الأذان في اللغة : الإعلام ومنه قوله تعالى : " وأذان من الله ورسوله " التوبة : 3 الآية وتكلموا في سبب ثبوته فروى " أبو حنيفة " C تعالى عن " " علقمة بن مرثد عن " أبي بردة عن أبيه قال مر أنصاري بالنبي A فرآه حزينا وكان الرجل ذا طعام فرجع إلى بيته واهتم لحزنه A فلم يتناول الطعام ولكنه نام فأتاه آت فقال أتعلم حزن رسول الله A مما ذا هو من هذا الناقوس فمره فليعلم بلالا الأذان وذكره إلى آخره " . و " المشهور أنه A لما قدم المدينة كان يؤخر الصلاة تارة ويعجلها أخرى فاستشار الصحابة في علامة يعرفون بها وقت أدائه الصلاة لكي لا تفوتهم الجماعة فقال بعضهم ننصب علامة حتى إذا رآها الناس أذن بعضهم بعضا فلم يعجبه ذلك وأشار بعضهم بضرب الناقوس فكرهه لأجل النصارى وبعضهم بالنفخ في الشبور فكرهه لأجل اليهود وبعضهم بالبوق فكرهه لأجل المجوس فتفرقوا قبل أن يجتمعوا على شيء . قال " عبدالله بن زيد بن عبد ربه الأنصاري " فبت لا يأخذني النوم وكنت بين النائم واليقضان إذ رأيت شخصا نزل من السماء وعليه ثوبان أخضران وفي يده شبه الناقوس فقلت أتبيعنى هذا فقال ما تصنع به فقلت نضربه عند صلاتنا فقال ألا أدلك على ما هو خير من هذا .
صفحة [ 128 ] فقلت نعم فقام على حذام حائط مستقبل القبلة فأذن ثم مكث هنيهة ثم قام فقال مثل مقالته الأولى وزاد في آخره قد قامت الصلاة مرتين فأتيت رسول الله A عليه وأخبرته بذلك فقال رؤيا صدق أو قال حق ألقها على بلال فإنه أمد صوتا منك فألقيتها عليه فقام على سطح أرملة كان أعلى السطوح بالمدينة وجعل يؤذن فجاء " عمر " رضى الله تعالى عنه في إزار وهو يهرول ويقول لقد طاف بي الليلة ما طاف بعبدالله إلا أنه قد سبقنى فقال A هذا أثبت . " .
وروى أن سبعة من الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين رأوا تلك الرؤيا في ليلة واحدة .
وكان " أبو حفص محمد بن علي " ينكر هذا ويقول تعمدون إلى ما هو من معالم الدين فتقولون ثبت بالرؤيا كلا ولكن النبي A حين أسرى به إلى المسجد الأقصى وجمع له النبيون أذن ملك وأقام فصلى بهم رسول A .
وقيل نزل به جبريل E حتى قال كثير بن مرة أذن جبريل في السماء فسمعه " عمر بن الخطاب " رضي الله تعالى عنه ولا منافاة بين هذه الأسباب فيجعل كأن كل ذلك كان .
ثم يختلفون في الأذان في ثلاثة مواضع : .
أحدهما : في الترجيع فإنه ليس من سنة الأذان عندنا خلافا للشافعي C تعالى .
وصفته أن يأتي بكلمة الشهادتين مرتين يخفض بهما صوته ثم يرجع فيأتى بهما مرتين أخريين يرفع بهما صوته واحتج " الشافعي " C تعالى " بحديث " أبي محذورة " أن النبي A علمه الأذان تسع عشرة كلمة والإقامة سبع عشرة كلمة " ولا يكون تسع عشرة كلمة إلا بالترجيع وروى أنه أمر بالترجيع نصا وجعل كلمة الشهادتين قياس التكبير فكما أنه يأتى بلفظة التكبير أربع مرات فكذلك كلمة الشهادتين .
ولنا حديث " عبدالله بن زيد " رضى الله تعالى عنه فهو الأصل وليس فيه ذكر الترجيع ولأن المقصود من الأذان قوله : حى على الصلاة حي الفلاح ولا ترجيع في هاتين الكلمتين ففيما سواهما أولى .
