( قال ) - C تعالى - ( ولا يجوز على شهادة رجل أو امرأة أقل من شهادة رجلين أو رجل وامرأتين عندنا ) وقال مالك - C تعالى - تجوز شهادة الواحد على شهادة الواحد لأن الفرع قائم مقام الأصلي معبر عنه بمنزلة رسول في اتصال شهادته إلى مجلس القاضي وكأنه حضر وشهد بنفسه واعتبر هذا برواية الأخبار فإن رواية الواحد على الواحد مقبولة ومذهبنا مروي عن علي - Bه .
والمعنى فيه أن شهادة الأصلي غابت عن مجلس القاضي فلا يثبت عنده إلا بشهادة شاهدين كإقرار المقر وهذا لأنها شهادة ملزمة فيما يجب على القاضي القضاء بشهادة الأصول والعدد شرط في هذه الشهادة إذا كان متمكنا بخلاف رواية الأخبار .
وإن شهد رجلان على شهادة رجلين جاز عندنا .
وقال الشافعي - C تعالى - لا يجوز إلا أن يشهد رجلان على شهادة كل واحد منهما لأن الفرعين يقومان مقام أصل واحد فلا تتم حجة القضاء بهما كالمرأتين لما قامتا مقام رجل واحد لم تتم حجة القضاء بشهادتهما والدليل عليه أن أحد الفرعين لو كان أصليا فشهد على شهادة نفسه وعلى شهادة صاحبه مع غيره لا تتم الحجة بالاتفاق فكذلك إذا شهدا جميعا على شهادة الأصلين .
وحجتنا في ذلك : أنهما يشهدان جميعا على شهادة كل واحد منهما وكما يثبت قول الواحد في مجلس القاضي بشهادة شاهدين يثبت قول الجماعة كالإقرار وهذا لأن الفرعين عدد تام لنصاب الشهادة وهما يشهدان على شهادة الأصول إلا على أصل الحق فإذا شهدا على شهادة أحدهما تثبت شهادته في مجلس القضاء كما لو حضر فشهد بنفسه .
ثم إذا شهد على شهادة الآخر تثبت شهادته أيضا في مجلس القضاء إذ لا فرق بين شهادتهما على شهادته وبين شهادة رجلين آخرين بذلك بخلاف شهادة المرأتين فذاك ليس بنصاب تام للشهادة ولكن كل امرأة بمنزلة شطر العلة والمرأتان شاهد واحد وبالشاهد الواحد لا يتم نصاب الشهادة وليس هذا كما لو شهد أحدهما على شهادة نفسه لأن الشاهد على شهادة نفسه لا يصلح أن يكون شاهد الفرع في تلك الحادثة لمعنين : .
أحدهما : أنه عنده علم المعاينة في هذه الحادثة فلا يستفيد شيئا بإشهاد الآخر إياه على شهادته .
والثاني : أن شهادة الفرع في حكم البدل ولهذا لا يصار إليه إلا عند العجز عن حضور الأصل بموته أو مرضه أو غيبته والشخص الواحد في الشهادة لا يكون أصلا وبدلا في حادثة واحدة .
توضيحه : أن شاهدة الأصلي تثبت نصف الحق فلو جوزنا مع ذلك شهادته وشهادة الآخر لكان فيه إثبات ثلاثة أرباع الحق بشهادة الواحد وذلك لا يجوز .
فأما إذا شهدا جميعا على شهادة الأصلين فلا يثبت في الحاصل بشهادة كل واحد منهما إلا نصف الحق وذلك جائز .
( والشهادة على الشهادة في كتب القضاء جائزة ) لأن ذلك يثبت مع الشبهات وتقبل فيه شهادة النساء مع الرجال فكذلك الشهادة على الشهادة .
وإن شهد شاهدان على شهادة شاهدين أن قاضي كذا ضرب فلانا حدا في قذف فهو جائز لأن المشهود به فعل القاضي لا نفس الحد وفعل القاضي مما يثبت مع الشبهات وإنما الذي يندرئ بالشبهات الأسباب الموجبة للعقوبة وإقامة القاضي حد القذف ليست بسبب موجب للعقوبة .
فإن قيل : أليس أن إقامة الحد مسقطة لشهادته عندكم بطريق العقوبة .
قلنا : ولكن رد شهادته من تمام حده فيكون سببه هو السبب الموجب للحد وهو القذف إلا أنه ترتب عليه ليكون متمما له فلا يظهر قبله .
