القسم الثاني ـ ما يرجع إلى الموهوب .
و روي عن سيدنا أبي بكر و سيدنا عمر و سيدنا عثمان و سيدنا علي و ابن عباس Bهم أنهم قالوا : لا تجوز الهبة إلا مقبوضة محوزة و لم يرد عن غيرهم خلافه و لأنها عقد تبرع فلو صحت بدون القبض لثبت للموهوب له ولاية مطالبة الواهب بالتسليم فتصير عقد ضمان و هذا تغيير المشروع بخلاف الوصية لأنه ليس في إيجاب الملك فيها قبل القبض تغييرها عن موضعها إذ لا مطالبة قبل المتبرع و هو الموصي لأنه ميت و كذلك القبض شرط جواز الصدقة لا يملك قبل القبض عند عامة العلماء .
و قال ابن أبي ليلى و غيره من أهل الكوفة : ليس بشرط و تجوز الصدقة إذا أعلمت و إن لم تقبض و لا تجوز الهبة و لا النحلى إلا مقبوضة و احتجوا بما روي عن سيدنا عمر و سيدنا علي Bهما قالا : إذا أعلمت الصدقة جازت من غير شرط القبض .
و لنا : ما روي عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : خيرا عن الله سبحانه و تعالى : [ يا ابن آدم تقول مالي مالي و ليس لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأبقيت ] اعتبر الله سبحانه و تعالى الإمضاء في الصدقة و الإمضاء هو التسليم دل أنه شرط .
و روي عن سيدنا أبي بكر و سيدنا عمر و ابن عباس و معاذ بن جبل Bهم أنهم قالوا : لا تتم الصدقة إلا بالقبض و لأن التصدق عقد تبرع فلا يفيد الحكم بنفسه كالهبة .
و ما روي عن سيدنا عمر و سيدنا علي Bهما محمول على صدقة الأب على ابنه الصغير و به نقول لا حاجة هناك إلى القبض حملناه على هذا توفيقا بين الدلائل صيانة لها عن التناقض .
و الثاني : شرائط صحة القبض فأنواع : .
منها : أن يكون القبض بإذن المالك لأن الإذن بالقبض شرط لصحة القبض في باب البيع حتى لو قبض المشتري من غير إذن البائع قبل نقد الثمن كان للبائع حق الاسترداد فلأن يكون في الهبة أولى لأن البيع يصح بدون القبض و الهبة لا صحة لها بدون القبض فلما كان الإذن بالقبض شرطا لصحته فيما لا يتوقف صحته على القبض فلأن يكون شرطا فيما يتوقف صحته على القبض أولى و لأن القبض في باب الهبة يشبه الركن و إن لم يكن ركنا على الحقيقة فيشبه القبول في باب البيع و لا يجوز القبول من غير إذن البائع و رضاه فلا يجوز القبض من غير إذن الواهب أيضا و الإذن نوعان : صريح و دلالة .
أما الصريح فنحو أن يقول : اقبض أو أذنت لك بالقبض أو رضيت و ما يجري هذا المجرى فيجوز قبضه سواء قبضه بحضرة الواهب او بغير حضرته استحسانا .
و القياس : أن لا يجوز قبضه بعد الافتراق عن المجلس و هو قول زفر C لأن القبض عنده ركن بمنزله القبول على أحد قوليه فلا يصح بعد الافتراق عن المجلس كما لا يصح القبول عنده بعد الافتراق و إن كان بإذن الواهب كالقبول في باب البيع .
و جه الاستحسان : ما روى : [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم حمل إليه ست بدنات فجعلن يزدلفن إليه فقام عليه الصلاة و السلام فنحرهن بيده الشريفة و قال : من شاء فليقطع و انصرف ] فقد أذن لهم رسول الله صلى الله عليه و سلم بالقبض بعد الافتراق حيث أذن لهم بالقطع فدل على جواز القبض و اعتباره بعد الافتراق و لأن الإذن بقبض الواهب صريحا بمنزلة إذن البائع يقبض المبيع و ذلك يعمل بعد الافتراق كذا هذا .
