قال : Bه اعلم أن الجمعة فريضة بالكتاب والسنة أما الكتاب فقوله تعالى : " فاسعوا إلى ذكر الله " } الجمعة : 9 والأمر بالسعي إلى الشيء لا يكون إلا لوجوبه والأمر بترك البيع المباح لأجله دليل على وجوبه أيضا .
والسنة " حديث " جابر " Bه قال خطبنا رسول الله A فقال : أيها الناس توبوا إلى ربكم قبل أن تموتوا وتقربوا إلى الله بالأعمال الصالحة قبل أن تشلغوا وتحببوا إلى الله بالصدقة في السر والعلانية تجبروا وتنصروا وترزقوا واعلموا أن الله تعالى كتب عليكم الجمعة في يومي هذا في شهري هذا في مقامي .
صفحة [ 22 ] هذا فمن تركها تهاونا بها واستخفافا بحقها وله إمام جائر أو عادل فلا جمع الله شمله ألا فلا صلاة له ألا فلا صوم له إلا أن يتوب فإن تاب تاب الله عليه " وفي " حديث " ابن عباس " و " ابن عمر " Bهما قالا سمعنا رسول الله A على أعواد منبره يقول : لينتهين أقوام عن ترك الجمعة أو ليختمن الله على قلوبهم وليكونن من الغافلين " والأمة أجمعت على فرضيتها وإنما اختلفوا في أصل الفرض في الوقت : .
فمن العلماء من يقول : أصل الفرض الجمعة في حق من تلزمه إقامتها وكانت فريضة الجمعة بزوال الشمس في هذا اليوم كفريضة الظهر في سائر الأيام وهو قول " الشافعي " .
وأكثر العلماء على أن أصل فرض الوقت في هذا اليوم ما هو في سائر الأيام وهو الظهر ولكنه مأمور بإسقاط هذا الفرض بالجمعة إذا استجمع شرائطها لأن أصل الفرض في حق كل أحد ما يتمكن من أدائه ولا يتمكن من أداء الجمعة بنفسه وإنما يتمكن من أداء الظهر ولو جعلنا أصل الفرض الجمعة لكان الظهر خلفا عن الجمعة عند فواتها وأربع ركعات لا تكون خلفا عن ركعتين فعلمنا أن أصل الفرض الظهر ولكنه مأمور بإسقاط هذا الفرض عن نفسه بأداء الجمعة إذا استجمع شرائطها فهي تختص بشرائط منها في المصلي ومنها في غيره قال : أما الشرائط في المصلي وجوب الجمعة فالإقامة والحرية والذكورة والصحة " لحديث " جابر " رضي الله تعالى عنه قال قال رسول الله A : من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فعليه الجمعة إلا مسافر ومملوك وصبي وامرأة ومريض فمن استغنى عنها بلهو أو تجارة استغنى الله عنه والله غني حميد " والمعنى أن المسافر تلحقه المشقة بدخول المصر وحضور الجمعة وربما لا يجد أحدا يحفظ رحله وربما ينقطع عن أصحابه فلدفع الحرج أسقطها الشرع عنه والمملوك مشغول بخدمة المولى فيتضرر منه المولى بترك خدمته وشهود الجمعة وانتظاره الإمام فلدفع الضرر عنه أسقطها الشرع عنه كما أسقط عنه الجهاد بخلاف الظهر فإنه يتمكن من أدائه حيث هو بنفسه فلا ينقطع عن خدمة المولى أو ذلك القدر مستثنى عنه من حق المولى إذ ليس فيه ضرر كثير عليه وتحمل الضرر اليسير لا يدل على تحمل الضرر الكثير قال : والمرأة كذلك مشغولة بخدمة الزوج منهية عن الخروج شرعا لما في خروجها إلى مجمع الرجال من الفتنة والمريض يلحقه الحرج في شهود الجمعة وانتظار الإمام . وعلى هذا قال " أبو حنيفة " رضي الله تعالى عنه : الأعمى لا يلزمه شهود الجمعة وإن وجد قائدا لأنه عاجز عن السعي بنفسه ويلحقه من الحرج ما يلحق .