فأما في الحقيقة القذف مع العجز عن أربعة من الشهداء يوجب جلدا مؤلما ويبطل شهادته بناء عليه وإذا شهد شاهدان على شهادة شاهد وقد خرس المشهود على شهادته أو عمى أو ارتد أو فسق أو ذهب عقله لم تجز الشهادة على شهادته وإن كان الفرعيان عدلين لأن القضاء إنما يكون بشهادة الأصول .
فأما الفرعي ينقل إلى مجلس القاضي بعبارته شهادة الأصول فكأن الأصلي حضر بنفسه وشهد ثم ابتلى بشيء من ذلك قبل قضاء القاضي فكما لا يجوز للقاضي أن يقضي بشهادته هناك لأنه لو قضى بها كان قضاء بغير حجة فكذلك هنا .
( وشهادة أهل الذمة على المستأمنين جائزة بخلاف شهادة المستأمنين على أهل الذمة ) لأن الذمي من أهل دارنا حتى لا يتمكن من الرجوع إلى دار الحرب بخلاف المستأمن فشهادة الذمي على المستأمن كشهادة المسلم على الذمي وشهادة المستأمن على الذمي كشهادة الذمي على المسلم .
ولكن أبو يوسف - C تعالى - يقول يحتمل أن ذلك كان في الحد .
وأنا أقول : في الحدود إذا عمى قبل الأداء أو بعد الأداء قبل الإمضاء فإنه لا تعمل بشهادته لأن الحدود تندرئ بالشبهات والصوت والنغمة في حق الأعمى تقام مقام المعاينة في حق البصير والحدود لاتقام بما يقوم مقام الغير بخلاف الأموال .
والمعنى فيه : أن في شهادة الأعمى تهمة يمكن التحرز عنها بجنس الشهود وذلك يمنع قبول الشهادة كما في شهادة الأب لولده وبيان الوصف أنه يحتاج عند أداء الشهادة إلى التمييز بين المشهود له والمشهود عليه والإشارة إليهما وإلى المشهود به فيما يجب إحضاره وآلة هذا التمييز البصير وقد عدم الأعمى ذلك المعنى وإنما يميز بالصوت والنغمة أو بخبر الغير فكما لا يجوز له ولا للبصير أن يشهد بخير الغير فكذلك لا تقبل شهادته إذا كان تمييزه بخبر الغير .
وأنا أقول : في الحدود إذا عمى قبل الأداء أو بعد الأداء قبل الإمضاء فإنه لا تعمل بشهادته لأن الحدود تندرئ بالشبهات والصوت والنغمة في حق الأعمى تقام مقام المعاينة في حق البصير والحدود لاتقام بما يقوم مقام الغير بخلاف الأموال .
( وشهادة المستأمنين بعضهم على بعض تقبل إذا كانوا من أهل دار واحدة وإن كانوا من أهل دارين كالرومي والتركي لا تقبل ) لأن الولاية فيما بينهم تنقطع بخلاف المنعتين ولهذا لا يجري التوارث بينهم بخلاف دار الإسلام فإنها دار حكم فيه اختلاف المنعة لا يختلف بالدار فأما دار الحرب ليس بدار أحكام فيه اختلاف المنعت تختلف بالدار وهذا بخلاف أهل الذمة فإنهم صاروا من أهل دارنا فتقبل شهادة بعضهم على بعض وإن كانوا من منعاة مختلفة فأما المستأمنون ما صاروا من أهل دارنا ولهذا يمكنون من الرجوع إلى دار الحرب ولا يمكنون من إطالة المقام في دار الإسلام .
( قال ) ( ومن ترك من المسلمين الصلوات في الجماعة والجمع مجانة لم تقبل شهادته ) لأنه مرتكب لما يفسق به ولأن الجماعة من أعلام الدين فتركها ضلالة .
ألا ترى أن عمر - Bه - قال يوما لأصحابه قد خرج من بيننا من كان ينزل عليه الوحي وخلف فيما بيننا علامة يميز بها المخلص من المنافق وهي الجماعة فكل من لقيناه في جماعة المسلمين شهدنا بإيمانه ومن لقيناه يتخلف عن الجماعة شهدنا بأنه منافق .