و أما الدلالة فهي أن يقبض الموهوب له العين في المجلس و لا ينهاه الواهب فيجوز قبضه استحسانا .
و القياس : ان لا يجوز كما لا يجوز بعد الافتراق و هو قول زفر و قد ذكرنا القياس و الاستحسان في الزيادات .
و لو قبض المشتري المبيع بيعا جائزا بحضرة البائع قبل نقد الثمن لم يجز قبضه قياسا و استحسانا حتى كان له أن يسترد و في البيع الفاسد اختلاف روايتي الكرخي و الطحاوي رحمهما الله ذكرناهما في البيوع .
و جه القياس : أن القبض ركن في الهبة كالقبول فيها فلا يجوز من غير إذن كالقبول من باب البيع .
و جه الاستحسان : أن الإذن بالقبض وجد من طريق الدلالة لأن الإقدام على إيجاب الهبة إذن بالقبض لأنه دليل قصد التمليك و لا ثبوت للملك إلا بالقبض فكان الإقدام على الإيجاب إذنا بالقبض دلالة و الثابت دلالة كالثابت نصا بخلاف ما بعد الافتراق لأن الإقدام دلالة الإذن بالقبض في المجلس لا بعد الافتراق و لأن للقبض في باب الهبة شبها بالركن فيشبه القبول في باب البيع و إيجاب البيع يكون إذنا بالقبول في المجلس لا بعد الافتراق فكذا إيجاب الهبة يكون إذنا بالقبض لا بعد الافتراق .
و لو وهب شيئا متصلا بغيره مما لا تقع عليه الهبة كالثمر المعلق على الشجر دون الشجر أو الشجر دون الأرض أو حلية السيف دون السيف أو القفيز من الصبرة أو الصوف على ظهر الغنم و غير ذلك مما لا جواز للهبة فيه إلا بالفصل و القبض ففصل و قبض .
فغن قبض بغير إذن الواهب لم يجز القبض سواء كان الفصل و القبض بحضرة الواهب او بغير حضرته و لأن الجواز في المنفصل عند حضرة الواهب للإذن الثابت دلالة الإيجاب و لم يوجد ههنا لأن الإيجاب لم يقع صحيحا حين و جوده فلا يصح الاستبدال على افذن بالقبض و إن قبض بإذنه يجوز استحسانا و القياس أن لا يجوز و هو قول زفر بناء على أن العقد إذا وقع فاسدا من حين و جوده لا يحتمل الجواز عنده بحال لاستحالة انقلاب الفاسد جائزا و عندنا يحتمل الجواز بإسقاط المفسد مقصورا على الحال أو من حين و جود العقد بطريق البيان على اختلاف الطريقين اللذين ذكرناهما في كتاب البيع و كذلك إذا وهب دينا له على إنسانا لآخر إنه إن قبض الموهوب له بإذن الواهب صريحا جاز قبضه استحسانا و القياس أن لا يجوز و قد ذكرنا وجه القياس و الاستحسان فيما تقدم و إن قبضه بحضرته و لم ينهه عن ذلك لا يجوز قياسا و استحسانا فرق بين العين و الدين .
و وجه الفرق : أن الجواز في هبة العين عند عدم التصريح بالإذن لكون الإيجاب فيها دلالة الإذن بالقبض لكون دلالة قصده تمليك ما هو ملكه من الموهوب و إيجاب الهبة في الدين لغير من عليه الدين لا تصح دلالة الإذن بقبضه لأن دلالته قصد التمليك و تمليك الدين من غير من عليه الدين لا يتحقق إلا بالتصريح بلإذن بالقبض لأنه إذا أذن له بالقبض صريحا قام قبضه مقام قبض الواهب فيصير بقبض العين قابضا للواهب أولا و يصير المقبوض ملكا له أولا ثم يصير قابضا لنفسه من الواهب فيصير الواهب على هذا التقدير الذي ذكرنا واهبا ملك نفسه و الموهوب له قابضا ملك الواهب فصحت الهبة و القبض و إذا لم يصرح بالإذن بالقبض بقي المقبوض من المال العين على ملك من عليه فلم تصح الهبة فيه فلا يجوز قبض الموهوب له فهو الفرق بين الفصلين .
