قال - Bه - الأصل في حكم الإحصار قوله تعالى : { " وأتموا الحج والعمرة لله فإن أحصرتم " } أي منعتم من إتمامها " { فما استيسر من الهدي " } شاة تبعثونها إلى الحرم لتذبح ثم تحلقون لقوله تعالى : { " ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله " } البقرة : 196 فعلى المحصر إذا كان محرما بالحج أن يبعث بثمن هدي يشتري له " بمكة " فيذبح عنه يوم النحر فيحل من إحرامه وهذا قول علمائنا - رحمهم الله تعالى - أن هدي الإحصار مختص بالحرم .
وعلى قول " الشافعي " - Bه - لا يختص بالحرم ولكن يذبح الهدي في الموضع الذي يحصر فيه وحجته في ذلك " حديث " ابن عمر " - Bه - أن النبي - A - خرج مع أصحابه - Bهم - معتمرا فأحصر بالحديبية فذبح هداياه وحلق بها وقاضاهم على أن يعود من قابل فيخلوا له " مكة " ثلاثة أيام بغير سلاح فيقضي عمرته فإنما نحر رسول الله - A - الهدي في الموضع الذي أحصر فيه ولأنه لو بعث بالهدي لا يأمن أن لا يفي المبعوث على يده أو يهلك الهدي في الطريق وإذا ذبحه في موضعه يتيقن بوصول الهدي إلى محله وخروجه من الإحرام بعد إراقة دمه فكان هذا أولى " . وحجتنا في ذلك قوله تعالى : { " ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله " } والمراد به الحرم بدليل قوله تعالى : { " ثم محلها إلى البيت العتيق " } الحج : 33 بعدما ذكر الهدايا ولأن التحلل بإراقة دم هو قربة وإراقة الدم لا تكون قربة إلا في مكان مخصوص وهو الحرم أو زمان مخصوص وهو أيام النحر ففي غير ذلك المكان والزمان لا تكون قربة ونقيس هذا الدم بدم المتعة من حيث أنه تحلل به عن الإحرام وذلك يختص بالحرم فكذا هذا وأما ما روي فقد اختلفت الروايات في نحر رسول الله - A - الهدايا حين أحصر فروي أنه بعث الهدايا على يدي ناجية لينحرها في الحرم حتى قال ناجية ماذا أصنع فيما يعطب منها قال انحرها واصبغ نعلها بدمها واضرب بها صفحة سنامها وخل بينها وبين الناس ولا تأكل أنت ولا رفقتك منها شيئا وهذه الرواية أقرب إلى موافقة الآية قال الله تعالى : { " هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفا أن يبلغ محله " } فأما الرواية الثانية إن صحت فنقول الحديبية من الحرم فإن نصفها من الحل ونصفها من الحرم ومضارب رسول الله - A - كانت في الحل ومصلاه كان في الحرم فإنما سيقت الهدايا إلى جانب الحرم منها ونحرت في الحرم فلا يكون للخصم فيه حجة وقيل إن النبي - A - كان مخصوصا بذلك لأنه ما كان يجد في ذلك الوقت من يبعث الهدايا على يده إلى الحرم .
قال ثم إذا بعث بالهدي إلى الحرم فذبح عنه فليس عليه حق ولا تقصير في قول " أبي حنيفة " و ا ا " محمد " - رحمهما الله تعالى - خلافا ل " أبي يوسف " - C تعالى - وقد بينا هذا وقال " الشافعي " - C تعالى - الحلق نسك فعلى المحصر أن يأتي به ثم عليه عمرة وحجة هكذا روي عن " ابن عباس " و " ابن عمر " - رضي الله تعالى عنهما - أما قضاء الحج فإن كان محرما بحجة الإسلام فقد بقيت عليه حين لم تصر مؤداة وإن كان محرما بحجة التطوع فعليه قضاؤها عندنا لأنه صار خارجا منها بعد صحة الشروع قبل أدائها وعند " الشافعي " - Bه - لا يجب عليه القضاء وهو نظير الشارع في صوم التطوع إذا أفسده وقد بيناه في كتاب الصوم وأما قضاء العمرة فلأنه صار في معنى فائت الحج حين كان خروجه بعد صحة الشروع قبل أداء الأعمال وعلى فائت الحج أعمال العمرة فإذا لم يأت بها كان عليه قضاء العمرة أيضا .
