قال الشيخ الإمام - C تعالى - : الأصل أن الشهادة ترد بالتهمة لقوله - A - لا شهادة لمتهم ولأنه خبر محتمل للصدق والكذب فإنما يكون حجة إذا ترجح جانب الصدق فيه وعند ظهور سبب التهمة لا يترجح جانب الصدق .
ثم التهمة تارة تكون لمعنى في الشاهد وهو الفسق لأنه لما لم ينزجر عن ارتكاب محظور دينه مع اعتقاد حرمته متهم بأنه لا ينزجر عن شهادة الزور .
وقد بينا أن العدالة شرط العدالة شرط للعمل بالشهادة والعدالة هي الاستقامة وذلك بالإسلام واعتدال العقل ولكن يعارضهما هوى يضله أو يصده وليس لهذه الاستقامة حد يوقف على معرفته لأنه بمشيئة الله تعالى تتفاوت أحوال الناس فيها فجعل الحد في ذلك ما لا يلحق الحرج في الوقوف عليه .
وقيل : كل من ارتكب كبيرة يستوجب بها عقوبة مقدرة فهو لا يكون عدلا في شهادته ففي غير الكبائر إذا أصر على ارتكاب شيء مما هو حرام في دينه يخرج من أن يكون عدلا .
وإن ابتلي بشيء من غير الكبائر ولم يظهر منه الإصرار على ذلك فهو عدل في الشهادة لأنه إذا أصر على ذلك فقد أظهر رجحان الهوى والشهوة على ما هو المانع وهو عقله ودينه وإذا ابتلي بذلك من غير إصرار عليه فإنما ظهر رجحان دينه وعقله على الهوى والشهوة وقد تكون التهمة لمعنى في المشهود له وهو وصله خاصة بينه وبين الشاهد يدل على إيثاره على المشهود عليه وذلك شيء يعرف بالعادة فقد ظهر من عادة الناس العدول منهم وغير العدول الميل إلى الأقارب وأبنائهم على الأجانب فتتمكن تهمة الكذب بهذا الطريق في الشهادة وقد يكون ذلك في الشاهد لا يقدح في عدالته وولايته وهو العمى فليس للأعمى آلة التمييز بين الناس حقيقة وذلك تمكن تهمة الغلط في الشهادة وتهمة الغلط وتهمة الكذب سواء .
وقد تكون تهمة الكذب مع قيام العدالة بدليل شرعي وهو في حق المحدود في القذف بعد التوبة فقد جعل الله تعالى عجزه عن الإتيان بأربعة من الشهداء دليل كذبه بقوله - D - ( فإذا لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون ) .
إذا عرفنا هذا فنقول : ذكر عن شريح - C تعالى - قال لا تجوز شهادة الوالد لولده والولد لوالده ولا المرأة لزوجها ولا الزوج للمرأة ولا العبد لسيده وبذلك نأخذ .
ويخالفنا في الولد والوالد مالك - C تعالى - فهو يجوز شهادة كل واحد منهما لصاحبه بالقياس على شهادة كل واحد منهما على صاحبه وهذا لأن دليل رجحان الصدق في خبره انزجاره عما يعتقد حرمته ولا فرق في هذا بين الأجانب والأقارب وحرمة شهادة الزور بسبب الدين يتناول الموضعين ولهذا قبلت شهادة الأخ لأخيه فكذلك شهادة الوالد لولده ولا معتبر بالميل إليه طبعا بعدما قام دليل الزجر شرعا . ولكنا نستدل بحديث هشام بن عروة عن أبي عن عائشة - رضي الله تعالى عنهما - أن النبي - A - قال ( لا تقبل شهادة خائن ولا خائنة ولا ذي غمره على أخيه المسلم ولا شهادة الولد لوالده ولا شهادة الوالد لولده ) وكذلك رواه عمر بن شعيب عن أخيه عن جده زاد فيه ( ولا شهادة المرأة لزوجها ولا شهادة الزوج لامرأته ) وفي الحديثين ذكر ولا مجلود حد يعني في القذف وروي أن الحسن شهد لعلي - Bهما - مع قنبر عند شريح - C تعالى - بدرع له قال شريح - C تعالى - ائت بشاهد آخر فقال علي - Bه - مكان الحسن أو مكان قنبر قال لا بل مكان الحسن - Bه - قال علي - Bه - أما سمعت رسول الله - A - يقول للحسن والحسين هما سيدا شباب أهل الجنة فقال قد سمعت ولكن إئت بشاهد آخر فعزله عن القضاء ثم أعاده عليه وزاد في رزقه فدل أنه كان ظاهرا فيما بينهم أن شهادة الولد لوالده لا تقبل إلا أنه وقع لعلي - Bه - في الابتداء أن للحسن - Bه - خصوصية في ذلك لما خصه به رسول الله - A - من السيادة .
ووقع عند شريح رسول الله - A - من السيادة .
ووقع عند شريح - C تعالى - أن السبب المانع وهو الولاد قائم في حقه ولا طريق لمعرفة الصدق والكذب حقيقة في حق من هو غير معصوم عن الكذب فيبني الحكم على السبب الظاهر وهو كما وقع عند شريح - C تعالى - وإليه رجع علي - Bه - والمعنى فيه تمكن تهمة الكذب فإن العدالة تدل على رجحان جانب الصدق عند استواء الخصمين في حقه ولا تدل على ذلك عند عدم الاستواء .
( ألا ترى ) أن في شهادة المرء لنفسه أو فيما له فيه منفعة لا يظهر رجحان جانب الصدق باعتبار العدالة لظهور ما يمنع من ذلك بطريق العادة فكذلك في حق الآباء والأولاد إما لشبهة البعضية بينهما أو لمنفعة الشاهد في المشهود به والمنافع بين الآباء والأولاد متصلة قال الله تعالى { أباؤكم وأبناؤكم لا تردون أيهم أقرب لكم نفعا } ( النساء : 11 ) سببا للتحاسد والعداوة وأول ما يقع من ذلك إنما يقع بين الأخوة .