صفحة [ 23 ] المريض . وعندهما : إذا وجد قائدا تلزمه لأنه قادر على السعي وإنما لا يهتدي إلى الطريق فهو كالضال إذا وجد من يهديه إلى الطريق غير أن هذه شرائط الوجوب لا شرائط الأداء حتى أن المسافر والمملوك والمرأة والمريض إذا شهدوا الجمعة فأدوها جازت لحديث " الحسن " رضي الله تعالى عنه : كن النساء يجمعن مع رسول الله A ويقال لهن لا تخرجن إلا تفلات أي غير متطيبات ولأن سقوط فرض السعي عنهم لا لمعنى في الصلاة بل للحرج والضرر فإذا تحملوا التحقوا في الأداء بغيرهم قال : فأما الشرائط في غير المصلي لأداء الجمعة فستة 1 المصر و 2 الوقت و 3 الخطبة و 4 الجماعة و 5 السلطان و 6 الإذن العام أما المصر فهو شرط عندنا وقال " الشافعي " رضي الله تعالى عنه ليس بشرط فكل قرية سكنها أربعون من الرجال لا يظعنون عنها شتاء ولا صيفا تقام بهم لما روي : أن أول جمعة جمعت في الإسلام بعد المدينة جمعت بجوائي وهي قرية من قرى عبد القيس با " لبحرين " وكتب " أبو هريرة " إلى " عمر " C تعالى يسأله عن الجمعة بجوائي فكتب إليه أن اجمع بها وحيثما كنت ولنا " قوله E : لا جمعة ولا تشريق إلا في مصر جامع " وقال " علي " رضي الله تعالى عنه : لا جمعة ولا تشريق ولا فطر ولا أضحى إلا في مصر جامع ولأن الصحابة حين فتحوا الأمصار والقرى ما اشتغلوا بنصب المنابر وبناء الجوامع إلا في الأمصار والمدن وذلك اتفاق منهم على أن المصر من شرائط الجمعة وجوائي مصر بالبحرين وتسمية الراوي إياها بالقرية لا ينفي ما ذكرنا من التأويل قال الله تعالى " لتنذر أم القرى ومن حولها " } الأنعام : 92 ومعنى قول " عمر " رضي الله تعالى عنه : وحيثما كنت أي مما هو مثل جواثي من الأمصار .
وظاهر المذهب في بيان حد المصر الجامع أن يكون فيه سلطان أو قاض لإقامة الحدود وتنفيذ الأحكام . وقد قال بعض مشايخنا رحمهم الله تعالى أن يتمكن كل صانع أن يعيش بصنعته فيه ولا يحتاج فيه إلى التحول إلى صنعة أخرى . وقال " ابن شجاع " رضي الله تعالى عنه أحسن ما قيل فيه أن أهلها بحيث لو اجتمعوا في أكبر مساجدهم لم يسعهم ذلك حتى احتاجوا إلى بناء مسجد الجمعة فهذا مصر جامع تقام فيه الجمعة .
ثم في ظاهر الرواية لا تجب الجمعة إلا على من سكن المصر والأرياف المتصل بالمصر .
وعن " أبي يوسف " C تعالى أن كل من سمع النداء من أهل القرى القريبة من المصر فعليه أن يشهدها وهو قول " الشافعي " رضي الله تعالى عنه لظاهر قوله تعالى : " إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة " } الجمعة : 9 الآية وقال " مالك " رضي الله تعالى عنه من سكن .
صفحة [ 24 ] من المصر على ثلاة أميال أو دونها فعليه أن يشهدها وقال " الأوزاعي " رضي الله تعالى عنه من كان يمكنه أن يشهدها ويرجع إلى أهله قبل الليل فعليه أن يشهدها والصحيح ما قلنا إن كل موضع يسكنه من إذا خرج من المصر مسافرا فوصل إلى ذلك الموضع كان له أن يصلي صلاة السفر فليس عليه أن يشهدها لأن مسكنه ليس من المصر ألا ترى أن المقيم في المصر لا يكون مقيما في هذا الموضع .
