( قال ) الشيخ الإمام الأجل الزاهد شمس وفخر الإسلام أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي - C تعالى - اعلم أن السير جمع سيرة وبه سمى هذا الكتاب لأنه بين فيه سيرة المسلمين في المعاملة مع المشركين من أهل الحرب ومع أهل العهد منهم من المستأمنين وأهل الذمة ومع المرتدين الذين هم أخبث الكفار بالإنكار بعد الإقرار ومع أهل البغي الذين حالهم دون حال المشركين وإن كانوا جاهلين وفي التأويل مبطلين .
فأما بيان المعاملة مع المشركين فنقول الواجب دعاؤهم إلى الدين وقتال الممتنعين منهم من الإجابة لأن صفة هذه الأمة في الكتب المنزلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبها كانوا خير الأمم قال الله تعالى { كنتم خير أمة أخرجت للناس } ( آل عمران : 110 ) الآية ورأس المعروف الإيمان بالله تعالى فعلى كل مؤمن أن يكون آمرا به داعيا إليه وأصل المنكر الشرك فهو أعظم ما يكون من الجهل والعناد لما فيه من إنكار الحق من غير تأويل فعلى كل مؤمن أن ينهى عنه بما يقدر عليه .
وقد كان رسول الله - A - مأمورا في الابتداء بالصفح والإعراض عن المشركين قال الله تعالى { فاصفح الصفح الجميل } ( الحجر : 85 ) وقال تعالى { وأعرض عن المشركين } ( الحجر : 94 ) ثم أمر بالدعاء إلى الدين بالوعظ والمجادلة بالأحسن فقال تعالى { ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن } ( النحل : 125 ) ثم أمر بالقتال إذا كانت البداية منهم فقال تعالى { أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا } ( البقرة : 191 ) أي أذن لهم في الدفع وقال تعالى { فإن قاتلوكم فاقتلوهم } ( البقرة : 191 ) وقال تعالى { وإن جنحوا للسلم فاجنح لها } ( الأنفال : 61 ) ثم أمر بالبداية بالقتال فقال تعالى { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة } ( البقرة : 197 ) وقال تعالى { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } ( التوبة : 5 ) وقال رسول الله - A - ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله ) فاستقر الأمر على فرضية الجهاد مع المشركين وهو فرض قائم إلى قيام الساعة قال النبي - A - ( الجهاد ماض منذ بعثني الله تعالى إلى أن يقاتل آخر عصابة من أمتي الدجال ) وقال A ( بعثت بالسيف بين يدي الساعة وجعل رزقي تحت ظل رمحي والذل والصغار على من خالفني ومن تشبه بقوم فهو منهم ) وتفسيره منقول عن سفيان بن عيينة - C تعالى - قال بعث الله تعالى رسوله - A - بأربعة سيوف سيف قاتل به بنفسه عبدة الأوثان وسيف قاتل به أبو بكر - رضي الله تعالى عنه - أهل الردة قال الله تعالى { تقاتلونهم أو يسلمون } ( الفتح : 16 ) وسيف قاتل به عمر - رضي الله تعالى عنه - المجوس وأهل الكتاب قال الله تعالى { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله } ( التوبة : 29 ) الآية وسيف قاتل به علي - رضي الله تعالى عنه - المارقين والناكثين والقاسطين وهكذا روى عنه قال أمرت بقتال المارقين والناكثين والقاسطين قال الله تعالى { فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله } ( الحجرات : 9 ) ثم فريضة الجهاد على نوعين : .
أحدهما : عين على كل من يقوى عليه بقدر طاقته وهو ما إذا كان النفير عاما قال الله تعالى { انفروا خفاقا وثقالا } ( التوبة : 41 ) وقال تعالى { ما لكم إذا قيل انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض } ( التوبة : 38 ) إلى قوله { يعذبكم عذابا أليما } ( التوبة : 38 ) ونوع هو فرض على الكفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين لحصول المقصود وهو كسر شوكة المشركين وإعزاز الدين لأنه لو جعل فرضا في كل وقت على كل أحد عاد على موضوعه بالنقض والمقصود أن يأمن المسلمون ويتمكنوا من القيام بمصالح دينهم ودنياهم .
فإذا اشتغل الكل بالجهاد لم يتفرغوا للقيام بمصالح دنياهم فلذلك قلنا إذا قام به البعض سقط عن الباقين وقد كان رسول الله - A - تارة يخرج وتارة يبعث غيره حتى قال ( وددت أن لا تخرج سرية أو جيش إلا وأنا معهم ولكن لا أجد ما أحملهم ولا تطيب أنفسهم بالتخلف عني ولوددت أن أقاتل في سبيل الله تعالى حتى أقتل ثم أحي ثم أقتل ) . ففي هذا دليل على أن الجهاد وصفة الشهادة في الفضيلة بأعلى النهاية حتى تمنى ذلك رسول الله - A - مع درجة الرسالة . وفي حديث أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - أن رسول الله - A - ( قال المجاهد في سبيل الله كالصائم القائم الراكع الساجد الشاهد ) وفي حديث الحسن - رضي الله تعالى عنه - أن النبي - A - قال ( غدوة أو روحة في سبيل الله تعالى خير من الدنيا وما فيها ) والآثار في فضيلة الجهاد كثيرة وقد سماه رسول الله - A - سنام الدين . وعلى إمام المسلمين في كل وقت أن يبذل مجهوده في الخروج بنفسه أو يبعث الجيوش والسرايا من المسلمين ثم يثق بجميل وعد الله تعالى في نصرته بقوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم } ( محمد : 7 ) فإذا بعث جيشا ينبغي أن يؤمر عليهم أميرا هكذا كان يفعله رسول الله - A - ولأن به يجتمع كلامهم وتتألف قلوبهم وبذلك ينصرون قال الله تعالى { هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين وألف بين قلوبهم } ( الأنفال : 62 ) وإنما يؤمر عليهم من يكون صالحا لذلك بأن يكون حسن التدبير في أمر الحرب ورعا مشفقا عليهم سخيا شجاعا . ويحكى عن نصر بن سيار - C تعالى - قال اجتمع عظماء العجم وغيرهم على أن قائد الجيش ينبغي أن يكون فيه عشر خصال من خصال البهائم شجاعة كشجاعة الديك وتحنن كتحنن الدجاجة وقلب كقلب الأسد وروغان كروغان الثعلب أي صاحب مكر وحيلة وغارة كغارة الذئب وحذر كحذر الغراب وحرص كحرص الكركي وصبر على الجراح كالكلب وحملة كالجبهة وسمن كما يكون لدابة بخراسان لا تهزل بحال وإذا أمر عليهم بهذه الصفة فينبغي له أن يوصيه بهم كما بدأ الكتاب ببيانه ورواه عن أبي حنيفة - C تعالى - عن علقمة بن مرثد عن عبدالله بن بريدة عن أبيه - Bهم - قال كان رسول الله - A - ( إذا بعث جيشا أو سرية أوصى صاحبهم بتقوى الله في خاصة نفسه ) .