و منها : أن لا يكون الموهوب مشغولا بما ليس بموهوب لأن معنى القبض و هو التمكن من التصرف في المقبوض لا يتحقق مع الشغل و على هذا يخرج ما إذا وهب دارا فيها متاع الواهب و سلم الدار إليه أو سلم الدار مع ما فيها من متاع فإنه لا يجوز لأن الفراغ شرط صحة التسليم و القبض و لم يوجد قيل : الحيلة في صحة التسليم أن يودع الواهب المتاع عند الموهوب له أولا و يخلي بينه و بين المتاع ثم يسلم الدار إليه فتجوز الهبة فيها لأنها مشغولة بمتاع هو في يد الموهوب له و في هذه الحيلة إشكال و هو أن يد المودع يد المودع معنى فكانت يده قائمة على المتاع فتمنع صحة التسليم .
و لو أخرج المتاع من الدار ثم سلم فارغا جاز و ينظر إلى حال القبض لا إلى حال العقد لأن المانع من النفاذ قد زال فينفذ كما في هبة المشاع و لو و هب ما فيها من المتاع دون الدار و خلى بينه المتاع جازت الهبة لأن المتاع لا يكون مشغولا بالدار و الدار تكون مشغولة بالمتاع لهذا افترقا فيصبح تسليم المتاع و لا يصح تسليم الدار .
و لو جمع في الهبة بين المتاع و بين الدار الذي فيها فوهبهما جميعا صفقة واحدة و خلى بينه و بينهما جازت الهبة فيهما جميعا لأن التسليم قد صح فيهما جميعا فإن فرق بينهما في الهبة بأن وهب أحدهما ثم وهب الآخر فهذا لا يجوز إما إن جمع بينهما في التسليم و إما إن فرق فإن جمع جازت الهبة فيهما جميعا و إن فرق بأن وهب أحدهما و سلم ثم وهب الآخر و سلم نظر في ذلك و روعي فيه الترتيب إن قدم هبة الدار فالهبة في الدار لم تجز لأنها مشغولة بالمتاع فلم يصح تسليم الدار و جازت في المتاع لأنه غير مشغول بالدار فيصح تسليمه و لو قدم هبة المتاع جازت الهبة فيهما جميعا .
أما في المتاع فلأنه غير مشغول بالدار فيصح تسليمه و أما في الدار فلأنها وقت التسليم كانت مشغولة بمتاع هو ملك الموهوب فلا يمنع صحة القبض و على هذا الأصل أيضا يخرج ما إذا وهب جارية و استثنى ما بطنها أو حيوانا و استثنى ما في بطنه انه لا يجوز لأنه لو جاز لكان ذلك هبة ما هو مشغول بغيره و إنها غير جائزة لأنه لا جواز لها بدون القبض و كون الموهوب مشغولا بغيره يمنع صحة القبض .
و لو أعتق ما في بطن جاريته ثم وهب الأم يجوز و ذكر في العتاق أنه لو دبر ما في بطن جاريته لا يجوز منهم من قال في المسألة روايتان : وجه رواية عدم الجواز أن الموهوب مشغول بما ليس بموهوب فأشبه هبة دار فيها متاع الواهب .
وجه رواية الجواز و هي رواية الكرخي : إن حرية الجنين تجعله مستثنى من العقد لأن حكم العقد لم يثبت فيه مع تناوله إياه ظاهرا و هذا معنى الاستثناء لفظا جازت الهبة في الأم فكذا إذا كان مستثنى في المعنى و منهم من قال : في المسألة رواية واحدة و فرق بين الإعتاق و التدبير .