بيانه : في قوله تعالى { قال لأقتلنك } ( المائدة : 27 ) وبيان ذلك في حال يوسف - عليه السلام - وإخوته فمكان التعارض يظهر رجحان جانب الصدق في الشهادة بظهور عدالته ومثل هذه المعارضة لا توجد في الآباء والأولاد ولا يشكل هذا على من نظر في أحوال الناس عن إنصاف .
فأما في شهادة أحد الزوجين لصاحبه يخالفنا الشافعي - C تعالى - فيقول تقبل شهادة كل واحد منهما لصاحبه لأنه ليس بينهما بعضية والزوجية قد تكون سببا للتنافر والعداوة وقد تكون سببا للميل والإيثار فهي نظير الأخوة أو دون الأخوة فإنها تحتمل القطع والأخوة لا تحتمل .
ودليل هذا الوصف جريان القصاص بينهما في الطريقين في النفس وأن كل واحد منهما لا يعتق على صاحبه إذا ملكه ولأن هذه وصلة بينهما باعتبار عقد لا يؤثر في المنع من قبول الشهادة كالصداق والإظهار والأختان وهذا لأن عقد النكاح يثبت أحكاما مشتركة بينهما ففيما وراء ذلك ينزل كل واحد منهما من صاحبه منزلة الأجنبي كشريكي العنان .
وحجتنا في ذلك : أن ما بينهما من وصلة الزوجية تمكن تهمة في شهادة كل واحد منهما لصاحبه وبيان ذلك من وجوه أحدها أن عقد النكاح مشروع لهذا وهو أن يألف كل واحد منهما بصاحبه ويميل إليه ويؤثره على غيره وإليه أشار الله تعالى في قوله { خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها } ( الروم : 21 ) وهو مشروع لمعنى الاتحاد في القيام بمصالح المعيشة ولهذا جعل رسول الله - A - أمور داخل البيت على فاطمة - Bها - وأمور خارج البيت على علي - Bه - وبهما تقوم مصالح المعيشة فكان في ذلك كشخص واحد .
ولا يقال هذا الاتحاد بينهما في حقوق النكاح خاصة لأن معنى الاتحاد في حقوق النكاح مستحق شرعا وفيما وراء ذلك ثابت عرفا فالظاهر ميل كل واحد منهما إلى صاحبه وإيثاره على غيره كما في الآباء والأولاد بل أظهر فإن الإنسان قد يعادي والديه لترضى زوجته وقد تأخذ المرأة من مال أبيها فتدفعه إلى زوجها والدليل عليه أن كل واحد منهما يعد منفعة صاحبه منفعته ويعد الزوج غنيا بمال الزوجة قيل في تأويل قوله تعالى { ووجدك عائلا فأغنى } ( الضحى : 8 ) أي غني بمال خديجة - Bها - ولما جاء إلى عمر - Bه - رجل فقال إن عبدي سرق مرآة امرأتي فقال مالك سرق بعضه بعضا والدليل على أن الزوجة بمنزلة الولاد حكما استحقاق الإرث بها من غير حجب بمن هو أقرب .
توضيح الفرق : ما قلنا إن الزوجة بمنزلة الأصل للولاد فإن الولاد تنشأ من الزوجية والحكم الثابت للفرع يثبت في الأصل وإن انعدم ذلك المعنى فيه .
( ألا ترى ) أن المحرم إذا كسر بيض الصيد يلزمه الجزاء وليس في البيض معنى الصيدية ولكنه أصل الصيد فيثبت فيه من الحكم ما يثبت في الصيد إلا أن هذا الأصل إنما يلحق بالولاد في حكم يتصور قيام الزوجية عند ثبوت ذلك الحكم دون ما لا يتصور كالقصاص فإنه يجب بعد القتل ولا زوجية بعد قتل أحدهما صاحبه والعتق إنما يثبت بعد الملك ولا زوجية بعد الملك .
فأما حكم الشهادة يكون في حال قيام الزوجية فيلحق الزوجية فيه بالولاد .
وكان سفيان الثوري - C تعالى - يقول شهادة الزوج لزوجته تقبل وشهادة المرأة لزوجها لا تقبل لأنها في حكم المملوك له المقهور تحت يده فيتمكن تهمة الكذب في شهادتها له وذلك تنعدم في شهادته لها واعتمد فيه حديث علي - Bه - فإنه شهد لفاطمة - Bها - في دعوى فدك مع امرأة بين يدي أبي بكر - Bه - فقال لها أبو بكر - Bه - ضمي إلى الرجل رجلا أو إلى المرأة امرأة فهذا اتفاق منهما على جواز شهادة الزوج لزوجته .
ولكنا نقول : دليل التهمة تعم الجانبين من الوجه الذي قررنا فربما يكون ذلك في جانب الزوج أظهر لأنها لما كانت في يده فما لها في يده من وجه أيضا فهو يثبت اليد لنفسه في المشهود به وكذلك بكثرة ما لها تزداد قيمة ملكه فإن قيمة المملوك بالنكاح تختلف بقلة ما لها وكثرة ما لها . بيان ذلك في مهر المثل فمن هذا الوجه يكون الزوج شاهدا لنفسه .
ولا حجة في حديث علي - Bه - لأن أبا بكر - Bه - لم يعمل بتلك الشهادة بل ردها وكان للرد طريقان الزوجية ونقصان العدد فأشار إلى أبعد الوجهين تحرزا عن الوحشة .
وكذلك علي - Bه - علم أن أبا بكر - Bه - لا يعمل بتلك الشهادة لنقصان العدد وكره انحسامها بالامتناع من أداء الشهادة فلهذا شهد لها .
وقد قيل : إن شهادة علي - Bه - لها لم تشتهر وإنما المشهور أنه شهد لها رجل وامرأة وأما قول شريح ولا العبد لسيده فهو مجمع عليه لأن شهادة العبد لا تقبل لسيده ولا لغير سيده .