وأما لفظ التكبير فدليلنا فإن ذكر التكبير مرتين لما كان بصوت واحد فهو كلة واحدة فأما حديث " أبي محذورة " قلنا : إن رسول الله A أمر بالتكرار حالة التعليم ليحسن تعلمه وهو كان عادته فيما يعلم أصحابه فظن أنه أمره بالترجيع .
وقيل : " إن " أبا محذورة " كان مؤذن " مكة " فلما انتهى إلى ذكر رسول الله A خفض صوته استحياء من أهل مكة لأنهم لم .
صفحة [ 129 ] يعهدوا ذكر اسم رسول الله A بينهم جهرا ففرك رسول الله A أذنه وأمره أن يعود فيرفع صوته ليكون تأديبا له " .
والثاني في التكبير عندنا أربع مرات .
وعند " مالك " C تعالى مرتين وهو رواية عن " أبي يوسف " C تعالى قاسه بكلمة الشهادتين يأتى بهما مرتين .
ولنا حديث " عبدالله بن زيد " وحديث " أبي محذورة " رضى الله تعالى عنهما في الأذان تسع عشرة كلمة ولن يكون ذلك إذا كان التكبير مرتين ثم قد بينا أن كل تكبيرتين بصوت واحد فكأنهما كلمة واحدة فيأتى بهما مرتين كما يأتى بالشهادتين .
والثالث أن آخر الأذان لا إله إلا الله وعلى قول أهل المدينة لا إله إلا الله والله أكبر فاعتبروا آخره بأوله ويروون فيه حديثا ولكنه شاذ فيما تعم به البلوى والإعتماد في مثله على المشهور وهو حديث " عبدالله بن زيد " رضى الله تعالى عنه على ما توارثه الناس إلى يومنا هذا .
قال : وينبغي للمؤذن أن يستقبل القبلة في أذانه حتى إذا انتهى إلى الصلاة والفلاح حول وجهه يمينا وشمالا وقدماه مكانهما ولأن الأذان مناجاة ومناداة ففي حالة المناجاة يستقبل القبلة وعند المناداة يستقبل من ينادي لأنه يخاطبه بذلك كما في الصلاة يستقبل القبلة فإذا انتهى إلى السلام حول وجهه يمينا وشمالا لأنه يخاطب الناس بذلك فإذا فرغ من الصلاة والفلاح حول وجهه إلى القبلة لأنه عاد إلى المناجاة .
قال : والإقامة مثنى مثنى كالأذان عندنا وقال " الشافعي " C الإقامة فرادى فرادى إلا قوله قد قامت الصلاة فإنها مرتين واستدل " بحديث " أنس " رضي الله تعالى عنه أن النبي A أمر بلالا أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة " ولأن الأذان للإعلام فمع التكرار أبلغ في الإعلام والإقامة لإقامة الصلاة فالإفراد بها أعجل لإقامة الصلاة فهو أولى .
ولنا حديث " عبدالله بن زيد " رضي الله تعالى عنه فهو الأصل كما بينا . ومر علي بمؤذن يوتر الإقامة فقال اشفعها لا أم لك ولأنه أحد الأذانين وهو مختص بقوله : قد قامت الصلاة فلو كان من سنته الأفراد لكان أولى به هذه الكلمة وحديث أنس رضي الله تعالى عنه معناه أمر بلالا أن يؤذن بصوتين ويقيم بصوت واحد بدليل ما روى عن " إبراهيم " قال أول من أفرد الإقامة " معاوية " رضي الله تعالى عنه وقال " مجاهد " رضى الله تعالى عنه كانت الإقامة مثنى كالأذان حتى استخفه بعض أمراء الجور فأفرده لحاجة لهم .
وقال " مالك " C تعالى يفرد وقد قامت الصلاة أيضا ويروى فيه حديثا عن " سعد القرظي " ولكنه شاذ فيما تعم به .
صفحة [ 130 ] البلوى والشاذ هي مسألة لا تكون حجة .
قال : ويجعل أصبعيه في أذنيه عند أذانه " لقوله A لبلال : إذا أذنت فاجعل أصبعيك في أذنيك فإنه أندى لصوتك " .
وقال " أبو جحيفة " رأيت بلالا يؤذن في صومعته يتبع فاه ها هنا وها هنا وأصبعاه في أذنيه وإن لم يفعل لم يضره لأن المقصود وهو الإعلام حاصل .