ففي هذا إشارة إلى الفرق بين الجيش والسرية فالسرية عدد قليل يسيرون بالليل ويكمنون بالنهار والجيش هو الجمع العظيم الذي يجيش بعضهم في بعض قال A خير الأصحاب أربعة وخير السرايا ربعمائة وخير الجيوش أربعة آلاف ولن يغلب اثنا عشر ألفا عن قلة إذا كانت كلمتهم واحدة وفيه بيان أنه ينبغي للإمام أن يخص صاحب الجيش والسرية بالوصية لأنه يجعلهم تحت أمره وولايته فيوصيه بهم وفي تخصيصه بالوصية بيان أن عليهم طاعته فلا تظهر فائدة الإمارة إلا بذلك .
وقد أوصى أبو بكر - Bه - يزيد بن أبي سفيان - C تعالى - حين وجهه إلى الشام في حديث طويل ذكره في السير الكبير وإنما يوصيه بتقوى الله تعالى لأنه بالتقوى ينال النصرة والمدد من السماء قال الله تعالى { بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم } ( آل عمران : 125 ) وبالتقوى يجتمع للمرء مصالح المعاش والمعاد قال A ( ملاك دينكم الورع ) وقال ( التقى مجلم ) وقيل في معنى قوله في خاصة نفسه أنه كان يوصيه سرا حتى لا يقف على جميع ما يوصيه به غيره والأظهر أن المراد أنه كان يوصيه في حق نفسه أولا ثم يوصيه بمن معه من المسلمين خيرا قال A ( ابدأ بنفسك ثم بمن تعول ) ونفسه إليه أقرب فكأنه كان يوصيه بحفظ نفسه من المهالك وحفظ من معه من المسلمين حتى لا يرضى لهم إلا بما يرضى لنفسه ولا يخص نفسه بشيء دونهم فبذلك يتحقق التألف وانقيادهم له ثم قال أغزوا باسم الله أي اخرجوا واقصدوا والغزو والقصد قال الله تعالى { أو كانوا غزا } ( آل عمران : 156 ) وبين أنه ينبغي لهم أن يقصدوا على اسم الله تعالى كما قال A ( كل أمر ذي بال لم يبدأ فيه باسم الله تعالى فهو أقطع ) قال وفي سبيل الله أي ليكن خروجكم لابتغاء مرضاة الله تعالى لا لطلب المال فالمجاهد يبذل نفسه وماله فإنما يربح على عمله إذا قصد به ابتغاء مرضاة الله تعالى .
فأما إذا كان قصده تحصيل المال فهو كرة خاسرة ثم قال قاتلوا من كفر بالله فيه دليل فرضية القتال وإنهم يقاتلون لدفع فتنة الكفر ودفع شر الكفار وهذا عام لحقه خصوص فالمراد من كفر بالله من المقاتلين .
ألا ترى أنه A حين رأى امرأة مقتولة يوم فتح مكة استعظم ذلك وقال ( هاه ما كانت هذه تقاتل ) .
وإلى ذلك أشار في هذا الحديث بقوله ( ولا تقتلوا وليدا ) ثم قال ( ولا تغلوا ) والغلول السرقة من الغنيمة وهو حرام قال الله تعالى { ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة } قيل في التفسير يجعل ذلك في قعر جهنم ويؤمر بإخراجه .
وكل ما انتهى إلى شفير جهنم يرجع في قعرها وقال A ( الغلول من جمر جهنم ) والأسود الذي كان يرحل لرسول الله - A - لما أصابه سهم غرب فمات قال الصحابة - رضي الله تعالى عنهم - هنيأ له الشهادة فقال A كلا فإن العباءة التي غلها من المغنم لتشتعل عليه نارا يوم القيامة .
وقال في خطبته ردوا الخيط والمخيط فالغلول عار وشنار على صاحبه يوم القيامة قال ولا تغدروا والغدر الخيانة ونقض العهد وهو حرام قال الله تعالى { فانبذ إليهم } ( الأنفال : 58 ) على سواء أن الله لا يحب الخائنين .
وقال A ( لكل غادر لواء يركز عند باب أسته يعرف به غدرته يوم القيامة ) .
وكان A يكتب في العهود وفاء لا غدر فيه قال ( ولا تمثلوا ) .