وحكى عن محمد بن سلمة - Bه - قال كان يحيى بن أكثم - C تعالى - أعلم الناس باختلاف العلماء - رحمهم الله تعالى - وكان إذا قال في شيء اتفق العلماء - رحمهم الله تعالى - على كذا نزل أهل العراق على قوله وقد قال اتفق العلماء على أن العبد لا شهادة له وقد يروى أن عليا وزيدا - Bهما - اختلفا في المكاتب إذا أدى بعض بدل الكتابة فقال علي - Bه - يعتق بقدر ما أدى منه .
وقال زيد - Bه - لا يعتق ما بقي عليه درهم فقال زيد لعلي - Bهما - أرأيت لو شهد ( أكانت ) تقبل بعض شهادته دون البعض فهذا دليل الاتفاق منهما على أن لا شهادة للعبد .
واختلف عمر وعثمان - Bهما - في العبد إذا شهد في حادثة فردت شهادته ثم أعتق فأعادها فقال عثمان - Bه - لا تقبل وقال عمر - Bه - تقبل فذلك اتفاق منهما على أنه لا شهادة للعبد .
وعن ابن عباس - Bهما - قال لا شهادة للعبد وهذا لأن في الشهادة معنى الولاية فإنه قول ملزم على الغير ابتداء وليس معنى الولاية إلا هذا والرق يبقي الولاية فالأصل ولاية المرء على نفسه .
فإذا كان الرق يخرجه من أن يكون أهلا للولاية على نفسه فعلى غيره أولى وقد استدلوا في الكتاب على أن العبد ليس من أهل الشهادة بقوله تعالى { ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا } ( البقرة : 282 ) والعبد لا يدخل في هذا الخطاب لأن خدمته ومنفعته لمولاه فلا يجب عليه الحضور لأداء الشهادة .
وإن دعي إلى ذلك بل لا يحل له ذلك لأن منافعه في هذا الزمان غير مستثنى من حق المولى .
وذكر عن شريح - C تعالى - أنه قبل شهادة الأخ لأخيه وقد بينا الفرق بين هذا وبين شهادة الولد لوالده واستدل في الكتاب بقوله - A - ( أنت ومالك لأبيك ) فمطلق هذه الإضافة يدل على أن الولد كالمملوك لوالده وأن مال الولد لوالده وقد دل عليه قوله - A - إن أطيب ما يأكل الرجل من كسبه وأن ولده من كسبه ومثل ذلك لا يوجد في الأخوة وسائر القرابات ويجرز شهادة الرجل لوالده من الرضاعة ووالدته لأن الرضاع تأثيره في الحرمة خاصة وفيما وراء ذلك كل واحد منهما من صاحبه كالأجنبي .
( ألا ترى ) أنه لا يتعلق به استحقاق الإرث واستحقاق النفقة حالة اليسار والعسرة وبه يفرق بين الأخوة والولاد فالأخوة لا يتعلق بها استحقاق النفقة عند عدم اليسار بخلاف الولادة والزوجية فإنه يتعلق بهما استحقاق حالتي اليسار والعسرة .
ويجوز شهادة الرجل لأم امرأته ولزوج ابنته لأن المصاهرة التي بينهما تأثيرها في حرمة النكاح فقط فأما ما سوى ذلك لا تأثير للمصاهرة فهي بمنزلة الرضاع أو دونه .
وعن إبراهيم - C تعالى - قال لا تجوز شهادة المحدود في القذف وإن تاب إنما توبته فيما بينه وبين الله تعالى وعن شريح - C تعالى - مثله وبذلك يأخذ علماؤنا - رحمهم الله تعالى - وهو قول ابن عباس - Bهما - فإنه كان يقول إنما يؤتيه فيما بينه وبين الله تعالى فأما نحن فلا نقبل شهادته .
وقال الشافعي - C تعالى - تقبل شهادته بعد التوبة وهو قول عمر - Bه - وقد كان يقول لأبي بكرة تب تقبل شهادتك واستدل الشافعي - C تعالى - بظاهر الآية فإن الله تعالى قال { إلا الذين تابوا } ( البقرة : 160 ، آل عمران : 89 ، النساء : 146 ، المائدة : 34 ) والاستثناء متى يعقب كلمات منسوقة بعضها على البعض ينصرف إلى جميع ما تقدم إلا ما قام .
الدليل عليه كقول القائل امرأته طالق وعبده حر وعليه حجة إلا أن يدخل الدار ثم قام الدليل من حيث الإجماع على أن الاستثناء لا ينصرف إلى الجلد فيبقى ما سواه على هذا الظاهر مع أن عندنا الاستثناء ينصرف إلى الجلد أيضا إلا أن الجلد حق المقذوف فتوبته في ذلك أن يستعفيه فلا جرم إذا استعفاه فعفى عنه سقط الجلد والمعنى فيه أن الموجب لرد الشهادة فسقه وقد ارتفع بالتوبة .
وإنما قلنا ذلك لأن الموجب لرد شهادته إما أن يكون نفس القذف أو إقامة الحد عليه أو سمة الفسق لا جائز أن يكون الموجب لرد شهادته نفس القذف لأنه خبر متمثل بين الصدق والكذب فباعتبار الصدق لا يكون موجبا رد الشهادة .
ولا ترد الشهادة على التأبيد وكذلك باعتبار الكذب فلا تأثير للكذب في رد الشهادة على التأبيد ولأن هذا افتراء منه على عبد من عباد الله فلا يكون أعظم من افترائه على الله تعالى وهو الكفر وذلك لا يوجب رد الشهادة على التأبيد ولأنه نسبة الغير إلى الزنا فلا يكون أقوى من مباشرة فعل الزنا وذلك لا يوجب رد الشهادة على التأبيد وهذا على أصلكم أظهر فإنكم تقولون قبل إقامة الحد عليه تقبل شهادته وإن لم يتب وبالاتفاق إذا تاب قبل إقامة الحد عليه تقبل شهادته ولا جائز أن يكون الموجب لرد الشهادة إقامة الحد عليه فإن ذلك فعل الغير به وتعتبر إقامة هذا الحد بإقامة سائر الحدود وهذا لأن الحد من وجه يقام تطهيرا قال - A - ( الحدود كفارات لأهلها ) فلا يصلح أن تكون سببا لرد شهادته على التأبيد وحاله إذا تاب بعد إقامة الحد عليه أحسن من حاله قبل إقامة الحد عليه .