قال وإذا بعث بالهدي فإن شاء أقام مكانه وإن شاء رجع لأنه لما صار ممنوعا من الذهاب يخير بين المقام والانصراف وهذا إذا كان محصرا بعدو وفإن كان محصرا بمرض أصابه فعندنا هو والمحصر بالعدو سواء يتحلل ببعث الهدي وعند " الشافعي " - C تعالى - ليس للمريض أن يتحلل إلا أن يكون شرط ذلك عند إحرامه ولكنه يصبر إلى أن يبرأ فإن هذا حكم ثابت بالنص من الكتاب والسنة والآية في الإحصار بالعدو بدليل قوله تعالى في آخر الآية : { " فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج " } وكذلك كان رسول الله - A - محصرا بالعدو ففيما لم يرد فيه النص يتمسك بالأصل وهو لزوم الإحرام إلى أن يؤدي الأفعال إلا أن يشترط ذلك عند الإحرام فحينئذ يصير التحلل له حقا بالشرط لما " روي أن " ضباعة " عمة رسول الله - A - Bها - كانت شاكية فقال لها أهلي بالحج واشترطي أن تحلي حيث حبست " فلو كان لها أن تتحلل من غير شرط لما أمرها رسول الله - A - بالشرط والمعنى فيه أن ما ابتلى به لا يزول بالتحلل فلا يكون له أن يتحلل كالذي ضل الطريق أو أخطأ العدد أو سرقت نفقته بخلاف المحصر بالعدو فإن ما ابتلي به هناك يزول بالتحلل لأنه يرجع إلى أهله فيندفع شر العدو عنه . وحجتنا في ذلك قوله تعالى : { " فإن أحصرتم " } فإن أهل اللغة يقولون إن الإحصار لا يكون إلا في المرض ففي العدو يقال حصر فهو محصر وفي المرض يقال أحصر فهو محصر وقال الفراء - C تعالى - يقال في العدو والمرض جميعا أحصر وحصر في العدو خاصة فقد اتفقوا على أن لفظة الإحصار تتناول المرض وقوله { فإذا أمنتم } لا يمنع من حمله على المرض ومعناه إذا برئتم " قال A الزكام أمان من الجذام والدمامل أمان من الطاعون " فعرفنا أن لفظة الأمن تطلق في المرض . وفي " الحديث عن " الحجاج بن عمر " - C تعالى - أن النبي - A - قال : من كسر أو عرج فعليه الحج من قابل " فذكر ذلك ل " ابن عباس " و " أبي هريرة " - رضي الله تعالى عنهما - فقالا صدق وعن " الأسود بن يزيد " قال خرجنا من البصرة عمارا أي معتمرين فلدغ صاحب لنا فأعرضنا الطريق لنسأل من نجده فإذا نحن بركب فيهم " ابن مسعود " - رضي الله تعالى عنه - فسألناه عن ذلك فقال ليبعث صاحبكم بدم ويواعد المبعوث على يديه أي يوم شاء فإذا ذبح عنه حل والمعنى فيه أن المعنى الذي لأجله ثبت حق التحلل للمحصر بالعدو موجود هنا وهو زيادة مدة الإحرام عليه لأنه إنما التزم إلى أن يؤدي أعمال الحج وبتعذر الأداء تزداد مدة الإحرام عليه ويلحقه في ذلك ضرب مشقة فأثبت له الشرع حق التحلل وهذا المعنى موجود هنا فقد يزداد عليه مدة الإحرام بسبب المرض والمشقة عليه في المكث محرما مع المرض أكثر فيثبت له حق التحلل بطريق الأولى . والدليل على أن المعنى هذا لا ما قال إن العدو إذا أحاطوا به من الجوانب الأربعة أو حبسوه في موضع لا يزول ما به بالتحلل بأن كان لا يمكنه الرجوع إلى أهله مع ذلك يثبت له حق التحلل عرفنا أن المعنى ما قلنا فأما الذي ضل الطريق عندنا فليس محصرا لأنه إن وجد من يبعث بالهدي على يده فذلك الرجل يهديه إلى الطريق فلا حاجة به إلى التحلل وإن لم يجد من يبعث بالهدي على يديه فإنما يتحلل لعجزه عن تبليغ الهدي محله والذي أخطأ العدد فائت الحج وفائت الحج يتحلل بأعمال العمرة فأما إذا سرقت نفقته فذكر " ابن سماعة " عن ا ا " محمد " - رحمهما الله تعالى - أنه إن كان يقدر على المشي فليس له أن يتحلل بالهدي وإن كان لا يقدر على المشي فهو محصر يتحلل بالهدي وهكذا قال " أبو يوسف " - C تعالى - إلا أنه قال إن كان يعلم أنه يقدر على المشي إلى البيت يلزمه المشي وإلا فلا ولا يبعد أن لا يلزمه المشي في الابتداء ويلزمه بعد الشروع كما لا يلزمه حجة التطوع ابتداء ويلزمه الإتمام إذا شرع فيها والفقير لا يلزمه حجة الإسلام ويلزمه الاتمام إذا شرع فيها .
قال وإذا كان محرما بعمرة فأحصر يتحلل بالهدي إلا على قول " مالك " - C تعالى - فإنه يقول حكم الإحصار لمن يخاف الفوت والمعتمر لا يخاف الفوت .