والمثلة حرام كما روى عمران بن حصين - رضي الله تعالى عنه - قال ما قام رسول الله - A - فينا خطيبا بعدما مثل بالعرنيين إلا ويحثنا على الصدقة وينهانا عن المثلة .
فتخصيصه بالذكر في كل وقت وخطبة دليل على تأكيد الحرمة فيه قال ولا تقتلوا وليدا والوليد المولود في اللغة .
وكل آدمي مولود ولكن هذا اللفظ إنما يستعمل في الصغار عادة ففيه دليل على أنه لا يحل قتل الصغار منهم إذا كانوا لا يقاتلون .
وقد جاء في الحديث أن النبي - A - نهى عن قتل النساء والولدان وقال ( اقتلوا شيوخ المشركين واستحيوا شروخهم ) والمراد بالشيوخ البالغين وبالشروخ الأتباع من الصغار والنساء والاستحياء الاسترقاق قال الله تعالى { واستحيوا نساءهم } ( غافر : 25 ) .
وفي وصية أبي بكر - Bه - ليزيد بن أبي سفيان لا تقتل شيخا ضرعا ولا صبيا ضعيفا يعني شيخا فانيا وصغيرا لا يقاتل قال وإذا لقيتم عدوكم من المشركين فادعوهم إلى الإسلام وفي نسخ أبي حفص - Bه - وإذا حاصرتم حصنا أو مدينة فادعوهم إلى الإسلام وفيه دليل أنه ينبغي للغزاة أن يبدؤا بالدعاء إلى الإسلام وهو على وجهين فإن كانوا يقاتلون قوما لم تبلغهم الدعوة فلا يحل قتالهم حتى يدعوا لقوله تعالى { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا } ( الأنعام : 15 ) وقال ابن عباس - Bهما - ما قاتل رسول الله - A - قوما حتى دعاهم إلى الإسلام وهذا لأنهم لا يدرون على ماذا يقاتلون فربما يظنون أنهم لصوص قصدوا أموالهم ولو علموا أنهم يقاتلون على الدعاء إلى الدين ربما أجابوا وانقادوا للحق فلهذا يجب تقديم الدعوة وإن كانوا قد بلغتهم الدعوة فالأحسن أن يدعوهم إلى الإسلام أيضا فالجد والمبالغة في الإنذار ربما ينفع وكان A إذا قاتل قوما من المشركين دعاهم إلى الإسلام ثم اشتغل بالصلاة وعاد بعد الفراغ إلى القتال جدد الدعوة وإن تركوا ذلك وبيتوهم فلا بأس بذلك لأنهم علموا على ماذا يقاتلون ولو اشتغلوا بالدعوة ربما تحصنوا فلا يتمكن المسلمون منهم فكان لهم أن يقاتلوهم بغير دعوة على ما روى أن النبي - A - أمر أسامة بن زيد - رضي الله تعالى عنه - أن يغير على ابني صباحا وفي رواية ابنان صباحا فإن أسلموا فاقبلوا منهم وكفوا عنهم وفيه دليل أنهم إذا أظهروا الإسلام وجب الكف عنهم وقبول ذلك عنهم وإليه أشار A في قوله ( فإذا قالوها فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم ) وقال تعالى { ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا } ( النساء : 94 ) .
( قال ) ( ادعوهم إلى التحول من ديارهم إلى دار المهاجرين ) وهذا في وقت كانت الهجرة فريضة وذلك قبل فتح مكة كان يفترض على كل مسلم في قبيلته أن يهاجر إلى المدينة ليتعلم أحكام الدين وينضم إلى المؤمنين في القيام بنصرة رسول الله - A - قال الله تعالى { والذين آمنوا ولم يهاجروا } ( الأنفال : 72 ) الآية ثم انتسخ ذلك الفتح بقوله A لا هجرة بعد الفتح وإنما هو جهاد ونية وقال A ( من هجر السوء وهجر ما نهى الله تعالى عنه ) قال ( فإن فعلوا ذلك فاقبلوا منهم وكفوا عنهم وإلا فاخبروهم أنهم كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المسلمين وليس لهم في الفيء ولا في الغنيمة نصيب ) .
وهذا كان الحكم حين كانت الهجرة فريضة فأمرهم بأن يعلموهم بذلك وهو أن يجري عليهم حكم الله تعالى لالتزامهم وانقيادهم لدين الحق وليس لهم في الفيء ولا في الغنيمة نصيب لامتناعهم من الجهاد والقيام بنصرة الدين أو الاشتغال بتعلم أحكام الدين .
ففيه دليل أن النصيب في الغنيمة والفيء لهذين الفريقين والغنيمة اسم للمال المصاب بالقتال على وجه يكون فيه إعلاء كلمة الله تعالى وإعزاز دينه .
والفيء اسم للمصاب من أموالهم بغير قتال كالخراج والجزية قال الله تعالى { وما أفاء الله على رسوله } ( الحشر : 6 ) الآية فإن أبوا فادعوهم إلى إعطاء الجزية وهذا عام دخله الخصوص فالمراد من يقبل منهم الجزية من أهل الكتاب أو المجوس أو عبدة الأوثان من العجم فأما المرتدون وعبدة الأوثان من العرب لا تقبل منهم الجزية ولكنهم يقاتلون إلى أن يسلموا قال الله تعالى { تقاتلونهم أو يسلمون } ( الفتح : 16 ) أي حتى يسلموا فإن كانوا ممن تقبل منهم الجزية يجب عرض ذلك عليهم إذا امتنعوا من الإيمان لأنه أصل ما ينتهي به القتال قال الله تعالى { حتى يعطوا الجزية عن يد } ( التوبة : 29 ) وبقبول ذلك يصيرون من أهل دارنا ويلتزمون أحكامنا فيما يرجع إلى المعاملات فيدعون إليه والمراد بالإعطاء القبول والالتزام فإن فعلوا ذلك فاقبلوا منهم وكفوا عنهم وإذا حاصرتم أهل حصن أو مدينة فأرادوكم أن تنزلوهم على حكم الله تعالى فلا تنزلوهم فإنكم لا تدرون ما حكم الله تعالى فيهم وبه يستدل محمد - C تعالى - على أنه لا يجوز إنزال المحاصرين على حكم الله تعالى .
