فصل : في بيان ما يصير به المقيم مسافرا .
و أما بيان ما يصير به المقيم مسافرا فالذي يصير المقيم به مسافرا نية مدة السفر و الخروج من عمران المصر فلا بد من اعتبار ثلاثة أشياء أحدها : مدة السفر و أقلها غير مقدر عند أصحاب الظواهر و عند عامة العلماء مقدر و اختلفوا في التقدير .
قال أصحابنا : مسير ثلاثة أيام سير الإبل و مشي الأقدام و هو المذكور في ظاهر الروايات و روي عن أبي يوسف يومان و أكثر الثالث و كذا روى الحسن عن أبي حنيفة و ابن سماعة عن محمد .
و من مشايخنا من قدره بخمسة عشر فرسخا و جعل لكل يوم خمس فراسخ و منهم من قدره بثلاث مراحل و قال مالك : أربعة برد كل بريد إثنا عشر ميلا .
و اختلفت أقوال الشافعي فيه قيل : سنة و أربعون ميلا و هو قريب من قول بعض مشايخنا لأن العادة أن القافلة لا تقطع في يوم أكثر من خمسة فراسخ و قيل : يوم و ليلة و هو قول الزهري و الأوزاعي و أثبت أقواله إنه مقدر بيومين .
أما أصحاب الظواهر فاحتجوا بظاهر قوله تعالى : { وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة } علق القصر بمطلق الضرب في الأرض فالتقدير تقييد لمطلق الكتاب و لا يجوز إلا بدليل .
و لنا : ما روى عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ يمسح المقيم يوما و ليلة و المسافر ثلاثة أيام و لياليها ] جعل لكل مسافر أن يمسح ثلاثة أيام و لياليها ولن يتصور أن يمسح المسافر ثلاثة أيام و لياليها و مدة السفر أقل من هذه المدة .
و قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ لا يحل لامرأة تؤمن بالله و اليوم الآخر أن تسافر ثلاثة أيام إلا مع محرم أو زوج ] .
فلو لم تكن المدة مقدرة بالثلاث لم يكن لتخصيص الثلاث معنى و الحديثان في حد الاستفاضة و الاشتهار فيجوز نسخ الكتاب بهما إن كان تقييد المطلق نسخا مع ما أنه لا حجة لهم في الآية لأن الضرب في الأرض في اللغة عبارة عن السير فيها مسافرا يقال ضرب في الأرض أي سار فيها مسافرا فكان الضرب في الأرض عبارة عن سير يصير الإنسان به مسافرا لا مطلق السير و الكلام في أنه هل يصير مسافرا بسير مطلق من غير اعتبار المدة و كذا مطلق الضرب في الأرض يقع على سير يسمى سفرا و النزاع في تقديره شرعا و الآية ساكتة عن ذلك و قد ورد الحديث بالتقدير فوجب العمل به و الله الموفق .
و احتج مالك بما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ يا أهل مكة لا تقصروا الصلاة فيما دون مكة إلى عسفان و ذلك : أربعة برد ] و هو غريب فلا يقبل خصوصا في معارضة المشهور .
وجه قول الشافعي : أن الرخصة إنما ثبتت لضرب مشقة يختص بها المسافرون و هي مشقة الحمل و السير و النزول لأن المسافر يحتاج إلى حمل رحله من غير أهله وحطه في غير أهله و السير و هذه المشقات تجتمع في يومين لأنه في اليوم الأول يحط الرحل في غير أهله و في اليوم الثاني يحمله من غير أهله .
و السير موجود في اليومين بخلاف اليوم الواحد لأنه لا يوجد فيه إلا مشقة السير لأنه يحمل الرحل من وطنه و يحطه في موضع الإقامة فيقدر بيومين لهذا .
و لنا : ما روينا من الحديثين و لأن وجوب الإكمال كان ثابتا بدليل مقطوع به فلا يجوز رفعه إلا بمثله و ما دون الثلاث مختلف فيه و الثلاث مجمع عليه فلا يجوز رفعه بما دون الثلاث و ما ذكر من المعنى يبطل بمن سافر يوما على قصد الرجوع إلى وطنه فإنه يلحقه مشقة الحمل و الحط و السير على ما ذكر ومع هذا لا يقصر عنده .
و به تبين أن الاعتبار لاجتماع المشقات في يوم واحد و ذلك بثلاثة أيام لأنه يلحقه في اليوم الثاني مشقة حمل الرحل من غير أهله و السير وحطه في غير أهله و إنما قدرنا بسير الإبل و مشي الأقدام لأنه الوسط لأن أبطا السير سير العجلة و الأسرع سير الفرس و البريد فكان أوسط أنواع السير سير الإبل و مشي الأقدام وقد قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ خير الأمور أوساطها ] و لأن الأقل و الأكثر يتجاذبان فيستقر الأمر على الوسط و على هذا يخرج ما روي عن أبي حنيفة فيمن سار في الماء يوما و ذلك في البر ثلاثة أيام أنه يقصر الصلاة لأنه لا عبرة للإسراع .