وإن كان ترك ذلك سهوا وهي لا تتم شهادته أجزت شهادته لأن ترك الجماعة سهو لا يوجب فسقه لأن الساهي معذور في بعض الفرائض ( فمن ) دونه أولى .
وإذا شهد كافران على شهادة مسلمين لكافر على كافر بحق أو على قضاء قاضي المسلمين على كافر لمسلم أو كافر لم تجز شهادتهما لأن المشهود به فعل المسلم ولا حاجة إلى فعل بيان المسلم بشهادة الكافر لأن فعل المسلم يتيسر إثباته بشهادة المسلمين .
وشهادة العبد والأمة في هلال رمضان جائزة عندنا خلافا للشافعي - C تعالى .
وحجتنا فيه : حديث الأعرابي عن رسول الله - A - فما اعتبر في ذلك إلا الإيمان حيث قال أتشهد أن لا إله إلا الله الحديث .
وقد بينا في كتاب الصوم الفرق بين هذا وبين الشهادة على هلال الفطر والأضحى وأن الشهادة على هلال رمضان ليست بإلزام للغير ابتداء بل هو التزام والتزام المسلم الصوم في رمضان بإيمانه فبهذه الشهادة تبين الوقت ولا يكون الالتزام فيها ابتداء .
( ولو شهد مسلمان على شهادة كافر جازت الشهادة ) لأنه إذا كان يثبت بشهادة المسلمين شهادة المسلم فلان يثبت بشهادتهما شهادة الكافر وهي دون شهادة المسلم أولى .
وإن كان كافرا في يده أمة اشتراها من مسلم فشهد عليه كافران أنها لكافر أو مسلم لم تجز شهادتهما .
وكذلك لو كانت في يده بهيمة من مسلم أو صدقة وهذا في قول أبي حنيفة ومحمد وهو قول أبي يوسف الأول - رحمهم الله تعالى - ثم رجع فقال أقضي بها على الكافر خاصة ولا أقضي بها على غيره وهو قول ابن أبي ليلى - C تعالى - لأن الملك في هذا للكافر في الحال وشهادة الكافر حجة في استحقاق الملك عليه وليس من ضرورة استحقاق الملك عليه الاستحقاق على البائع أو بطلان البيع كما لو أقر المشتري بها لإنسان فإن الملك يستحق عليه بإقراره ولا يبطل به البيع ولا فرق بينهما فإن القضاء بحسب الحجة والإقرار حجة على المقر دون غيره فكذلك شهادة الكافر حجة على الكافر دون المسلم .
ولأبي حنيفة ومحمد - رحمهم الله تعالى - طريقان : .
أحدهما : أن الملك بحجة البينة يستحق من الأصل فلهذا يستحق بزوائده ويرجع الباعة بعضهم على بعض باليمين وإذا كان أصل الملك للمسلم فهذه الشهادة إنما تقوم على استحقاق الملك على المسلم وشهادة الكافر ليست بحجة في ذلك كما قيل التمليك من غيره وهذا لأن القاضي لا يتمكن من القضاء بملك حادث بعد شراء الكافر لأنه لا بد للملك الحادث من سبب حادث ولم يثبت عنده ولا يتمكن من القضاء بالملك من الأصل لأن هذه الشهادة ليست بحجة فيه بخلاف الإقرار فإن الإقرار يجعل في الحكم بمنزلة إيجاب الملك للمقر له ابتداء ولهذا لا تستحق به الزوائد المنفصلة فيتمكن القاضي من القضاء بملك حادث بعد الشراء .
والثاني : إن هذه البينة تقوم على إبطال تصرف المسلم من البيع والهبة .
( ألا ترى ) أن الشهود لو كانوا مسلمين بطل بها تصرف البائع والواهب وشهادة الكفار على إبطال تصرف المسلم لا تقبل بخلاف الإقرار فإنه لا يتضمن إبطال تصرف المالك ولكن المقر يصير مبلغا بإقراره وإتلافه لا يتضمن انتقاض قبضه وبطلان تصرف البائع فأما هنا بهذه البينة تصير يد الكافر مستحقة من الأصل وبهذا الاستحقاق يفوت قبضه ضرورة وفوات القبض المستحق بالعقد يبطل التصرف .