وأبو يوسف - C تعالى - يجوز ذلك ويقول : كان هذا في ذلك الوقت فإن الوحي ينزل والحكم يتغير ساعة فساعة فالذين كانوا بالبعد من رسول الله - A - كانوا لا يدرون ما نزل بعدهم من حكم الله تعالى فأما الآن فقد استقر الحكم وعلم أن الحكم في المشركين الدعاء إلى الإسلام وتخلية سبيلهم إن أجابوا قال الله تعالى { فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم } ( التوبة : 5 ) فإن أبوا فالدعاء إلى التزام الجزية فإن أبوا فقتل المقاتلة وسبى الذرية .
ومحمد - C تعالى - يقول : لا يجوز الإنزال على حكم الله تعالى كما ذكر في الحديث فإن الحكم الذي ذكره أبو يوسف - C تعالى - في قوم وقع الظهور عليهم فأما في قوم محصورين ممتنعين في أنفسهم نزلوا على حكم الله تعالى فلا يدري أن الحكم هذا أو غيره .
وفي هذا اللفظ دليل لأهل السنة والجماعة على أن المجتهد يخطئ وصيب فإنه قال فإنكم لا تدرون ما حكم الله فيهم ولو كان كل مجتهد مصيبا لكان يعلم حكم الله فيهم بالاجتهاد لا محالة .
( فإن قيل ) : فقد قال أنزلوهم على حكمكم ثم احكموا فيهم بما رأيتم ولو لم يكن المجتهد مصيبا للحق لما أمر بإنزالهم على حكمنا فإنه لا يأمر بالإنزال على الخطأ وإنما يأمر بالإنزال على الصواب .
( قلنا ) : نعم نحن لا نقول المجتهد يكون مخطئا لا محالة ولكنه على رجاء من الإصابة وهو آت بما في وسعه فلهذا أمر بالإنزال على ذلك لا لأنه يكون مصيبا للحق باجتهاده لا محالة وفائدة ذلك أنه لا يتمكن فيه شبهة الخلاف إذا نزلوا على حكمنا وحكمنا فيهم بما رأينا ويتمكن ذلك إذا نزلوا على حكم الله تعالى باعتبار أن المجتهد يخطئ ويصيب فهذا فائدة هذا اللفظ .
( قال ) ( وإذا حاصرتم أهل حصن أو مدينة فأرادوكم أن تعطوهم ذمة الله وذمة رسوله - A - فلا تعطوهم ذمة الله ولا ذمة رسوله ولكن أعطوهم ذممكم وذمم آبائكم فإنكم إن تخفروا ذممكم وذمم آبائكم فهو أهون ) والمراد بالذمة العهد ومنه سمى أهل الذمة قال الله تعالى { لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة } ( التوبة : 10 ) أي عهدا فهو عبارة عن اللزوم ومنه سمى محل الالتزام من الآدمي ذمة والالتزام بالعهد يكون .
وفيه دليل على أنه لا ينبغي للمسلمين أن يعطوا المشركين عهد الله ولا عهد رسوله لأنهم ربما يحتاجون إلى النبذ إليهم ونقض عهد الله وعهد رسوله لا يحل وإليه أشار بقوله ولكن اعطوهم ذممكم وذمم آبائكم يعني عهدكم وعهد آبائكم من الممالحة والصحبة التي كانوا يعتقدون الحرمة به في الجاهلية فإنكم إن تخفروا ذممكم فهو أهون أي تنقضوا يقال أخفر إذا نقض العهد وخفر أي عاهد ومنه الخفير وهو الذي يسير الناس في أمانه سمى خفيرا للمعاهدة مع الذين في أمانه أو مع الذين يتعرضون للناس في أن لا يقصدوا من كان في أمانه وهذا بيان فوائد الحديث والله أعلم .
وعن ابن عباس - Bه - أن الخمس كان يقسم على عهد رسول الله - A - على خمسة أسهم فلله ولرسوله سهم ولذي القربى سهم وللمساكين سهم ولليتامى سهم ولابن السبيل سهم ثم قسم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي - Bهم - على ثلاثة أسهم لليتامى والمساكين وابن السبيل ومراده بيان قول الله تعالى { واعلموا أن ما غنمتم من شيء فأن لله خمسه } ( الأنفال : 41 ) وكان ابن عباس - Bهما - يقول سهم الله وسهم الرسول - A - واحد وذكر اسم الله تعالى للتبرك ومفتاح الكلام وكان أبو العالية يقول الغنيمة على ستة أسهم سهم لله تعالى ويصرف ذلك إلى عمارة الكعبة إن كانت الكعبة بالقرب منها وإلى عمارة الجامع في كل بلدة هي بالقرب من موضع القسمة لأن هذه البقاع مضافة إلى الله تعالى وهذا السهم لله تعالى فيصرف إلى عمارة البقاع المضافة إليه خالصا .
ولسنا نأخذ بهذا فذكر الله تعالى ليس للاستحقاق لأن الدنيا بما فيها لله تعالى ولكن للتبرك أو لتشريف هذا المال لأن إضافة شيء من الدنيا إلى الله تعالى على الخصوص لمعنى التشريف كالمساجد والناقة وهذا المعنى يتحقق في الغنيمة لأنها أصيبت بطريق فيه إعلاء كلمة الله تعالى وإعزاز دينه .