وأما الوقت فمن شرائط الجمعة يعني به وقت الظهر لما " روي أن رسول الله A لما بعث " مصعب بن عمير " رضي الله تعالى عنه إلى المدينة قبل هجرته قال له : إذا مالت الشمس فصل بالناس الجمعة " " وكتب إلى " سعد بن زرارة " C تعالى : إذا زالت الشمس من اليوم الذي يتجهز فيه اليهود لسبتهم فازدلف إلى الله تعالى بركعتين " والذي روي أن " ابن مسعود " أقام الجمعة ضحى معناه بالقرب منه ومقصود الراوي أنه ما أخرها بعد الزوال . وكان " مالك " Bه يقول تجوز إقامتها في وقت العصر بناء على مذهبه من تداخل الوقتين وقد بينا فساده قال : والخطبة من شرائط الجمعة لحديث " ابن عمر " و " عائشة " Bهما : إنما قصرت الجمعة لمكان الخطبة ولظاهر قوله تعالى : " فاسعوا إلى ذكر الله " } الجمعة : 9 يعني الخطبة والأمر بالسعي دليل على وجوبها ولأن رسول الله A ما صلى الجمعة في عمره بغير خطبة فلو جاز لفعله تعليما للجواز .
قال بعض مشايخنا : الخطبة تقوم مقام ركعتين ولهذا لا تجوز إلا بعد دخول الوقت والأصح أنها لا تقوم مقام شطر الصلاة فإن الخطبة لا يستقبل القبلة في أدائها ولا يقطعها الكلام ويعتد بها وإن أداها وهو محدث أو جنب فبه تبين ضعف قوله : إنها بمنزلة شطر الصلاة قال : والجماعة من شرائطها لظاهر قوله : " فاسعوا إلى ذكر الله " } الجمعة : 9 ولأنها سميت جمعة وفي هذا الاسم ما يدل على اعتبار الجماعة فيها .
ويختلفون في مقدار العدد : فقال " أبو حنيفة " Bه : ثلاثة نفر سوى الإمام .
وقال " أبو يوسف " Bه : اثنان سوى الإمام لأن المثنى في حكم الجماعة حتى يتقدم الإمام عليهما وفي الجماعة معنى الاجتماع وذلك يتحقق بالمثنى .
وجه قولهما : الاستدلال بقوله تعالى : " إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله " } الجمعة : 9 وهذا يقتضي مناديا وذاكرا وهو المؤذن والإمام والاثنان يسعون لأن قوله : " فاسعوا " لا يتناول إلا المثنى ثم ما دون الثلاث ليس بجمع متفق عليه فإن أهل اللغة فصلوا بين التثنية والجمع فالمثنى وإن كان فيه معنى الجمع من وجه فليس بجمع مطلق واشتراط الجماعة ثابت مطلقا ثم يشترط في الثلاثة أن .
صفحة [ 25 ] يكونوا بحيث يصلحون للإمامة في صلاة الجمعة حتى أن نصاب الجمعة لا يتم بالنساء والصبيان ويتم بالعبيد والمسافرين لأنهم يصلحون للإمامة فيها .
وقال " الشافعي " رضي الله تعالى عنه : النصاب أربعون رجلا من الأحرار المقيمين وهذا فاسد فإن مصعب بن عمير أقام الجمعة " بالحديبية " مع اثني عشر رجلا و " أسعد بن زرارة " أقامها بتسعة عشر رجلا .