و وجه الفرق : أن المدبر مال المولى فإذا وهب ما هو مشغول بمال الواهب فلم يجز كهبة دار فيها متاع الواهب و أما الحر فليس بمال فصار كما وهب دارا فيها حر جالس و ذا لا يمنع جواز الهبة كذا هذا و منها أن لا يكون الموهوب متصلا بما ليس بموهوب اتصال الأجزاء لأن قبض الموهوب وحده لا يتصور و غيره ليس بموهوب فكان هذا في المشاع و على هذا يخرج ما إذا وهب أرضا فيها زرع دون الزرع أو شجرا عليها ثمر دون الثمر أو وهب الزرع دون الأرض أو الثمر دون الشجر و خلى بينه و بين الموهوب له أنه لا يجوز لأن الموهوب متصل بما ليس بموهوب اتصال جزء فمنع صحة القبض .
و لو جذ الثمر و حصد الزرع ثم سلمه فارغا جاز لأن المانع من النفاذ و هو ثبوت الملك قد زال .
و لو جمع بينهما في الهبة فوهبهما جميعا و سلم متفرقا جاز و لو فرق بينهما في الهبة فوهب كل واحد منهما بعقد على حدة بأن و هب الأرض ثم الزرع أو الزرع ثم الأرض فإن جمع بينهما في التسليم جازت الهبة فيهما جميعا و إن فرق لا يجوز الهبة فيهما جميعا قدم أو أخر سواء بخلاف الفصل الأول لأن المانع من صحة القبض هنا الاتصال و إنه لا يختلف و المانع هناك الشغل و إنه يختلف نظير هذا ما إذا وهب نصف الدار مشاعا من رجل و لم يسلم إليه حتى وهب النصف الباقي منه و سلم الكل أنه يجوز .
و لو وهب النصف و سلم ثم وهب الباقي و سلم لا يجوز كذا هذا يخرج ما إذا وهب صوفا على ظهر غنم إنه لا يجوز لأن الموهوب متصل بما ليس بموهوب و هذا يمنع صحة القبض و لو جزه و سلمه جاز لزوال المانع D أعلم .
و على هذا و هب دابة و عليها حمل بدون الحمل لا تجوز و لو رفع الحمل عنها و سلمها فارغا جاز لما قلنا بخلاف هبة ما في بطن جاريته او ما في بطن غنمه او ما في ضرعها أو هبة سمن في لبن أو دهن في سمسم أو زيت في زيتون أو دقيق في حنطة أنه يبطل .
و إن سلطه على قبضة عند الولادة او عند استخراج ذلك لأن الموهوب هناك ليس محل العقد لكونه معدوما لهذا لم يجز بيعها فلا تجوز هبتها و هنا بخلافه على ما تقدم .
و منها : أهلية القبض و هي العقل فلا يجوز قبض المجنون و الصبي الذي لا يعقل و أما البلوغ فليس بشرط لصحة القبض استحسانا فيجوز قبض الصبي العاقل ما وهب له و القياس أن يكون شرطا و لا يجوز قبض الصبي و إن كان عاقلا وجه القياس أن القبض من باب الولاية و لا ولاية له على نفسه فلا يجوز قبضه في الهبة كما لا يجوز في البيع .
وجه الاستحسان : أن قبض الهبة من التصرفات النافعة المحضة فيملكة الصبي العاقل كما يملك و ليه و من هو في عياله و كذا الصبية إذا عقلت جاز قبضها لما قلنا و كذلك الحرية ليست بشرط فيجوز قبض العبد المحجور عليه إذا و هب له هبة و لا يجوز قبض المولى عنه سواء كان على العبد دين أو لا فالقبض إلى العبد و الملك للمولى في المقبوض لأن القبض من حقوق العقد و العقد وقع للعبد فكان القبض إليه و لأن الأصل في بني أدم الحرية و الرق لعارض فكان الأصل فيهم إطلاق التصرف لهم و الانحجار لعارض الرق عن التصرف يتضمن الضرر بالمولى ولم يوجد فبقي فيه على أصل الحرية والمقبوض كسب العبد و كسب العبد القن للمولى و كذلك المكاتب إذا وهب له هبة فالقبض إليه و لا يجوز قبض المولى عنه لما قلنا في القن فإذا قبض المكاتب فهو أحق به فلا يمكنه المولى لأن الهبة كسبه و المكاتب أحق باكتسابه و منها الولاية في أحد نوعي القبض و جملة الكلام فيه أن القبض و جملة الكلام فيه أن القبض نوعان : قبض بطريق الصالة و قبض بطريق النيابة .