وأما سهم رسول الله - A - قد كان ثابتا في حياته وسقط بموته عندنا وقال الشافعي - C تعالى - هو باق يصرف إلى كل خليفة بعده لأنه كان يأخذ ذلك السهم في حياته ليستعين به في جوائز الوفود والرسل كما قال A ( والله ما يحل لي من غنائمكم إلا الخمس والخمس مردود فيكم والخليفة بعده محتاج إلى مثل ما كان هو محتاجا إليه فيصرف هذا السهم إليه ) .
ولكنا نقول : الخلفاء الراشدون بعده لم يرفعوا هذا السهم لأنفسهم فعرفنا أنه كان له بدرجة الرسالة لا بالقيام بأمور الناس وذلك غير موجود في الخلفاء بعده .
ولما اجتمع الصحابة - Bهم - ليفرضوا لأبي بكر - Bه - قدر كفايته لم يجعلوا ذلك من هذا السهم ولأنه كان له من الغنائم ثلاث حظوظ خمس الخمس والصوفي والسهم .
ثم الخليفة لا يقام مقامه في استحقاق الصفي فكذلك في استحقاق خمس الخمس والصفي شيء نفيس كان يصطفيه لنفسه من سيف أو فرس أو جارية كما روى أنه A اصطفى ذا الفقار من غنائم بدر وكان سيفا لمنبه بن الحجاج بخلاف ما يزعم الروافض أنه نزل من السماء لعلي - Bه - واصطفى صفية من غنائم خيبر وهذا شيء كان لرأس الجيش في الجاهلية كما قال القائل : .
لك المرباع منها والصفايا .
وحكمك والنشيطة والفصول .
فأما سهم ذوي القربى فقد كان رسول الله - A - يصرفه إليهم في حياته وهم صلبية بني هاشم وبني المطلب ولم يبق لهم ذلك بعده عندنا .
وقال الشافعي - C تعالى - هو مستحق لهم يجمعون من أقطار الأرض فيقسم بين ذكورهم وإناثهم بالسوية وكان الكرخي - C تعالى - يقول إنما سقط بموته هذا السهم في حق الأغنياء منهم دون الفقراء والطحاوي - C تعالى - كان يقول سقط في حق الفقراء والأغنياء منهم جميعا .
وكان أبو بكر الرازي - C تعالى - يقول لم يكن لهم هذا السهم مستحقا بالقرابة بل كان رسول الله - A - يصرفه إليهم مجازاة على النصرة التي كانت منهم ولم يبق ذلك المعنى بعد رسول الله - A - والاعتماد على هذا .
والشافعي - C تعالى - استدل بظاهر قوله تعالى { ولذي القربى } ( الحشر : 8 ) فقد أضاف إليهم سهما بلام التمليك فدل أنه حق مستحق لهم وأن الأغنياء والفقراء فيه سواء لأنه ليس في اسم القرابة ما ينبئ عن الفقر والحاجة بخلاف سهم اليتامى ففي اسم اليتيم ما ينبئ عن الحاجة حتى لو أوصى ليتامى بني فلان وهم لا يحصون فالوصية لفقرائهم بخلاف ما لو أوصى لأقرباء فلان وقد كان رسول الله - A - يعطي الأغنياء منهم فإنه أعطى العباس - Bه - وقد كان له عشرون عبدا كل عبد يتجر في عشرين ألفا .
وأعطى الزبير بن العوام من غنائم خيبر خمسة أسهم سهما له وسهمين لفرسه وسهما لقرابته وسهما لأمه صفية وكانت عمة رسول الله - A - ورضي عنها فإذا كان هذا الحكم ثابتا في حياة رسول الله - A - بقى بعده لأنه لا نسخ بعد وفاته .
( قال ) ( وإذا قطع الطريق وأخذ المال ثم ترك ذلك وأقام في أهله زمانا لم يقم الإمام عليه الحد استحسانا ) وفي القياس يقام عليه لأن الحد لزمه بارتكاب سببه ولكن استحسن لتوبته وتحوله عن تلك الحالة قبل أن يقدر عليه .
والأصل فيه ما روى أن الحارث بن زيد قطع الطريق ثم ترك ذلك وتاب فكتب علي بن أبي طالب - رضي الله تعالى عنه - إلى عامله بالبصرة أن الحارث بن زيد كان من قطاع الطريق وقد ترك وتحول عنه فلا تعرض له إلا بخير .
( قال ) ( وإذا قطعوا الطريق على قوم من أهل الحرب مستأمنين في دار الإسلام لم يلزمهم الحد ) لما بينا أن السبب المبيح في مال المستأمن قائم وهو كون مالكه حربيا وإن تأخر ذلك إلى رجوعه إلى دار الحرب ولكنهم يضمنون المال ودية القتلى لبقاء الشبهة في دم المستأمن بكونه متمكنا من الرجوع إلى دار الحرب وهذا مسقط للعقوبة ولكنه غير مانع من وجوب الضمان الذي يثبت مع الشبهة لقيام العصمة في الحال ولكن يوجعون عقوبة لتخويفهم الناس بقطع الطريق كما إذا لم يصيبوا مالا ولا نفسا .
والأصل فيه ما روى أن الحارث بن زيد قطع الطريق ثم ترك ذلك وتاب فكتب علي بن أبي طالب - رضي الله تعالى عنه - إلى عامله بالبصرة أن الحارث بن زيد كان من قطاع الطريق وقد ترك وتحول عنه فلا تعرض له إلا بخير .