ولو مات كافرا وترك اثنين وألفي درهم فاقتسماها ثم أسلم أحدهما فشهد كافران على أبيهما بدين أخرت ذلك في حصة الكافر خاصة لأن شهادة الكافر حجة على الكافر دون المسلم وبثبوت الدين على الميت يستحق تركته وتركته مال الاثنين في الحال فيثبت الدين بهذه الحجة في استحقاق نصيب الكافر من التركة دون نصيب المسلم كما لو أقر أحد الاثنين بالدين على الأب وجحد الآخر .
ولو مات كافر فادعى مسلم وكافر دينا عليه وأقام كل واحد منهما بينة من أهل الكفر أخذت ببينة المسلم وأعطيته حقه فإن بقي شيء كان للكافر .
وعلى هذا شهادة العدو على عدوه لا تقبل عند الشافعي - C تعالى - لأن العداوة بينهما تحمله على التقول عليه ولهذا لم يجوز شهادة أهل الأهواء على أهل الحق .
وروى الحسن بن زياد عن أبي يوسف - رحمهما الله تعالى - إن التركة تقسم بينهما على مقدار دينهما لأن كل واحد منهما يثبت ببينته دينه على الميت فإن أقام كل واحد منهما حجة على الميت فكان الدينين يثبت بإقرار الميت بخلاف ما تقدم فإن الوارث مستحق عليه باعتبار الحال فأما كل واحد من الفرعين لا يستحق على صاحبه شيئا وإنما يستحق كل واحد منهما على الميت وعلى ورثته .
ووجه ظاهر الرواية : أن دين المسلم ثبت في حق الميت وفي حق غريم الكافر ودين الكافر ثبت في حق الميت ولم يثبت في حق الغريم المسلم لأن بينته ليست بحجة في حقه والمزاحمة بينهما لا تكون إلا عند المساواة ولا مساواة بينهما إذا كان دين أحدهما ثابتا في حق الآخر ودين الآخر ليس بثابت في حقه فهو بمنزلة الدين المقر بة في الصحة مع الدين المقر بة في المرض تقدم دين الصحة فإن فضل شيء فهو للمقر له في المرض فهذا مثله .
ولو مات الكافر فأوصى إلى رجل مسلم فادعى رجل على الميت دينا وأقام شهودا من أهل الكفر جازت شهادتهم استحسانا .
وفي القياس لا تقبل لأنها لا تقوم على المسلم في إلزام قضاء الدين فالوصي يلزمه قضاء الدين والتركة في يده في الحال فبهذه البينة تستحق عليه يده وشهادة الكفار في ذلك ليست بحجة كما لو كان الوارث مسلما .
ووجه الاستحسان أن الثابت بهذه الشهادة تصرف وليه الكافر وشهادة الكفار حجة في ذلك والوصي نائب عنه بعد موته فيكون بمنزلة الوكيل في حياته ولو وكل كافر مسلما بخصومة فشهد عليه كافران بالدين قبلت البينة .
يوضحه : أن قضاء الدين من حق الميت وهو إنما نصب الصبي ليتدارك به ما فرط في حياته وإنما يتم له هذا المقصود إذا اعتبرنا حاله فيما يقام عليه من الحجة لا حال الوصي فكذلك تجوز شهادة الكافر على المكاتب الكافر والعبد المأذون الكافر وإن كان مولاه مسلما يتصرفان لأنفسهما ولهذا لا يرجعان بعهدة التصرف على أحد فالاستحقاق بهذه الشهادة يقتصر عليهما ثم المولى بالإذن وإيجاب الكتابة فقد صار راضيا بالاستحقاق عليهما بشهادة الكفار لما باشر العقد مع علمه بحالهما كما صار راضيا باستحقاق الكسب بإقرارهما .
ولو كان العبد المأذون له مسلما ومولاه كافرا لم تجز شهادة الكفار على العبد لأنه يقوم الاستحقاق على المسلم ولو وكل كافرا مسلما بشراء أو بيع لم يجز على الوكيل في ذلك شهادة الكفار لأن الوكيل بالشراء والبيع في حقوق العقد كالعاقد لنفسه فإنما تقوم هذه البينة على المسلم ولو وكل مسلم كافرا بذلك جازت شهادة الكفار على الوكيل لأنه بمنزلة العاقد بنفسه ثم إيجابه العقد كلامه فيثبت بهذه الشهادة كإقراره ولو شهد على إقراره بذلك قبلت الشهادة وجعلت بمنزلة ما لو ثبت إقراره بالمعاينة فكذلك إذا شهد على العقد والله أعلم بالصواب