قال : وإن استدار في صومعته لم يضره لأنه ربما لا يحصل المقصود بتحويل الوجه يمينا وشمالا بدون الإستدارة لتباعد جوانب المحلة فالإستدارة للمبالغة في الإعلام .
قال : ولا يثوب في شيء من الصلاة إلا في الفجر وكان التثويب الأول في الفجر بعد الأذان الصلاة خير من النوم مرتين فأحدث الناس هذا التثويب وهو حسن أما معنى التثويب لغة فالرجوع ومنه سمي الثواب لأن منفعة عمله تعود إليه ويقال ثاب إلى المريض نفسه إذا برأ فهو عود إلى الإعلام بعد الإعلام الأول بدليل ما " روى أن النبي A قال إذا أذن المؤذن أدبر الشيطان وله حصاص كحصاص الحمار فإذا فرغ رجع فإذا ثوب أدبر فإذا فرغ رجع فإذا أقام أدبر فإذا فرغ رجع وجعل يوسوس إلى المصلى أنه كم صلى " .
فهذا دليل على أن التثويب بعد الأذان وكان التثويب بعد الأذان وكان التثويب الأول الصلاة خير من النوم لما " روي أن " بلالا " رضي الله تعالى عنه أذن لصلاة الفجر ثم جاء إلى باب حجرة " عائشة " رضى الله تعالى عنها فقال الصلاة يا رسول الله فقالت " عائشة " رضى الله تعالى عنها الرسول نائم فقال " بلال " الصلاة خير من النوم فلما انتبه أخبرته " عائشة " رضى الله تعالى عنها بذلك فاستحسنه رسول الله A " .
قوله فأحدث الناس هذا التثويب إشارة إلى تثويب أهل الكوفة فإنهم ألحقوا الصلاة خير من النوم بالأذان وجعلوا التثويب بين الأذان والإقامة حي على الصلاة مرتين حي على الفلاح مرتين .
قال : والتثويب في كل بلدة ما يتعارفونه أما بالتنحنح أو بقوله الصلاة الصلاة أو بقوله قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة لأنه للمبالغة في الإعلام فإنما يحصل ذلك بما يتعارفونه . قال : ولا تثويب إلا في صلاة الفجر لما روى أن " عليا " رضى الله تعالى عنه رأى مؤذنا يثوب في العشاء فقال أخرجوا هذا المبتدع من المسجد ولحديث " مجاهد " رضى الله تعالى عنه قال دخلت مع " ابن عمر " رضى الله تعالى عنهما مسجدا نصلي فيه الظهر فسمع المؤذن يثوب فغضب وقال قم حتى نخرج من عند .
صفحة [ 131 ] هذا المبتدع فما كان التثويب على عهد رسول الله A إلا في صلاة الفجر ولأن صلاة الفجر تؤدى في حال نوم الناس ولهذا خصت بالتطويل في القراءة فخصت أيضا بالتثويب لكي لا تفوت الناس الجماعة وهذا المعنى لا يوجد في غيرها .
وفسره الحسن عن " أبي حنيفة " رحمهما الله تعالى قال يؤذن للفجر ثم يقعد بقدر ما يقرأ عشرين آية ثم يثوب ثم يقعد مثل ذلك ثم يقيم " لحديث " بلال " رضى الله تعالى عنه أن النبي A قال له إذا أذنت فأمهل الناس قدر ما يفرغ الآكل من أكله والشارب من شربه والمعتصر من قضاء حاجته " وإنما استحسن التثويب لأن الدعاء إلى الصلاة في الأذان كان بهاتين الكلمتين فيستحسن التثويب بهما أيضا هذا اختيار المتقدمين .
وأما المتأخرون فاستحسنوا التثويب في جميع الصلوات لأن الناس قد ازداد بهم الغفلة وقلما يقومون عند سماع الأذان فيستحسن التثويب للمبالغة في الإعلام ومثل هذا يختلف باختلاف أحوال الناس .