ومن قال من مشايخنا - رحمهم الله - أن الاستحقاق للفقراء منهم دون الأغنياء احتج بقوله تعالى { كيلا يكون دولة بين الأغنياء منكم } ( الحشر : 7 ) وبين مصارف الخمس ثم بين المعنى فيه وهو أن لا يكون شيء منه دولة بين الأغنياء تتداوله أيديهم واسم ذوي القربى عام يتناول الأغنياء والفقراء فيخصه ويحمله على الفقراء بهذا الدليل .
ومن قال لا حق للفقراء والأغنياء منهم جميعا قال المراد بالآية بيان جواز الصرف إليهم لا بيان وجوب الصرف إليهم وكان هذا مشكلا فإن الصدقة لا تحل لهم فكان يشكل أنه هل يجوز صرف شيء من الخمس إليهم ولم يزل هذا الإشكال ببيان سهم رسول الله - A - لأنه ما كان يصرف ما يأخذ إلى حاجة نفسه فأزال الله تعالى هذا الإشكال بقوله تعالى { ولذي القربى } ( الحشر : 7 ) وإنما حملناه على هذا لإجماع الخلفاء الراشدين على قسمة الخمس على ثلاثة أسهم ولا يظن بهم أنه خفي عليهم هذا النص ولا أنهم منعوا حق ذوي القربى فعرفنا بإجماعهم أنه لم يبق إلا الاستحقاق لأغنيائهم وفقرائهم .
والشافعي - C تعالى - يقول لا إجماع ويستدل بالحديث الذي ذكره عن أبي جعفر محمد بن علي - Bهما - قال كان رأي علي - Bه - في الخمس رأى أهل بيته ولكنه كره أن يخالف أبا بكر وعمر - Bهما - قال والإجماع بدون أهل البيت لا ينعقد كيف وقد كان رأي علي - Bه - ولكنه يتحرز من أن ينسب إلى مخالفة أبي بكر وعمر - Bهما .
ولكنا نقول : ليس في هذا الحديث بيان من كان يرى ذلك من أهل البيت وقد كان فيهم من لا يكون قوله حجة وإنما كره علي - Bه - هذه المخالفة لأنه رأى الحجة معهما فإنه خالفهما في كثير من المسائل حين ظهر الدليل عنده وهذا لأنه كان مجتهدا ولا يحل للمجتهد أن يدع رأى نفسه لرأى مجتهد آخر احتشاما له .
والدليل عليه حديث عبدالرحمن بن أبي ليلى - C - عن علي - Bه - قال اجتمعت أنا والعباس وفاطمة وزيد بن حارثة إلى رسول الله - A - فقال العباس كبر سني ورق عظمي وركبتني المؤن فإن رأيت أن تأمر لي بكذا وسقا من طعام فافعل ففعل ذلك وقالت فاطمة - Bها - أنت تعلم مكاني منك فإن رأيت أن تأمر لي بمثل ما أمرت به لعمك فافعل ففعل ذلك وقال زيد بن حارثة كنت أعطيتني أرضا فكنت أزرعها وأعيش بها ثم أخذتها مني فإن رأيت أن تردها علي فافعل ففعل ذلك فقلت أنا إن رأيت أن توليني القسمة فيما هو حقنا كيلا ينازعني أحد بعدك فافعل ففعل ذلك وقال للعباس - رضي الله تعالى عنه - هلا سألت كما سأل ابن أخيك فقال إلى ذلك أنتهت مسألتي فكنت أقسم في حياة رسول الله - A - وفي عهد أبي بكر وصدرا من خلافة عمر - رضي الله تعالى عنهما - حتى أتاه مال عظيم فدعاني لآخذ ما كنت آخذه وأقسمه بين أهل البيت فقلت له إن بنا اليوم عنه غنى وبالمسلمين خلة فأصرفه إليهم ففعل ذلك وقال لي العباس لقد حرمنا اليوم شيئا لا يعود إلينا أبدا وكان رجلا داهيا فكان كما قال .
فبهذا تبين أن عليا - رضي الله تعالى عنه - علم أن الصرف إليهم للحاجة لا للاستحقاق حين رد بقوله إن بنا اليوم عنه غنى وذكر عن ابن عباس - Bهما - قال عرض علينا عمر - Bه - أن يزوج من الخمس أيمنا وأن يقضي به عن مغرمنا فأبينا إلا أن يسلمه إلينا فأبى ذلك علينا .
قال الشافعي - C تعالى - وفي هذا دليل على أن ابن عباس - Bه - كان يرى استحقاق ذلك السهم لهم وذلك ظاهر فيما ذكر بعد هذا من كتابه إلى نجدة وكتبت إلي أن تسألني عن سهم ذوي القربى وأنا لنزعم أنه لنا ويأبى علينا ذلك غيرنا .
ولكنا نقول بعد إجماع الخلفاء الراشدين لا يؤخذ بقول ابن عباس - Bهم أجمعين - في هذا لا يؤخذ به في العول وغيره مع أن معنى قوله فأبينا إلا أن يسلمه إلينا لنتولى صرفه إلى المحتاجين منا لا لنصرفه إلى أنفسنا وكل أحد يحب ذلك في أهل بيته .
ألا ترى أنه قال فأبى ذلك علينا وعمر - Bه - ما كان يعرف بمنع الحق من المستحق بل بإيصال الحق إلى المستحق على ما قال A أينما دار عمر فالحق معه .
وعن سعيد بن المسيب - Bه - قال قسم رسول الله - A - الخمس يوم خيبر فقسم سهم ذوي القربى بين بني هاشم وبني المطلب فكلم عثمان بن عفان وجبير بن مطعم - Bهما - رسول الله - A - قالا نحن وبنو المطلب في النسب إليك سواء فأعطيتهم دوننا فقال رسول الله - A - أنا لم نزل نحن وبنو المطلب في الجاهلية والإسلام معا .
