حكم الهبة .
فصل : و أما حكم الهبة فالكلام فيه في ثلاث مواضع : في بيان أصل الحكم و في بيان صفته و في بيان ما يرفع الحكم .
أما أصل الحكم فهو ثبوت الملك للموهوب من غير عوض لأن الهبة تمليك العين من غير عوض فكان حكمها ملك الموهوب من غير عوض .
و أما صفته فقد اختلف فيها قال أصحابنا : هي ثبوت ملك غير لازم في الأصل و للواهب أن يرجع في هبته و إنما يثبت اللزوم و يمتنع الرجوع بأسباب عارضة و قال الشافعي C : الثابت بالهبة ملك لازم في الأصل و لا يثبت الرجوع إلا في هبة الولد خاصة و هي هبة الوالد لولده فنقول : .
يقع الكلام في هذا الفصل في مواضع : في بيان ثبوت حق الرجوع في الهبة و في بيان شرائط صحة الرجوع بعد ثبوت الحق و في بيان العوارض المانعة من الرجوع و في بيان ماهية الرجوع و حكمه شرعا .
أما ثبوت حق الرجوع فحق الرجوع في الهبة ثابت عندنا خلافا للشافعي C احتج بما روى عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ لا يحل لواهب أن يرجع في هبته إلا فيما يهب الوالد لولده ] و هذا نص في مسألة هبة الأجنبي و الوالد .
و روى عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ العائد في هبته كالعائد في قيئه ] و العود في القيء حرام كذا في الهبة و لأن الأصل في العقود هو اللزوم والامتناع بعارض خلل في المقصود و لم يوجد لأن المقصود من الهبة اكتساب الصيت بإظهار الجود و السخاء لا طلب العوض فمن طلب منهما العوض فقد طلب من العقد ما لم يوضع له فلا يعتبر طلبه أصلا .
و لنا : الكتاب و السنة و إجماع الصحابة Bهم .
أما الكتاب العزيز فقوله تعالى : { و إذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها } و التحية و إن كانت تستعمل في معان من السلام و الثناء و الهدية بالمال قال القائل : .
( تحيتهم بيض الولاء بدينهم ) .
لكن الثالث تفسير مراد بقرينة من نفس الآية الكريمة و هي قوله تعالى : { أو ردوها } لأن الرد إنما يتحقق في الأعيان لا في الأعراض لأنه عبارة عن إعادة الشيء و ذا لا يتصور في الأعراض و المشترك يتعين أحد وجوهه بالدليل .
و أما السنة فما روي عن أبي هريرة Bه أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ الواهب أحق بهبته ما لم يثب منها ] أي يعوض جعل عليه الصلاة و السلام الواهب أحق بهبته مالم يصل إليه العوض و هذا نص في باب .
و أما إجماع الصحابة فإنه روي عن سيدنا عمر و سيدنا عثمان و سيدنا علي و عبد الله بن سيدنا عمر و أبي الدرداء و فضالة بن عبيد و غيرهم Bهم قالوا : مثل مذهبنا و لم يرد عن غيرهم خلافه فيكون اجماعا و لأن العوض المالي قد يكون مقصودا من هبة الأجانب فإن الإنسان قد يهب من الأجنبي إحسانا إليه و إنعاما عليه و قد يهب له طعما في المكافأة و المجازاة عرفا و عادة فالموهوب له مندوب إلى ذلك شرعا قال الله تبارك و تعالى : { هل جزاء الإحسان إلا الإحسان } .
و قال عليه الصلاة و السلام : [ من اصطنع إليكم معروفا فكافئوه فإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له حتى يعلم أنكم قد كافأتموه ] و قال عليه الصلاة و السلام : [ تهادوا تحابوا ] و التهادي تفاعل من الهدية فيقتضي الفعل من اثنين و قد لا يحصل هذا المقصود من الأجنبي و فوات المقصود من عقد محتمل للفسخ يمنع لزومه كالبيع لأنه يعدم الرضا و الرضا في هذا الباب كما هو شرط الصحة فهو شرط اللزوم كما في البيع إذا وجد المشتري بالمبيع عيبا لم يلزمه العقد لعدم الرضا عند عدم حصول المقصود و هو السلامة كذا هذا .
و أما الحديث الأول فله تأويلان : .
أحدهما : أنه محمول على الرجوع بغير قضاء و لا رضاء و ذلك لا يجوز عندنا إلا فيما وهب الوالد لولده فإنه يحل له أخذه من غير رضا الولد و لا قضاء القاضي إذا احتاج إليه للإنفاق على نفسه .
الثاني : أنه محمول على نفي الحل من حيث المروءة و الخلف لا من حيث الحكم لأن نفي الحل يحتمل ذلك قال الله D في رسولنا عليه الصلاة و السلام : { لا يحل لك النساء من بعد و لا أن تبدل بهن من أزواج } قيل في بعض التأويلات : لا يحل لك من حيث المروءة و الخلف أن تتزوج عليهن بعدما اخترن إياك و الدار الآخرة على الدنيا و ما فيها من الزينة لا من حيث الحكم إذ كان يحل له التزوج بغيرهن و هذا تأويل الحديث و الآخر أن المراد منه التشبيه من حيث ظاهر القبح مروءة و طبيعة لا شريعة .
ألا ترى أنه قال عليه الصلاة و السلام في رواية أخرى : [ العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه ] و فعل الكلب لا يوصف بالحرمة الشرعية لكنه يوصف بالقبح الطبيعي كذا هذا .
و قوله : فيما يهبه الوالد لولده محمول على أخذ مال ابنه عند الحاجة إليه لكنه سماه رجوعا لتصوره بصورة الرجوع مجازا و إن لم يكن رجوعا حقيقة على ما نذكره في تلك المسألة إن شاء الله تعالى