فإذا بطل الوجهان صح أن الموجب لرد شهادته سمة الفسق وقد ارتفع ذلك بالتوبة بدليل قبول خبره في الديانات ولهذا قلت قبل إقامة الحد عليه لا تقبل شهادته عليه إذا لم يتب لأن الفسق ثبت بنفس القذف لما فيه من هتك ستر العفة على المسلم ولهذا لزمه الحد به والحد لا يجب إلا بارتكاب جريمة موجبة للفسق ولأن هذا محدود في قذف حسنت توبته فتقبل شهادته كالذمي إذا أسلم بعد إقامة الحد عليه .
وحجتنا في ذلك من حيث الظاهر : قوله تعالى { ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا } ( النور : 4 ) وإلا بدا لا نهاية له فالتنصيص عليه في بيان رد شهادته دليل على أنه يتناول الشهادة على التأبيد ومعنى قوله لهم أي للمحدود في القذف وبالتوبة لا يخرج من أن يكون محدودا في قذف بخلاف قوله تعالى { ولا تصل على أحد منهم مات أبدا } ( التوبة : 84 ) ومعناه من المنافقين وبالتوبة يخرج من أن يكون منافقا والمراد بالآية شهادته في الحوادث لا ما يأتي به من الشهود على صدق مقالته .
فالصحيح من المذهب عندنا أنه إذا أقام المحدود أربعة من الشهداء على صدق مقالته بعد إقامة الحد عليه تقبل ويصير هو مقبول الشهادة وقوله تعالى لهم شهادة بمنزلة قوله شهادتهم كما يقال هذه أدارك وهذه دار لك وفي التنكير ما يدل على أن المراد ما قلنا دون أربعة يشهدون له فإنه لو كان المراد ذاك لقال ولا تقبلوا لهم الشهادة فإن المنكر إذا أعيد يعاد معرفا قال الله تعالى { كما أرسلنا إلى فرعون رسولا فعصى فرعون الرسول } ( المزمل : 15 ، 16 ) .
ولا كلام في المسألة من طريق القياس فإن مقادير الحدود لا تعرف بالقياس ولكن الكلام على طريق الاستدلال بالمنصوص فنقول إن رد الشهادة من تمام حده وأصل الحد لا يسقط بالتوبة فما هو متمم له لا يسقط أيضا .
وبيان هذا أن نفس القذف لا يكون موجبا للحد كما قاله الخصم ولأن القذف متمثل بين الصدق والكذب وربما يكون حسبه من القاذف إذا علم إضراره ووجد أربعة من الشهداء ليقيم عليه الحد ولهذا يتمكن من إثباته بالبينة ولكن وجوب الحد عليه بالقذف مع عجزه عن الإتيان بأربعة من الشهداء وإليه أشار الله تعالى في قوله D { ثم لم يأتوا بأربعة شهداء } ( النور : 4 ) فالمعطوف على الشرط شرط ثم العجز عن ذلك يظهر بما يظهر به العجز عن الدفع في سائر الحوادث فعند ذلك يصير القذف موجبا جلدا مؤلما محرما لقبول الشهادة وذلك منصوص عليه في قوله تعالى { فاجلدوهم } ( النور : 4 ) والفاء للتعقيب وقوله تعالى { ولا تقبلوا لهم } ( النور : 4 ) معطوف على الجلد والعطف للاشتراك بين المعطوف والمعطوف عليه فإذا كان المعطوف عليه حدا كان المعطوف من تمام الحد .
كما قال الشافعي - C تعالى - في قوله - A - ( وتغريب عام ) أنه من تمام حد البكر ولكن نقول : هناك التغريب لا يصلح أن يكون حدا لما فيه من الإغراء على ارتكاب الفاحشة دون الزجر وهنا رد الشهادة صالح لتتميم الحد لأنه مؤلم قلبه كما أن الجلد مؤلم بدنه ففيه معنى الزجر ثم حرمة القاذف باللسان ورد شهادته حد في المحل الذي حصل به الجريمة وذلك مشروع كحد السرقة والمقصود من هذا الحد دفع الشين عن المقذوف وذلك في إهدار قوله أظهر منه في إقامة الجلد عليه فلهذا جعلنا رد الشهادة متمما للحد وهذا بخلاف قوله - A - ( للسارق اقطعوه ثم احسموه ) فإن الحسم لا يكون متمما للحد لأنه دواء فلا يصلح أن يكون متمما للحد ثم حرف النفي في قوله تعالى { ولا تقبلوا لهم شهادة } ( النور : 4 ) لا يمنع العطف فقد يعطف النهي على الأمر كما يقول لغيره اجلس ولا تتكلم وأما قوله تعالى { وأولئك هم الفاسقون } ( النور : 4 ) ليس بعطف بل هو ابتداء بحرف الواو وقد يكون ذلك لحسن نظم الكلام كقوله تعالى { والراسخون في العلم } ( آل عمران : 7 ) وقوله تعالى { ولباس التقوى } ( النور : 4 ) وقوله تعالى { ويمحوا الله الباطل } ( الشورى : 24 ) وبيان أنه ليس بعطف أن قوله تعالى { فاجلدوهم } ( النور : 4 ) أمر بفعل وهو خطاب الأمة وقوله تعالى { ولا تقبلوا لهم } ( النور : 4 ) نهي عن فعل وهو خطاب الأمة أيضا وقوله تعالى { وأولئك هم الفاسقون } ( النور : 4 ) إثبات وصف لهم فكيف تتحقق المشاركة بينه وبين ما تقدم ليكون عطفا ولأن قوله تعالى { وأولئك هم الفاسقون } بيان لجريمتهم .