أما القبض بطريق الصالة فهو أن يقبض بنفسه لنفسه و شرط جوازه العقل فقط على ما بينا .
و أما القبض بطريق النيابة فالنيابة في القبض نوعان : نوع يرجع إلى القابض و نوع يرجع إلى نفس القبض .
أما الأول : الذي يرجع إلى القابض فهو القبض للصبي و شرط جوازه الولاية بالحجر و العيلة عند عدم الولاية فيقبض للصبي وليه أو من كان الصبي في حجره و عياله عند عدم الولي فيقبض له أبوه ثم و صي أبيه بعده ثم جده أبو أبيه بعد أبيه بعد و وصية ثم و صي جده بعده سواء كان الصبي في عيال هؤلاء أو لم يكن فيجوز قبضهم على هذا الترتيب حال حضرتهم لأن لهؤلاء و لاية عليهم فيجوز قبضهم له و إذا غاب أحدهم غيبة منقطعة جاز قبض الذي يتلوه في الولاية لأن التأخير إلى قدوم الغائب تفويت المنفعة على الصغير فتنتقل الولاية إلى من يتلوه و إن كان دونه كما في ولاية الإنكاح و لا يجوز قبض غير هؤلاء الأربعة مع وجود واحد منهم سواء كان الصبي في عيال القابض أو لم يكن و سواء كان ذا رحم محرم منه كالأخ و العم و الأم و نحوهم أو أجنبيا لأنه ليس لغير هؤلاء ولاية التصرف في مال الصبي فيقام ولاية التصرف لهم تمنع ثبوت حق القبض لغيرهم فإن لم يكن أحد من هؤلاء الأربعة جاز قبض من كان الصبي في حجره و عياله استحسانا و القياس : أن لا يجوز لعدم الولاية .
و لا يجوز قبض من لم يكن في عياله أجنبيا كان أو ذا رحم محرم منه قياسا و استحسانا و إنما كان كذلك لأن الذي في عياله له عليه ضرب و لاية ألا ترى أنه يؤدبه و يسلمه في الصنائع التي للصبي فيها منفعة و للصبي في قبض الهبة منفعة محضة فقيام هذا القدر من الولاية يكفي لتصرف فيه منفعة محضة للصبي .
و أما من ليس في عياله فلا ولاية له عليه أصلا فلا يجوز قبضه له كالأجنبي و القبض للصبية إذا عقلت و لها زوج قد دخل بها زوجها أيضا استحسانا لأنها في عياله و لكن هذا إذا لم يكن أحد من هؤلاء فأما عند وجود واحد منهم فلا يجوز قبض الزوج كذا ذكره الحاكم الجليل في مختصره .
و أما الثاني الذي يرجع إلى نفس القبض فهو أن القبض الموجود في الهبة ينوب عن قبض الهبة سواء كان الموجود و قت العقد مثل قبض الهبة أو أقوى منه لأنه إذا كان مثله أمكن تحقيق التناوب إذ المتماثلان غير أن ينوب كل واحد منهما مقام صاحبه و يسد مسده فتثبت المناوبة مقتضى المماثلة و إذا كان أقوى منه يوجد فيه المستحق و زيادة .
و بيان هذا في مسائل : إذا كان الموهوب في يد الموهوب له وديعة أو عارية منه جازت الهبة و صار قابضا بنفس العقد و القبض معا و لا يحتاج إلى تجديد القبض بعد العقد استحسانا و القياس أن لا يصبر قابضا ما لم يجدد القبض و هو أن يخلي بين نفسه و بين الموهوب بعد العقد .
و جه القياس : أن يد المودع إن كانت يده صورة فهي يد المودع معنى فكان المال في يده فصار كأنه و هب له ما في يده فلا بد من القبض بالتخلية .