وفي بعض الروايات قالا لا ينكر فضل بني هاشم لمكانك الذي وضعك الله تعالى فيهم ولكن نحن وإخواننا من بني المطلب إليك في النسب سواء فما بالك أعطيتهم وحرمتنا فقال إنهم لم يفارقوني في الجاهلية ولا في الإسلام .
وفي رواية ( فإنما بنو هاشم وبنو المطلب كشيء واحد ) .
وفي رواية ( لم نزل معهم هكذا وشبك بين أصابعه ) .
واعتمادنا على هذا الحديث فقد بين رسول الله - A - أن الاستحقاق بالنصرة دون القرابة وأن المراد بالقربى قرب النصرة حين شبك بين أصابعه . ومعنى الحديث أن أصل النسب وهو عبد مناف كان له أربعة بنين هاشم والمطلب ونوفل وعبد شمس ورسول الله - A - كان من أولاد هاشم فإنه محمد - A - بن عبدالله بن عبد المطلب بن هاشم فكانت بنو هاشم أولاد جده وجبير بن مطعم كان من بني نوفل وعثمان - Bه - كان من بني عبد شمس وولد جد الإنسان أقرب إليه من ولد أخ جده فهذا معنى قولهما لا ننكر فضل بني هاشم فأما بنو نوفل وبنو عبد شمس كانوا مع بني المطلب في القرابة إسوة وقيل بنو نوفل وبنو عبد شمس كانوا أقرب إليه من بني المطلب لأن نوفلا وعبد شمس كانا أخوي هاشم لأب وأم والمطلب كان أخا هاشم لأبيه لا لأمه والأخ لأب وأم أقرب إلى المرء من الأخ لأب ثم أعطى رسول الله - A - بني المطلب ولم يعط بني نوفل وبني عبد شمس فأشكل ذلك عليهما فلذلك سألاه ثم أزال إشكالهما ببيان علة الاستحقاق أنه النصرة دون القرابة ولم يرد به نصرة القتال فقد كان ذلك موجودا من عثمان - Bه - وجبير بن مطعم وإنما أراد نصرة الاجتماع إليه للمؤانسة في حال ما هجره الناس على ما روى أن الله تعالى لما بعث رسول الله - A - من بني هاشم ورأت قريش آثار الخير فيهم حسدوهم وتعاقدوا فيما بينهم أن لا يجالسوا بني هاشم ولا يكلموهم حتى يدفعوا إليهم رسول الله - A - ليقتلوه وتعاقد بنو هاشم فيما بينهم على القيام بنصرة رسول الله - A - فدخل بنو نوفل وبنو عبد شمس في عهد قريش ودخل بنو المطلب في عهد بني هاشم حتى دخلوا معهم الشعب فكانوا فيه ثلاث سنين مع رسول الله - A - حتى أكلوا العلهز من الجهد القصة وإليه أشار رسول الله - A - أنا لم نزل نحن وبنو المطلب في الجاهلية والإسلام معا وإذا ثبت أن الاستحقاق بتلك النصرة ولا تبقى تلك النصرة بعد وفاة رسول الله - A - فلا يبقى الاستحقاق لا للانتساخ بعد موته بل لانعدام الحكم لعدم علته وهذا معنى ما قلنا إن ذلك كان لرسول الله - A - يصرفه إليهم مجازاة على تلك النصرة المخصوصة فقد كان رسول الله - A - يكافئ كل من نصره يوما حتى قال يوما لما عرض عليه الأسارى لو كان معظم بن عدي حيا لوهبت هؤلاء السبي منه مجازاة له على ما صنع وقد كان مات على شركه ولكنه قام بنصرته يوما وفيه قصة معروفة أو نقول ثبت بالكتاب أن الاستحقاق بالقرابة وببيان رسول الله - A - أن الاستحقاق بالنصرة { وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى } ( النجم : 4 ) فصار هذا الاستحقاق ثابتا بعلة ذات وصفين القرابة والنصرة وانعدام أحد الوصفين وهو النصرة بعد وفاته فلا يبقى الاستحقاق كما أنه لما انعدم أحد الوصفين في حق بني نوفل وبني عبد شمس في حياته لم يعطهم شيئا فبنو هاشم وبنو المطلب بعد وفاته بمنزلة بني نوفل وبني عبد شمس في حياته .
وتعليق الاستحقاق بالنصرة أولى منه بالقرابة لأن القياس بنصرة رسول الله - A - قربة وطاعة ومال الله يجوز أن يستحق بعمل هو قربة ولا يجوز أن يستحق بنفس القرابة لأن قرابة الرجل سبب لاستحقاق ماله فأما مال الله تعالى لا يستحق بالقرابة ولأن درجة قرابة رسول الله - A - أعلى من أن تجعل علة لاستحقاق شيء من الدنيا .
ولا معنى لما يقول الخصم أن هذا السهم لهم عوض عن حرمة الصدقة عليهم كما قال A يا معشر بني هاشم إن الله تكره لكم غسالة الناس وعوضكم منها سهما من الخمس وهذا لأن حرمة الصدقة عليهم لكرامتهم فلا يدخل به عليهم نقصان يحتاج إلى جبره بالتعويض ولئن كان هذا السهم عوضا من حرمة الصدقة فينبغي أن يستحقه من يستحق الصدقة لولا قرابة رسول الله - A - وهم الفقراء دون الأغنياء وينبغي أن يكون استحقاقهم على نحو استحقاق الصدقة لولا قرابة رسول الله - A - واستحقاقهم للصدقة لولا قرابة رسول الله - A - على وجه جواز الصرف إليهم لا وجوب الصرف إليهم فكذلك هذا السهم .