وإزالة الإشكال أنهم لما ( آذوا ) استوجبوا هذه العقوبة وما تقدم بيان الواجب بالجريمة ولا يتحقق عطف الجريمة على الواجب بها .
والدليل عليه : أنه لو كان هذا عطفا لكان من الحد أيضا فينبغي أن لا يرتفع بالتوبة كما لا يرتفع بالحد فلا تأثير للتوبة في الحد وإنما يسقط عنده بعفو المقذوف ويستوي في ذلك إن تاب القاذف أو لم يتب .
وكان ينبغي أن يقال إذا تاب حتى حرم بفسيقة أن لا يقام عليه الحد لأن الحد لا يحتمل الوصف بالتحري .
والذي يوضح ما قلنا أن الثابت بالنص هو التوقف في خبر الفاسق كما قال الله تعالى { فتبينوا } ( الحجرات : 6 ) والمنصوص عليه هنا حكم آخر وهو الرد دون التوقف فعرفنا أنه ليس بسبب الفسق بل هو متمم للحد كما قررنا ولو كان رد الشهادة بسبب الفسق لكان في الآية عطف العلة على الحكم وذلك لا يحسن في البيان .
ولهذا الأصل قلنا بقبول شهادته قبل إقامة الحد عليه وإن لم يتب لأنه من تمام حده أو أنه بعد إقامة الحد وهذا لأن بإقامة الحد يصير محكوما بكذبه والمتهم بالكذب لا شهادة له فالمحكوم بالكذب أولى ويستدل بهذا في تعيين المسألة فإنه بعد إقامة الحد عليه في جميع الحوادث بمنزلة الفاسق إذا شهد في حادثة فردت شهادته فتلك الشهادة لا تقبل منه بعد ذلك وإن تاب لأنه صار محكوما بكذبه فيها فكذلك المحدود في جميع الشهادة .
وبيان ما قلنا فيما روي : أن هلال بن أمية لما قذف امرأته بشريك بن سمحا قال المسلمون الآن يجلد هلال فتبطل شهادته في المسلمين فذلك دليل على أنه لا تبطل شهادته قبل إقامة الحد وأن بطلان الشهادة من تمام الحد وتأويل قول عمر - Bه - لأبي بكرة تقبل شهادتك في الديانات .
( ألا ترى ) : أن ما روي إن أبا بكرة كان إذا استشهد في شيء قال وكيف تشهدني وقد أبطل المسلمون شهادتي وهو أعلم بحاله من غيره فأما الذمي إذا أقيم عليه حد القذف سقطت شهادته وتم به حده لأنه كان من أهل الشهادة ثم بالإسلام استفاد شهادة لم تكن موجودة عند إقامة الحد وهذه الشهادة لم تصر مردودة وبه فارق العبد إذا أقيم عليه الحد ثم عتق لأن العبد لم يكن أهلا للشهادة وتمام الحد يرد الشهادة فيتوقف على ما بعد العتق .
فإن عتق الآن ثم حده ترد شهادته وهذا الفرق على الرواية التي يقول إن خبر المحدود في القذف في الديانات تقبل وأما على الرواية التي يقول لا يقبل خبره في الديانات وهو رواية المنتفى .
فوجه الفرق بينهما أن الكافر بالإسلام استفاد عدلة لم تكن موجودة عند إقامة الحد وهذه العدالة لم تصر مجروحة بخلاف العبد فهو بالعتق لا يستفيد عدالة لم تكن موجودة من قبل وقد صارت عدالته مجروحة بإقامة الحد عليه فلا تقبل شهادته بحال .
فإن قال : القاذف عندي لا يكون أهلا للشهادة عند إقامة الحد عليه لأنه فاسق وإنما يستفيد الأهلية بعد ذلك بالتوبة .
قلنا : لا كذلك فقد قامت الدلالة لنا على أن الفاسق من أهل الشهادة وفي قوله تعالى { ولا تقبلوا لهم شهادة } ( النور : 4 ) ما يدل على ذلك ثم مذهبه هذا من أقوى دليل لنا عليه فإن عنده قبل التوبة لا شهادة له فلا تتصور رد شهادته ويتبين بهذا أن المراد من قوله تعالى { ولا تقبلوا لهم شهادة } ( النور : 4 ) رد لشهادته بعد وجودها بالأهلية وذلك بعد التوبة .
وعن علي بن أبي طالب - Bه - أنه شهد عنده أعمى فقالت أخت المشهود عليه أنه أعمى فذكر ذلك لعلي - Bه - فرد شهادته وبه نأخذ وكان مالك - C تعالى - يقول إن شهادة الأعمى مقبولة لأن الأعمى لا يقدح في الولاية والعدالة فباعتبارهما يجب قبول الشهادة .
بيانه : أنه من أهل الولاية على نفسه فتتعدى ولايته إلى غيره عند وجود سبب التعدي وهو أهل للعدالة لانزجاره عما يعتقده حراما في دينه ولهذا قبلت رواية الأعمى فقد كان في الصحابة - رضوان الله عليهم - من هو أعمى .
وقد كان في الأنبياء - عليهم السلام - من ابتلي بذلك فدل أن الأعمى لا يقدح في العدالة وفوات العينين كفوات الرجلين واليدين فلا يؤثر في المنع من قبول شهادته .
ونحن نسلم هذا كله ولكن نقول يحتاج في تحمل الشهادة وأدائها إلى التمييز بين من له الحق وبين من عليه وقد عدم آلة التمييز حقيقة لأن الأعمى لا يميز بين الناس إلا بالصوت والنغمة فتتمكن من شهادته شبهة يمكن التحرز عنها بجنس المشهود وذلك مانع من قبول الشهادة .