ولكنا نقول رسول الله - A - حين أحصر بالحديبية كان محرما بالعمرة وقد بينا حديث " ابن مسعود " - Bه - في الملدوغ والمعنى فيه زيادة مدة الإحرام عليه والمعتمر في هذا كالحاج فيتحلل بالهدي إلا أنه إذا بعث بالهدي هنا يواعد صاحبه يوما أي يوم شاء لأن عمل العمرة لا يختص بوقت فكذا الهدي الذي يتحلل به عن إحرام العمرة بخلاف المحصر بالحج على قولهما لأن أعمال الحج مختصة بوقت الحج فكذلك الهدي الذي به يتحلل مؤقت بيوم النحر وإذا حل من عمرته فعليه عمرة مكانها لأن الشروع فيها قد صح .
قال والقارن يبعث بهدديين لأنه محرم بإحرامين وتحلله عن كل واحد منهما يحصل قبل أداء الأعمال فلهذا يبعث بهديين وإذا تحلل بهما فعليه عمرتان وحجة يقضيهما بقران أو إفراد لما بينا أن إحدى العمرتين تلزمه للتحلل عن العمرة بعد الشروع فيها والأخرى للتحلل عن إحرام الحج وقد بينا في المفرد بالحج أن عليه عمرة وحجة إذا تحلل بالهدي .
قال وإن بعث القارن بهدي واحد ليتحلل به من أحد الإحرامين لا يصح ذلك ولا يتحلل به لأن أوان التحلل من الإحرامين في حق القارن واحد كما " قال A فلا أحل منهما وبالهدي الواحد لا يتحلل منهما فلا يكون له أن يتحلل أصلا . " .
قال وإذا بعث بهديين فلا يحتاج إلى أن يعين الذي للعمرة منهما والذي للحج لأن هذا التعيين غير مفيد فلا يعتبر أصلا ثم المذهب عند " أبي حنيفة " - C تعالى - أن دم الإحصار لا يختص بيوم النحر حتى لو واعد المبعوث على يده بأن يذبح عنه في أول أيام العشر جاز وعند " أبي يوسف " و ا ا " محمد " - رحمهما الله تعالى - يختص بيوم النحر فالإهداء دم يتحلل به من إحرام الحج فيختص بيوم النحر كهدي المتعة والقران و " أبو حنيفة " - C تعالى - يقول : إن الله تعالى نص في هدي الإحصار على مكان بقوله : { " حتى يبلغ الهدي محله " } فالتقيد بالزمان يكون زيادة عليه فلا يثبت بالرأي ثم هذا بمنزلة دماء الكفارات فإنه يجب للإحلال قبل أوانه ولهذا لا يباح التناول منه ودماء الكفارات تختص بالحرم ولا تختص بيوم النحر بخلاف دم المتعة والقران فإنه نسك يباح التناول منه بمنزلة الأضحية . إذا عرفنا هذا فنقول إذا بعث بالهدي ثم زال الإحصار فالمسألة على ثلاثة أوجه إن كان يقدر على إدراك الحج والهدي جميعا فعليه أن يتوجه لأداء الحج وليس له أن يتحلل بالهدي لأن ذلك كان للعجز عن أداء الحج فكان في حكم البدل وقد قدر على الأصل قبل حصول المقصود بالبدل فسقط اعتبار البدل ويلزمه أن يتوجه فإذا أدرك هديه صنع به ما شاء لأنه ملكه وقد كان عينه لمقصود وقد استغنى عنه وإن كان لا يقدر على إدراك الحج والهدي جميعا لا يلزمه التوجه لأن العجز عن أداء الأعمال لم ينعدم بزوال الإحصار فكان له أن يتحلل بالهدي وإن توجه ليتحلل بأعمال العمرة فله ذلك لأنه فائت الحج وفائت الحج يتحلل بأعمال العمرة وله في هذا التوجه غرض وهو أن لا يلزمه قضاء العمرة وأما إذا قدر على إدراك الحج ولم يقدر على إدراك الهدي وإنما يتصور هذا عند " أبي حنيفة " - C تعالى - لا عندهما هذا الهدي يختص بيوم النحر فلا يتصور إدراك الحج دون الهدى ثم في القياس على قول " أبي حنيفة " - C تعالى - يلزمه أن يتوجه وليس له أن يتحلل يالهدي وهو قول " زفر " - C تعالى - لأن العجز عن أداء الأعمال قد ارتفع بزوال الإحصار وقد بينا أن حكم البدل يسقط اعتباره إذا قدر على الأصل فيلزمه أن يتوجه ولكنه استحسن فقال له أن يتحلل بالهدي لأنه لو توجه ضاع ما له فإن الهدي ملكه جعله لمقصود وهو التحلل فإن كان لا يدركه ولا يتحلل به يضيع ماله وحرمة المال كحرمة النفس فكما كان الخوف على نفسه عذرا له في التحلل فكذلك الخوف على ماله والأفضل له أن يتوجه لأنه أقرب إلى الوفاء بما وعد وهو أداء ما شرع فيه .
( يتبع . . . )