ونحن نقول إنه يجوز صرف بعض الخمس إليهم وإنما ننكر وجوب الصرف إليهم بسبب القرابة وأيد جميع ما قلنا حديث أم هانئ أن النبي - A - قال ( سهم ذوي القربى لهم في حياتي وليس لهم بعد وفاتي ) والحديث وإن كان شاذا فقد تأكد بإجماع الخلفاء الراشدين على العمل به وعن جابر بن عبدالله - Bه - قال كان يحمل من الخمس في سبيل الله تعالى ويعطي منه نائبة القوم فلما كثر المال جعل في غير ذلك .
وإنما أراد به ما كان يصرف من الخمس إلى ذوي القربى في حياة رسول الله - A - على ما ذكر بعد هذا عن الضحاك أن أبا بكر الصديق - Bه - استشار المسلمين في سهم ذوي القربى فرأوا أن يجعل في الخيل والسلاح وفي هذا بيان أنهم كانوا مجمعين على أنه لا استحقاق لهم بعد رسول الله - A - وأن استحقاقهم في حياته كان للنصرة . ألا ترى أنهم جعلوا مصرفه آلة النصرة وهي الخيل والسلاح وقوله ويعطي منه نائبة القوم قيل المراد بالقوم ذوي القربى كما قال في حديث ابن عباس - Bهما - عرض علينا عمر - Bه - أن يزوج منه إيمنا ويقضي منه عن مغرمنا وقيل المراد بالقوم الغزاة أي يعطي منه ما يحتاج إليه الغزاة في سبيل الله تعالى ومعلوم أن الصرف إلى المستحق المحتاج أولى من الصرف إلى محتاج غير مستحق وقوله فلما كثر المال جعل في غير ذلك تعرض لبعض من كان لا يصرفه إلى مصرفه في وقته يعني كثرة الإجماع فيه فمع كثرة المال لا يصل إلى المصرف الذي كان يصل إليه عند قلة المال .
وعن ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - أن رجلا وجد بعيرا في المغنم قد كان المشركون أصابوه قبل ذلك فسأل عنه رسول الله - A - فقال إن وجدته قبل القسمة فهو لك وإن وجدته بعد القسمة أخذته بالثمن إن شئت وفي رواية أخرى عن ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - أن المشركين أحرزوا ناقة لرجل من المسلمين بدارهم فاشتراها رجل منهم وأخرجها فخاصم فيها مالكها فقال A ( إن شئت أخذتها بالثمن ) وفي الحديثين حجة لنا أن الكفار يملكون أموال المسلمين بالإحراز لأنهم لو لم يملكوا لرده رسول الله - A - على المالك مجانا بكل حال فإن المسلمين إنما يملكون على الكفار مالهم لا مال المسلم وكذلك المشتري إنما يملك على البائع ماله إلا أنه جعل له حق الأخذ قبل القسمة بغير شيء وبعد القسمة بالقيمة لأن المستولى عليه صار مظلوما وعلى من يذب عن دار الإسلام القيام بنصرته ودفع الظلم عنه وذلك بإعادة ماله إليه وقبل القسمة لم يتعين الملك فيه لأحد بل هو باق على حق الغزاة فكان عليهم الرد ليندفع به الظلم عن صاحبه وبعد القسمة قد تعين الملك لمن وقع في سهمه وعليه دفع الظلم عنه ولكن ليس له أن يحول ملكه وحقه إليه إلا أن حقه في المالية فلمراعاة النظر من الجانبين قلنا تعاد إليه العني بالقيمة ليصل المستولي عليه إلى عين ماله ويصل الآخر إلى حقه في المالية .
ودليل أن حقه في المالية أن للإمام بيع الغنائم وقسمتها بين الغانمين ومراده بالثمن القيمة فالقيمة ثمن التعديل والمسمى ثمن التراضي ولهذا مكنه من الأخذ من المشتري بالثمن لأن حق المشتري فيما أعطى من ماله وهو الثمن فينظر له في ذلك كما ينظر للمستولي عليه في إعادة ماله إليه .
وعن الشعبي - C تعالى - أن عمر بن الخطاب - Bه - جعل أهل السواد ذمة المراد سواد العراق وفيه دليل على أن الإمام إذا فتح بلدة عنوة وقهرا فله أن يجعل أهلها ذمة ويضع الجزية على جماجمهم والخراج على أراضيهم كما فعله عمر - رضي الله تعالى عنه - فإنه افتتح السواد عنوة وقهرا وذلك مشهور في كتب المغازي وفيه أشعار وقد كان صاحب جيش العجم رستم بن فرخ هرمزان وقتل في الحرب وأنشد الأعرابي الذي قتله فقال : .
ألم تر أني حميت الذمار .
وأبقيت مكرمة في الأمم .
غداة الهزيمة إذ رستم .
يسوق الفوارس سوق النعم .
رماني بسهم وقد نلته .
فصك الركاب بطن القدم .
واضرب بالسيف يافوخه .
فكانت لعمري فتح العجم .
وقد كان صاحب جيش المسلمين سعد بن أبي وقاص - Bه - وكان قد خرج به دماميل فلم يحضر الحرب يوم الفتح وفي ذلك يقول قائلهم : .
ألم تر أن الله أنزل نصره .
وسعد بباب القادسية معصم .
فأبنا وقد آمت نساء كثيرة .
ونسوة سعد ليس فيهن أيم .
وإنما بينا هذا لأن بعض أصحاب الشافعي - رحمهم الله - ينكرون فتح السواد عنوة وذكر الشافعي - C تعالى - في كتابه لا أدري ماذا أقول في سواد الكوفة ولكني أقول قولا بظن مقرون إلى علم .
( يتبع . . . )