وقد روى عن " أبي يوسف " C تعالى أنه قال : لا بأس بأن يخص الأمير بالتثويب فيأتى بابه فيقول السلام عليك أيها الأمير ورحمة الله وبركاته حي على الصلاة مرتين حي على الفلاح مرتين الصلاة يرحمك الله لأن الأمراء لهم زيادة اهتمام بأشغال المسلمين ورغبة في الصلاة بالجماعة فلا بأس بأن يخصوا بالتثويب وقد روى عن " عمر " رضى الله تعالى عنهما أنه لما كثر اشتغاله نصب من يحفظ عليه صلاته غير أن " محمدا " C تعالى عنه حين حج أتاه مؤذن " مكة " يؤذنه بالصلاة فانتهره وقال ألم يكن في أذانك ما يكفينا .
قال : ويترسل في الأذان ويحدر في الإقامة " لحديث " جابر " رضى الله تعالى عنه أن النبي A قال " لبلال " إذا أذنت فترسل وإذا أقمت فاحدر " ولأن المقصود من الأذان الإعلام فالترسل فيه أبلغ في الإعلام والمقصود من الإقامة إقامة الصلاة فالحدر فيها أبلغ في هذا المقصود .
قال : فإن ترسل فيهما أو حدر فيهما أو ترسل في الإقامة وحدر في الأذان أجزأه لأنه أقام الكلام بصفة التمام وحصل المقصود وهو الإعلام فترك ما هو زينة فيه لا يضره .
قال : ويجوز الأذان والإقامة على غير وضوء ويكره مع الجنابة حتى يعاد أذان الجنب ولا يعاد أذان .
صفحة [ 132 ] المحدث وروى " الحسن " عن " أبي جنيفة " رحمهما الله تعالى أنه يعاد فيهما وعن " أبي يوسف " C تعالى أنه لا يعاد فيهما .
ووجهه أن الأذان ذكر والجنب والمحدث لا يمنعان من ذكر الله تعالى وما هو المقصود به وهو الإعلام حاصل .
ووجه رواية " الحسن " C تعالى أن الأذان مشبه بالصلاة ولهذا يستقبل فيه القبلة والصلاة مع الحدث لا تجوز فما هو من أسبابه مشبه به يكره معه ثم المؤذن يدعو الناس إلى التأهب للصلاة فإذا لم يكن متأهبا لها دخل تحت قوله تعالى : " أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم " البقرة : 44 .
وجه ظاهر الرواية ما روى أن " بلالا " ربما أذن وهو على غير وضوء ثم الأذان ذكر معظم فيقاس بقراءة القرآن والمحدث لا يمنع من ذلك ويمنع منه الجنب فكذلك الأذان .
وفي ظاهر الرواية جعل الإقامة كالأذان في أنه لا بأس به إذا كان محدثا .
وروى " أبو يوسف " عن " أبي حنيفة " رحمهما الله تعالى الفرق بينهما فقال أكره الإقامة للمحدث لأن الإقامة يتصل بها إقامة الصلاة فلا يتمكن من ذلك مع الحدث بخلاف الأذان .
قال : ويكره الأذان قاعدا لأنه في حديث الرؤيا قال فقام الملك على حذم حائط ولأن المقصود الإعلام وتمامه في حالة القيام ولكنه يجزئه لأن أصل المقصود حاصل .
قال : ولا بأس بأن يؤذن واحد ويقيم آخر لما " روى أن " عبدالله بن زيد " رضى الله عنه سأل رسول الله A أن يكون له في الأذان نصيب فأمر بأن يؤذن بلال ويقيم هو " ولأن كل واحد منهما ذكر مقصود فلا بأس بأن يأتى بكل واحد منهما رجل آخر والذي روى أن " الحرث الصدائي " أذن في بعض الأسفار و " بلال " كان غائبا فلما رجع " بلال " وأراد أن يقيم " قال A إن أخا صداء أذن ومن أذن فهو يقيم " إنما قاله على وجه تعليم حسن العشرة لا أن خلاف ذلك لا يجزئ .
قال : وإن ترك استقبال القبلة في أذانه أجزأه وهو مكروه لأن المقصود به حصل وهو الإعلام والكراهية لمخالفته السنة .
قال : ويؤذن المسافر راكبا إن شاء لما روى أن " بلالا " في السفر ربما أذن راكبا ولأن المسافر له أن يترك الأذان أصلا فله أن يأتى به راكبا بطريق الأولى .
قال : وينزل للإقامة أحب إلي لأن الإقامة يتصل بها إقامة الصلاة وإنما يصلى على الأرض فينزل للإقامة لهذا .
( يتبع . . . )