وقال زفر - C تعالى - فيما لا يجوز الشهادة عليه إلا بالمعاينة لا شهادة للأعمى فأما فيما تجوز الشهادة فيه بالتسامع تقبل شهادة الأعمى لأنه في السماع كالبصير وإنما عدم آلة العينين .
ولكنا نقول : في أداء الشهادة هو محتاج إلى الإشارة إلى المشهود له والمشهود عليه ولا يتمكن من ذلك إلا بدليل مشتبه وهو الصوت والنغمة .
وعلى هذا الأصل قال أبو يوسف والشافعي - رحمهما الله تعالى - إذا تحمل الشهادة وهو بصير ثم أداها وهو أعمى تقبل شهادته لأن تحمله قد صح بطريق ثبت له العلم به وبعد صحة العلم إنما يحتاج إلى الحفظ والأعمى في ذلك كالبصير ويحتاج إلى الأداء باللسان والأعمى في ذلك كالبصير فتعريف المشهود له والمشهود عليه بذكر الاسم والنسب والإشارة إليهما بالطريق الذي يعلم أنه مصيب في ذلك يكفي لأداء الشهادة .
ألا ترى أن الأعمى يباح له وطء زوجته وجاريته ولا يميزهما من غيرهما إلا بالصوت والنغمة وأن البصير إذا شهد على ميت أو غائب يقام ذكر الاسم والنسب مقام الإشارة إلى العين في صحة أداء الشهادة فهذا مثله .
وأبو حنيفة ومحمد - رحمهما الله تعالى - قالا لا تقبل شهادته لحديث علي - Bه - فإنه لا يستفسر أنه وقت التحمل كان بصيرا أو أعمى وفي هذا الحديث دليل أن ذلك معروفا بينهم حتى لم يخف على النساء .
ولكن أبو يوسف - C تعالى - يقول يحتمل أن ذلك كان في الحد .
وأنا أقول : في الحدود إذا عمى قبل الأداء أو بعد الأداء قبل الإمضاء فإنه لا تعمل بشهادته لأن الحدود تندرئ بالشبهات والصوت والنغمة في حق الأعمى تقام مقام المعاينة في حق البصير والحدود لاتقام بما يقوم مقام الغير بخلاف الأموال .
والمعنى فيه : أن في شهادة الأعمى تهمة يمكن التحرز عنها بجنس الشهود وذلك يمنع قبول الشهادة كما في شهادة الأب لولده وبيان الوصف أنه يحتاج عند أداء الشهادة إلى التمييز بين المشهود له والمشهود عليه والإشارة إليهما وإلى المشهود به فيما يجب إحضاره وآلة هذا التمييز البصير وقد عدم الأعمى ذلك المعنى وإنما يميز بالصوت والنغمة أو بخبر الغير فكما لا يجوز له ولا للبصير أن يشهد بخير الغير فكذلك لا تقبل شهادته إذا كان تمييزه بخبر الغير .
والأعمى في أداء الشهادة كالبصير إذا شهد من وراء الحجاب وهذا بخلاف الوطء فإنه يجوز أن يعتمد فيه على خبر الواحد إذا أخبره أن هذه امرأته وقد زفت إليه وهذا لأن الضرورة تتحقق فيه فالأعمى يحتاج إلى قضاء الشهوة والنسل كالبصير ولا ضرورة هنا ففي الشهود كثرة وهذا بخلاف الموت فإن ذلك لا يمكن التحرز عنه بجنس الشهود فالمدعي وإن استكثر من الشهود يحتاج إلى إقامة الاسم والنسبة مقام الإشارة عند موت المشهود عليه أو غيبته على أن هناك الإشارة تقع إلى وكيل الغائب ووصي الميت وهو في ذلك قائم مقامه .
ولا يقال بأنه ما كان يعلم عند الاستشهاد أن الشاهد يبتلى بالعمى لأن المعنى يضعف بما إذا فسق الشاهد بعد التحمل فإن شهادته لا تقبل والمدعي ما كان يعلم أن الشاهد يفسق بعد التحمل ثم هذا في القصاص والحدود التي فيها حق العباد موجود وكم يعتبر مع عظم حرمتها فلأن لا يعتبر في الأموال مع خفة حرمتها أولى ثم ( بماذا ) يعرف أنه كان بصيرا وقت التحمل ؟ فإن قول الشاهد في ذلك غير مقبول وقول المدعي كذلك والمدعى عليه منكر للمشهود به أصلا .
( قال ) ( ويتصور هذا فيما إذا جاء وهو بصير ليؤدي الشهادة فلم يتفرغ القاضي لسماع شهادته حتى عمي أو كان القاضي يعرف الوقت الذي عمي هو فيه وتاريخ المدعي سابق على ذلك ولا تجوز شهادة الأخرس ) لأن أداء الشهادة يختص بلفظ الشهادة حتى إذا قال الشاهد أخبر وأعلم لا يقبل ذلك منه ولفظ الشهادة لا يتحقق من الأخرس ثم شهادة الأخرس ( مشتبهة ) فإنه يستدل بإشارته على مراده بطريق غير موجب للعلم فتتمكن من شهادته تهمة يمكن التحرز عنها بجنس الشهود .
ولا تكون إشارته أقوى من عبارة الناطق لو قال أخبر ولا تقبل شهادة الفاسق لأن الله تعالى أمر بالتوقف في خبر الفاسق بقوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا } ( الحجرات : 6 ) والأمر بالتوقف يمنع العمل بالشهادة وهذا لأن رجحان جانب الصدق لا يظهر في شهادة الفاسق لأن اعتبار اعتقاده يدل على صدقه واعتبار تعاطيه يدل أنه كاذب في شهادته فلتعارض الأدلة يجب التوقف ثم لما ينزجر عن ارتكاب محظور دينه مع اعتقاده حرمته فالظاهر أنه لا ينزجر عن شهادة الزور مع اعتقاده حرمته .