وجه الاستحسان : أن القبضين متماثلان لأن كل واحد منهما قبض غير مضمون إذا الهبة عقد تبرع و كذا عقد الوديعة و العارية فتماثل القبضان فيتناوبان ضرورة بخلاف بيع الوديعة من المودع و المستعير لأن ينوب عن قبض البيع لأنه قبض أمانة و قبض البيع ضمان فلم يتماثل القبضان بل الموجود أدنى من المستحق فلم يتناوبا .
و لو كان الموهوب في يده مغصوبا ببيع فاسد أو مقبوضا على سوم الشراء فكذا ينوب ذلك عن قبض الهبة لوجود المستحق بالعقد و هو أصل القبض و زيادة ضمان .
و لو كان الموهوب مرهونا في يده ذكر في الجامع أنه يصير قابضا و ينوب قبض الرهن عن قبض الهبة لأن قبض أمانة و قبض الرهن في حق العين قبض أمانة أيضا فيتماثلان فناب أحدهما عن الآخر و لئن كان قبض الرهن ضمان فقبض الضمان أقوى من قبض الأمانة و الأقوى ينوب عن الأدنى لوجود الأدنى منه و زيادة و إذا صحت الهبة بالقبض بطل الرهن و يرجع المرتهن بدينه على الراهن .
و ذكر الكرخي : أنه لا يصير قابضا حتى يجدد القبض بعد عقد الهبة لأن قبض الرهن و إن كان قبض ضمان لكن هذا ضمان لا تصح البراءة منه فلا يحتمل الإبراء بالهبة ليصير قبض أمانة فيتجانس القبضان فيبقى قبض ضمان فاختلف القبضان فلا يتناوبان بخلاف المغضوب و المقبوض على سوم الشراء لأن ذلك الضمان مما تصح البراءة عنه فيبرأ عنه بالهبة و يبقى قبض بغير ضمان فتماثل القبضان فيتناوبان .
و لو كان مبيعا قبل القبض فوهب من البائع جاز و لكن لا يكون هبة بل يكون إقالة حتى لا تصح بدون قبول البائع .
و لو باعه من البائع قبل القبض لا يجعل إقالة بل يبطل أصلا و رأسا و الفرق بينهما ما ذكرنا في كتاب البيوع .
و لو نحل ابنه الصغير شيئا جاز و يصير قابضا له مع العقد كما إذا باع ماله منه حتى لو هلك عقيب البيع يهلك من مال الابن لصيرورته قابضا للصغير مع العقد و ينبغي للرجل أن يعدل بين أولاده في النحلى لقوله سبحانه و تعالى : { إن الله يأمر بالعدل و الإحسان } .
و أما كيفية العدل بينهم فقد قال أبي يوسف : العدل في ذلك أن يسوي بينهم في العطية و لا يفصل الذكر على الأنثى قال محمد : العدل بينهم أن يعطيهم على الترتيب في المواريث للذكر مثل حظ الأنثيين كذا ذكر القاضي الاختلاف بينهما في شرح مختصر الطحاوي .
و ذكر محمد في الموطأ : ينبغي للرجل أن يسوي بين ولده في النحلى و لا يفضل بعضهم على بعض و ظاهر هذا يقتضي أن يكون قوله مع قول أبي يوسف و هو صحيح لما روي : [ أن بشيرا أبا النعمان أتى بالنعمان إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : إني نحلت ابني هذا غلاما كان لي فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : كل ولدك نحلته مثل هذا ؟ فقال : لا فقال النبي عليه الصلاة و السلام : فأرجعه ] و هذا إشارة إلى العدل بين الأولاد في النحلة و هو التسوية بينهم و لأن في التسوية تأليف القلوب و التفضيل يورث الوحشة بينهم فكانت التسوية أولى .
و لو نحل بعضا و حرم بعضا جاز من طريق الحكم لأنه تصرف في خالص ملكه لا حق لأحد فيه إلا أنه لا يكون عدلا سواء كان المحروم فقيها أو جاهلا فاسقا على قول المتقدمين من مشايخنا و أما على قول المتأخرين منهم لا بأس أن يعطي المتأدبين و المتفقهين دون الفسقة الفجرة