة في الحجة فكان حكمه المفرد بالحج و المفرد بالحج إذا أحصر لا يجب عليه إلا قضاء حجة عنده فكذا القارن و الله أعلم .
و أما حكم زوال الإحصار إذا زال لا يخلو من أحد وجهين إما إن زال قبل بعث الهدي أو بعدما بعث فإن زوال قبل أن يبعث الهدي مضى على موجب إحرامه و إن كان قد بعث الهدي ثم زال الإحصار فهذا لا يخلو من أربعة أوجه : إما إن كان يقدر على إدراك الهدي و الحج أو لا يقدر على إدراكهما جميعا أو يقدر على إدراك الهدي دون الحج أو يقدر على إدراك الحج دون الهدي فإن كان يقدر على إدراك الهدي و الحج لم يجز له التحلل و يجب عليه المضي فإنه إباحة التحلل لعذر الإحصار و العذر قد زال .
و إن كان لا يقدر على إدراك واحد منهما لم يلزمه المضي و جاز له التحلل لأنه فائدة في المضي فتقرر الإحصار فيتقرر حكمه .
و إن كان يقدر على إدراك الهدي و لا يقدر على إدارك الحج لا يلزمه المضي أيضا لعدم الفائدة في إدراك الهدي دون إدراك الحج إذا الذهاب لأجل إدراك الحج فإذا كان لا يدرك الحج فلا فائدة في الذهاب فكانت على إدراك الهدي و العدم بمنزلة واحدة .
و إن كان يقدر على إدراك الحج و لا يقدر على إدراك الهدي قيل : إن هذا الوجه الرابع إنما يتصور على مذهب أبي حنيفة لأن دم الإحصار عنده لا يتوقف بأيام النحر بل يجوز قبلها فيتصور إدراك الحج دون إدراك الهدي .
فأما على مذهب أبي حنيفة و محمد : فلا يتصور هذا الوجه إلا في المحصر عن العمرة لأن دم الإحصار عندهما مؤقت بأيام النحر فإذا أدرك الحج فقد أدرك الهدي ضرورة و إنما يتصور عندهما في المحصر عن العمرة لأن الحصار عنها لا يتوقت بأيام النحر بلا خلاف .
و إذا عرف هذا فقياس مذهب أبي حنيفة في هذا الوجه أنه يلزمه المضي و لا يجوز له التحلل لأنه إذا قدر على إدراك الحج لم يعجز عن المضي و يجوز له التحلل إلا أنه إذا كان لا يقدر على إدراك الهدي صار كان الإحصار زال عنه بالذبح فيبخل الذبح عنه و لأن الهدي قد مضى في سبيله بدليل أنه لا يجب الضمان بالذبح على من بعث على بدنة فصار كانه قدر على الذهاب بعد ما ذبح عنه و الله أعلم