وعن أبي يوسف - C تعالى - يقول إذا كان وجيها في الناس ذا مروءة تقبل شهادته لأنه لا تتمكن تهمة الكذب في شهادة فلوجاهته لا يتجاسر أحد من استئجاره لأداء الشهادة ولمروءته يمتنع من الكذب من غير منفعة له في ذلك والأصح أن شهادته لا تقبل لأن قبول الشهادة في العمل بها لإكرام الشهود كما قال - A - ( أكرموا الشهود فإن الله تعالى يحيى الحقوق بهم ) وفي حق الفاسق أمر بخلاف ذلك قال - A - ( إذا لقيت الفاسق فالقه ( بوجه ) مكفهر ) ومن يكون معلنا للفسق فلا مروءة له شرعا فلهذا لا تقبل شهادته ولا شهادة آكل الربا المشهور بذلك والمعروف به المقيم عليه فإنه فاسق محارب قال الله تعالى { فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله } ( البقرة : 279 ) ولكنه شرط أن يكون مشهورا به مقيما عليه لأن العقود الفاسدة كلها ربا قال الله تعالى { وأحل الله البيع وحرم الربا } ( البقرة : 275 ) والإنسان في العادة لا يمكنه أن يتحرز عن الأسباب المفسدة للعقد في جميع معاملاته فقد لا يهتدي إلى بعض ذلك فلهذا لا تسقط عدالته إذا لم يكن مشهورا بأكل الربا مصرا عليه ولا شهادة مدمن الخمر ولا مدمن السكر لأنه مرتكب للكبيرة مستوجب للحد على ذلك وذلك تسقط عدالته وإنما شرط الإدمان ليكون ذلك ظاهرا منه فإن من يتهم بالشرب ولكن لا يظهر ذلك لا يخرج من أن يكون عدلا وإنما تسقط عدالته إذا كان يظهر ذلك أو يخرج سكرانا يسخر منه الصبيان فلا مروءة لمثله ولا يبالي من الكذب عادة ولا شهادة المحنث لأنه فاسق ومراده إذا كان محنثا في الرديء من أفعاله فأما إذا كان في كلامه لين وفي أعضائه تكسر ولم يشتهر بشيء من الأفعال الردية فهذ عدل مقبول الشهادة .
ألا ترى أن هبت المخنث كان يدخل بيوت أزواج رسول الله - A - ورضي عنهن حتى سمع رسول الله - A - منه كلمة شنيعة أمر بإخراجه .
( ولا شهادة من يلعب بالحمام يطيرهن ) لشدة غفلته فالظاهر أن يكون قبله مع ذلك في عامة أحواله وأنه يقل نظره في سائر الأمور ثم هو مصر على نوع لعب وقال - A - ( ما أنا من در ولا الدر مني ) والغالب أنه ينظر إلى العورات في السطوح وغيرها وذلك فسق فأما إذا كان يمسك الحمام في بيته يستأنس بها ولا يطيرها عادة فهو عدل مقبول الشهادة لأن إمساك الحمام في البيوت مباح .
ألا ترى أن الناس يتخذون بروج الحمامات ولم يمنع من ذلك أحد .
( ولا شهادة صاحب الغناء الذي يخادن عليه ويجمعهم والنائحة ) لأنه مصر على نوع فسق ويستخف به عند الصلحاء من الناس ولا يمتنع من المحازقة والإقدام على الكذب عادة فلهذا لا تقبل شهادته .
( وأما المحدود في الخمر والزنا والسرقة إذا تابوا فإن شهادتهم مقبولة ) لحديث شريح - C تعالى - أنه أجاز شهادة أقطع من بني أسد فقال : أتجيز شهادتي ؟ فقال : نعم وأراك لذلك أهلا . وكان أقطع في سرقة وهذا لأن التوقف في شهادته كان لفسقه وقد زال ذلك بالتوبة والتائب من الذنب كمن لا ذنب له وليس هذا كالمحدود في القذف لأن رد الشهادة هناك من تمام الحد فلو جعلنا رد الشهادة هنا من تمام الحد كان بطريق القياس ولا مدخل للقياس في مقادير الحدود والزيادة على النص بالقياس لا تجوز مع أن هذا الحد ليس في معنى ذلك الحد لأن بإقامة حد القذف تتحقق جريمته وجريمة هؤلاء تتحقق قبل إقامة الحد فإقامة الحد في حقهم تكون تطهيرا إذا انضم إليه وقد قال الله تعالى { فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح } ( المائدة : 39 ) الآية وقد قال - A - ( التائب من الذنب كمن لا ذنب له ) وإذا أعمى الشاهد أو خرس أو ذهب عقله أو ارتد عن الإسلام والعياذ بالله بعدما شهد قبل أن يقضي القاضي بشهادته فإن القاضي لا يقضي بشهادته لأن اقتران هذه الحوادث بأداء الشهادة تمنع العمل بها فكذلك اعتراضها بعد الأداء قبل القضاء لأن الشهادة تمنع العمل بها فكذلك اعتراضها بعد الأداء قبل القضاء لأن الشهادة لا توجب شيئا بدون القضاء والقاضي لا يقضي إلا بحجة فاعتراض هذه المعاني قبل القضاء يخرج شهادته من أن تكون حجة بخلاف الموت فإن اقترانه بالأداء لا يمنع بشهادته .
ألا ترى أن شاهد الفرع إذا شهد بعد موت الأصول يقبل والقضاء يكون بشهادة الأصول فكذلك اعتراض الموت لا يمنع القضاء بشهادته .
وقال أبو حنيفة وابن أبي ليلى - رحمهما الله تعالى - شهادة أصحاب الأهواء جائزة وهو مذهب جميع أصحابنا - رحمهم الله تعالى .
وقال الشافعي - C تعالى - لا تقبل شهادة أهل الأهواء .
ومنهم من يفضل بين من يكفر في هواه وبين من لا يكفر في هواه لأنهم فسقة ولا شهادة للفاسق والفسق من حيث الاعتقاد أغلظ من الفسق من حيث التعاطي .