و كذا لو سار في البر إلى موضع في يوم أو يومين و أنه بسير الإبل و المشي المعتاد ثلاثة أيام بقصر اعتبارا للسير المعتاد و على هذا إذا سافر في الجبال و العقبات أنه يعتبر مسيرة ثلاثة أيام فيها لا في السهل فالحاصل أن التقدير بمسيرة ثلاثة أيام أو بالمراحل في السهل و الجبل و البر و البحر ثم يعتبر في كل ذلك السير المعتاد فيه و ذلك معلوم عند الناس فيرجع إليهم عند الاشتباه و التقدير بالفراسخ غير سديد لأن ذلك يختلف باختلاف الطريق .
و قال أبو حنيفة : إذا خرج إلى مصر في ثلاثة أيام و أمكنه أن يصل إليه من طريق آخر في يوم واحد قصر .
و قال الشافعي : إن كان لغرض صحيح قصر و إن كان من غير غرض صحيح لم يقصر و يكون كالعاصي في سفره و الصحيح قولنا لأن الحكم معلق بالسفر فكان المعتبر مسيرة ثلاثة أيام على قصد السفر و قد وجد .
و الثاني : نية مدة السفر لأن السير قد يكون سفرا و قد لا يكون لأن الإنسان قد يخرج من مصره إلى موضع لإصلاح الضيعة ثم تبدو له حاجة أخرى إلى المجاوزة عنه إلى موضع آخر ليس بينهما مدة سفر ثم و ثم إلى أن يقطع مسافة بعيدة أكثر من مدة السفر لا لقصد السفر فلا بد من النية للتمييز .
و المعتبر في النية هو نية الأصل دون التابع حتى يصير العبد مسافرا بنية مولاه و الزوجة بنية الزوج وكل من لزمه طاعة غيره كالسلطان و أمير الجيش لأن حكم التبع حكم الأصل و أما الغريم مع صاحب الدين فإن كان مليا فالنية إليه لأنه يمكنه قضاء الدين و الخروج من يده و إن كان مفلسا فالنية إلى الطالب لأنه لا يمكنه الخروج من يده فكان تابعا له .
و الثالث : الخروج من عمران المصر فلا يصير مسافرا بمجرد نية السفر ما يخرج من عمران المصر و أصله ما روي عن علي Bه أنه لما خرج من البصرة يريد الكوفة صلى الظهر أربعا ثم نظر إلى خص أمامه و قال : لو جاوزنا الخص صلينا ركعتين و لأن النية إنما تعتبر إذا كانت مقارنة للفعل لأن مجرد العزم عفو و فعل السفر لا يتحقق إلا بعد الخروج من المصر فما لم يخرج لا يتحقق قران النية بالفعل فلا يصير مسافرا .
و هذا بخلاف المسافر إذا نوى الإقامة في موضع صالح للإقامة حيت يصير مقيما للحال لأن نية .
الإقامة هناك قارنت الفعل و هو ترك السفر لأن ترك الفعل فعل فكانت معتبرة و ههنا بخلافه و سواء خرج في أول الوقت أو في وسطه أو في آخره حتى لو بقي من الوقت مقدار ما يسع لأداء ركعتين فإنه يقصر في ظاهر قول أصحابنا .
و قال محمد بن شجاع البلخي و إبراهيم النخعي : إنما يقصر إذا خرج قبل الزوال فأما إذا خرج بعد الزوال فإنه يكمل الظهر و إنما يقصر العصر .
و قال الشافعي : إذا مضى من الوقت مقدار ما يمكنه أداء أربع ركعات فيه يجب عليه الإكمال و لا .
يجوز له القصر دون مضى دون ذلك اختلف أصحابه فيه و إن بقي من الوقت مقدار ما يسع لركعة واحدة لا غير أو للتحريمة فقط يصلي ركعتين عندنا و عند زفر يصلي أربعا .
أما الكلام في المسألة الأولى فبناه على أن الصلاة تجب في أول الوقت أو في آخره فعندهم تجب في أول الوقت فكلما دخل الوقت أو مضى منه مقدار ما يسع لأداء الأربع وجب عليه أداء أربع ركعات فلا يسقط شطرها بسبب السفر بعد ذلك كما إذا صارت دينا في الذمة بمضي الوقت ثم سافر لا يسقط الشطر كذا ههنا .
و عند المحققين من أصحابنا لا تجب في أول الوقت على التعيين و إنما تجب في جزء من الوقت غير معين و إنما التعيين إلى المصلي من حيث الفعل حتى أنه إذا شرع في أول الوقت يجب في ذلك الوقت و كذا إذا شرع في وسطه أو آخره و متى لم يعين بالفعل حتى بقي من الوقت مقدار ما يصلي فيه أربعا و هو مقيم يجب عليه تعيين ذلك الوقت للأداء فعلا حتى يأتم بترك التعيين و إن كان لا يتعين للأداء بنفسه شرعا حتى لو صلى فيه التطوع جاز و إذا كان كذلك لم يكن أداء الأربع واجبا قبل الشروع