ولما نفر الناس في اليوم الذي دخل فيه العير المدينة كما قال الله تعالى : " وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها " } الجمعة : 11 بقي رسول الله A مع اثني عشر رجلا فصلى بهم الجمعة ولا معنى لاشتراط الإقامة والحرية فيهم لأن درجة الإمامة أعلى فإذا لم يشترط هذا في الصلاحية للإمامة فكيف يشترط فيمن يكون مؤتما ولا وجه لمنع هذا فقد " أقام رسول الله A الجمعة " بمكة " وهو كان مسافرا حتى قال لأهل " مكة " : أتموا يا أهل " مكة " صلاتكم فإنا قوم سفر " قال : والسلطان من شرائط الجمعة عندنا خلافا " للشافعي " Bه وقاسه بأداء سائر المكتوبات فالسلطان والرعية في ذلك سواء ولنا ما " روينا من حديث " جابر " Bه وله إمام جائر أو عادل " فقد شرط رسول الله A الإمام لإلحاقه الوعيد بتارك الجمعة وفي الأثر : أربع إلى الولاة منها الجمعة . ولأن الناس يتركون الجماعات لإقامة الجمعة ولو لم يشترط فيها السلطان أدى إلى الفتنة لأنه يسبق بعض الناس إلى الجامع فيقيمونها لغرض لهم وتفوت لهم وتفوت على غيرهم وفيه من الفتنة ما لا يخفى فيجعل مفوضا إلى الإمام الذي فوض إليه أحوال الناس والعدل بينهم لأنه أقرب إلى تسكين الفتنة . والإذن العام من شرائطها حتى إن السلطان إذا صلى بحشمه في قصره فإن فتح باب القصر وأذن للناس إذنا عاما جازت صلاته شهدها العامة أو لم يشهدوها وإن لم يفتح باب قصره ولم يأذن لهم في الدخول لا يجزئه لأن اشتراط السلطان للتحرز عن تفويتها على الناس ولا يحصل ذلك إلا بالإذن العام وكما يحتاج العامة إلى السلطان في إقامتها فالسلطان يحتاج إليهم بأن يأذن لهم إذنا عاما بهذا يعتدل النظر من الجانبين قال : فإن صلى الإمام بأهل المصر الظهر يوم الجمعة أجزأهم وقد أساؤوا في ترك الجمعة أما الجواز فلأنهم أدوا أصل فرض الوقت ولو لم نجوزها لهم أمرناهم بإعادة الظهر بعد خروج الوقت والأمر بإعادة الظهر عند تفويتها في الوقت وما فوتوها وأما الإساءة فلتركهم أداء الجمعة بعد ما استجمعوا شرائطها وفي " حديث " ابن عمر " قال رسول الله A : من ترك ثلاث جمع تهاونا بها طبع على قلبه " وهذا الحديث شديد وعيده ولايقتضي إخراج تاركها ثلاثا من الملة بل هو سد لباب الفرقة والبعد عن جماعة المسلمين البرنامج قال .
صفحة [ 26 ] : ويخطب الإمام يوم الجمعة قائما لما روى أن " ابن مسعود " Bه لما سئل عن هذا فقال أليس تتلو قوله : { وتركوك قائما } الجمعة : 11 كان رسول الله A يخطب قائما حين انفض عنه الناس بدخول العير المدينة وهكذا جرى التوارث من لدن رسول الله A إلى يومنا هذا والذي روى عن " عثمان " رضي الله تعالى عنه أنه كان يخطب قاعدا إنما فعل ذلك لمرض أو كبر في آخر عمره وفي " حديث " جابر بن سمرة " رضي الله تعالى عنه أن رسول الله A : كان يخطب قائما خطبة واحدة فلما أسن جعلها خطبتين يجلس بينهما جلسة " ففي هذا دليل أنه يجوز الاكتفاء بالخطبة الواحدة بخلاف ما يقوله " الشافعي " رضي الله تعالى عنه وفي هذا دليل على أن الجلسة بين الخطبتين للاستراحة وليست بشرط عندنا خلافا " للشافعي " رضي الله تعالى عنه أنها شرط قال : إمام خطب جنبا ثم اغتسل فصلى بهم أو خطب محدثا ثم توضأ فصلى بهم أجزأهم عندنا وعند " أبي يوسف " رضي الله تعالى عنه لا يجزئهم وهو قول " الشافعي " رضي الله تعالى عنه لأن الخطبة بمنزلة شطر الصلاة حتى لا يجوز أداؤها إلا في وقت الصلاة وفي الأثر إنما قصرت الجمعة لمكان الخطبة فكما تشترط الطهارة في الصلاة فكذلك في الخطبة .
( يتبع . . . )