ألا ترى أن أخبار أهل الأهواء في الديانات لا يقبل وهو أوسع من الشهادة فلان لا تقبل شهادتهم أولى .
وفي الكتاب استدل بما كان من الفتنة بين الصحابة - Bهم - فإنهم اختلفوا واقتتلوا وقتل بعضهم بعضا ولا شك أن شهادة بعضهم على بعض كانت جائزة مقبولة وليس بين أصحاب الأهواء من الاختلاف أشد مما كان بينهم من القتال وفي موضع آخر علل فقال إنهم للتعمق في الذين ضلوا عن سواء السبيل ووقعوا في الهوى وذلك لا يلحق تهمة الكذب بهم في الشهادة فمن أهل الأهواء يعظم الذنب حتى يجعله كفرا فلا يتهم باعتبار هذا الاعتقاد أن يشهد بالكذب ومنهم من يقول بالفسق يخرج من الإيمان فاعتقاده هذا يحمله على التحرز عن الكذب الموجب لفسقه وقد بينا أن شهادة الفاسق إنما لا تقبل لتهمة الكذب والفسق من حيث الاعتقاد لا يدل على ذلك فهو نظير شرب المثلث معتقدا إباحته أو يتناول متروك التسمية عمدا معتقدا إباحة ذلك فإنه لا يصير به مردود الشهادة إلا الخطابية من أهل الأهواء وهم صنف من الروافض يستجبرون أن يشهدوا للمدعي إذا حلف عندهم أنه محق ويقولون المسلم لا يحلف كاذبا فاعتقاده هذا يمكن تهمة الكذب في شهادته .
قالوا وكذلك من يعتقد أن الإلهام حجة موجبة للعلم لا تقبل شهادته لأن اعتقاده ذلك يمكن تهمة الكذب فربما أقدم على أداء الشهادة بهذا الطريق فأما رواية الأخبار عن أهل الأهواء فقد اختلف فيه مشايخنا - رحمهم الله تعالى .
والأصح عندي أنه لا تقبل لأن المعتقد للهوى يدعو الناس إلى اعتقاده ومتهم بالنقول على رسول الله - A - لإتمام مراده فلا تقبل روايته لهذا ولا يوجد مثل ذلك منه في الشهادة في المعاملات .
وعلى هذا شهادة العدو على عدوه لا تقبل عند الشافعي - C تعالى - لأن العداوة بينهما تحمله على التقول عليه ولهذا لم يجوز شهادة أهل الأهواء على أهل الحق .
فأما عندنا إذا كانت العداوة بينهما بسبب شيء من أمر الدين فشهادة بعضهم على بعض تقبل لخلوها عن تهمة الكذب فأما من يعادي غيره لمجاوزته حد الدين يمتنع من الشهادة بالزور وإن كان يعاديه بسبب شيء من أمر الدنيا فهو أمر موجب فسقه فلا تقبل شهادته عليه إذا ظهر ذلك منه وشهادة أهل الإسلام جائزة على أهل الشرك كلهم لأن الله تعالى أثبت للمؤمنين شهادة على الناس بقوله D { لتكونوا شهداء على الناس } ( البقرة : 143 ) ولما قبلت شهادة المسلم على المسلم فعلى الكافر أولى .
ومن عرف منهم بالخيانة لم تجز شهادته أهل الأهواء وغير أهل الأهواء في ذلك سواء .
فالمجون نوع جنون قال القائل في هذا المعنى : .
إن شرخ الشباب والشعر الأسود .
ما لم يعاص كان جنونا .
ثم لما جن تشتد غفلته على وجه ينعدم به الضبط أو يقل وتظهر منه المجازفة فيما يقول ويفعل فيتهم بالمجازفة في الشهادة أيضا .
وشهادة أهل الشرك بينهمم جائزة بعضهم على بعض عندنا .
وقال مالك والشافعي - رحمهما الله تعالى - لا شهادة لهم على أحد .
وكان ابن أبي ليلى - C تعالى - إذا اتفقت مللهم تقبل شهادة بعضهم على بعض وإن اختلفت لا تقبل لقوله - A - ( لا شهادة لأهل ملة على ملة أخرى إلا المسلمين فشهادتهم مقبولة على أهل الملل كلها ) ولأن عند اختلاف الملة يعادي بعضهم بعضا وذلك يمنع من قبول الشهادة كما لا تقبل شهادتهم على المسلمين وعلى هذا كان ينبغي أن لا تقبل شهادة المسلمين عليهم إلا أنا تركنا ذلك لعلو حال الإسلام قال - A - ( الإسلام يعلو ولا يعلى عليه ) ولأنهم يعادون أهل الشرك بسبب المسلمون فيه محقون وهو إصرارهم على الشرك فلا يقدح ذلك في شهادتهم بخلاف أهل الملل فاليهود يعادون النصارى والنصارى يعادون اليهود بسبب هم فيه غير محقين قال الله تعالى { وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء } ( البقرة : 113 ) وقال الشافعي - C تعالى - الكافر فاسق ولا تقبل شهادته كالفاسق المسلم وبيان فسقه قوله تعالى { أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا } ( السجدة : 18 ) وقال الله تعالى ( والكافرون هم الفاسقون ) والفسق عبارة عن الخروج يقال فسقت الرطبة إذا خرجت من قشرها وسميت الفأرة ( فويسقة ) لخروجها من حجرها وسمي المسلم بذلك لخروجه عن حد الدين تعاطيا والكافر لخروجه عن حد الدين اعتقادا فإذا ثبت أنه فاسق وجب التوقف في خبره بالنص والشرط في الشاهد بالنص أن يكون مرضيا قال الله تعالى { ممن ترضون من الشهداء } ( البقرة : 282 ) والكافر لا يكون مرضيا .
والدليل عليه : أن شهادته على المسلمين لا تقبل وكل من لا يكون .
الشهادة على الشهادة