قال Bه الحلق أفضل من التقصير لما روينا من الأثر فيه ولأن المأمور به بعد الذبح قضاء التفث قال الله تعالى { " ثم ليقضوا تفثهم " } وهو في الحلق أتم والتقصير فيه بعض الحلق فلهذا كان الحلق أفضل والتقصير يجزي وهو أن يأخذ شيئا من أطراف شعره ورواه في الكتاب عن ابن " عمر " - Bه - أنه سئل كم تقصر المرأة فقال مثل هذه يعني مثل الأنملة وهذا لأنه لو لم يكن على رأسه من الشعر إلا ذلك القدر كان يتم تحلله بأخذه فكذلك إذا كان على رأسه من الشعر أكثر من ذلك يتم تحلله بأخذ ذلك المقدار والتقصير قائم مقام الحلق في حكم التحلل فإذا فعل ذلك في أحد جانبي رأسه أجزأه بمنزلة ما لو حلق نصف رأسه وكذلك أن فعله في أقل من النصف وكان بقدر الثلث أو الربع فكذلك يجزئه لأن كل حكم تعلق بالرأس فالربع منه ينزل منزلة الكمال كالمسح بالرأس ولكنه مسيء في الاكتفاء بهذا المقدار " لأن النبي - A - حلق جميع رأسه وأمرنا بالاقتداء " فما كان أقرب إلى موافقة فعله فهو أفضل ولأنه إنما يفعل هذا ضنة منه بشعره وفيما هو نسك تكره الضنة فيه بالمال والنفس فكيف بالشعر .
قال وإذا جاء يوم النحر وليس على رأسه شعر أجرى الموسى على رأسه تشبها بمن يحلق لأنه وسع مثله والتكليف بحسب الوسع ألا ترى أن الأخرس يؤمر بتحريك الشفتين عند التكبير والقراءة في الصلاة فينزل ذلك منه منزلة قراءة الناطق فهذا مثله .
قال وإن حلق رأسه بالنورة أجزأه لأن قضاء التفث فيه يحصل والموسى أحب إلى لأنه أقرب إلى موافقة فعل رسول الله - A .
قال وأكره له أن يؤخر الحلق حتى تذهب أيام النحر والحاصل أن عند " أبي حنيفة " - C تعالى - الحلق للتحلل في الحج مؤقت بالزمان وهو أيام النحر وبالمكان وهو الحرم وعلى قول " أبي يوسف " - C تعالى - لا يتوقت بالزمان ولا بالمكان وعند " محمد " - C تعالى - يتوقت بالمكان دون الزمان وعند " زفر " - C تعالى - يتوقت بالزمان دون المكان " فزفر " - C تعالى - يقول التحلل عن الإحرام معتبر بابتداء الإحرام وابتداء الإحرام مؤقت بالزمان غير مؤقت بالمكان حتى يكره له أن يحرم بالحج في غير أشهر الحج ولا يكره له أن يحرم بالحج في أي مكان شاء قبل أن يصل إلى الميقات فكذلك التحلل عنه بالحلق .
صفحة [ 71 ] يتوقت من حيث الزمان دون المكان حتى إذا أخره عن أيام النحر يلزمه الدم وإذا خرج من الحرم ثم حلق لا يلزمه شيء و " أبو حنيفة " - C تعالى - يقول : ما كان للتحلل في الحج يتوقت بالزمان والمكان جميعا كالطواف الذي يتم به التحلل لا يكون إلا في المسجد ويتوقت بأيام النحر فكما أنه لو أخر الطواف عن وقته يلزمه دم عند " أبي حنيفة " - C تعالى - فكذلك إذا أخر الحلق عن وقته وعلى هذا كان ينبغي أن لا يعتد بحلقه خارج الحرم كما لا يعتد بطوافه ولكن جعلناه معتدا به لأن محل فعله الرأس دون الحرم فيحصل به التحلل ولكنه جان بتأخيره عن مكانه فيلزمه دم بالتأخير عن المكان كما يلزمه بتأخيره عن وقته وهذا لأن الحلق لا يعقل فيه معنى القربة وإنما عرفناه قربة بفعل رسول الله - A - وهو ما حلق للحج إلا في الحرام يوم النحر فما وجد بهذه الصفة يكون قربة وما خالف هذا لا يتحقق فيه معنى القربة فيلزمه الجبر فيه بالدم . وعند " أبي يوسف " - C تعالى - الحلق الذي هو نسك في أوانه بمنزلة الحلق الذي هو جناية قبل أوانه فكما أن ذلك لا يختص بزمان ولا مكان فكذلك هذا لا يختص بزمان ولا مكان لأنه لو اختص بزمان ومكان لم يكن معتدا به في غير ذلك المكان ولا في غير ذلك الزمان كالوقوف بعرفة فسواء أخره عن أيام النحر أو خرج من الحرم فحلق لا يلزمه شيء " ومحمد " - C تعالى - يقول : تعلق المناسك بالمكان آكد من تعلقها بالزمان ألا ترى أن الطواف المختص بمكان لا يعتد به في غير ذلك المكان والمؤقت من الطواف بزمان يكون معتدا به في غير ذلك الزمان فعرفنا أن تعلقه بالمكان أشد فالحلق الذي هو مختص بالحرم بفعل النبي - A - إذا أتى به خارج الحرم يتمكن فيه النقصان فيلزمه الجبر بالدم وبتأخيره عن أيام النحر لا يتمكن فيه كثير نقصان فلا يلزمه الجبر بالدم فأما في العمرة فلا يتوقت الحلق بزمان حتى لو أخر الحلق فيه شهرا لا يلزمه شيء لأن أصل العمرة لا يتوقت بالزمان وما هو الركن وهو الطواف فيه أيضا لا يتوقت من حيث الزمان فكذلك الحلق فيه لا يتوقت بخلاف الحج ولكنه يتوقت بالحرم حتى لو حلق للعمرة خارج الحرم فعليه دم عند " أبي حنيفة " و " محمد " - رحمهما الله تعالى - كما في الحج وعند " أبي يوسف " - C تعالى - لا شيء عليه .
قال وليس على المحصر حلق إذا حل وإن حلق أو قصر فحسن وهذا قول " أبي حنيفة " و " محمد " - رحمهما الله تعالى - وقال " أبو يوسف " - C تعالى - أرى عليه الحلق وإن لم يفعل فلا شيء عليه واحتج " أبو يوسف " - C تعالى - بالحديث " فإن النبي - A .
صفحة [ 72 ] - أحصر بالحديبية مع أصحابه فأمرهم بالحلق بعد بلوغ الهدايا محلها وكره لهم تأخير ذلك حتى ذكر ذلك " لأم سلمة " - رضي الله تعالى عنها - فقالت : ابدأ بنفسك يا رسول الله فإنهم يظنون أن في نفسك رجاء الوصول إلى البيت للحال فحلق رسول الله - A - رأسه " فلما رأوا ذلك منه بادروا إلى الحلق ولأنه لو لم يحصر لكان يتحلل بالحلق عند أداء الأعمال فكذلك بعد الإحصار ينبغي أن يتحلل بالحلق لقدرته على أن يأتي به وإن عجز عن سائر الأفعال " وأبو حنيفة " و " محمد " - رحمهما الله تعالى - قالا : الحلق إنما يكون نسكا بعد أداء الأفعال فأما قبل أداء الأفعال فهو جناية فإذا تحقق عجزه عن ترتيب الحلق على سائر الأفعال لا يلزمه أن يأتي به وإنما تحلله بالهدي هنا والدليل عليه أن الله تعالى نهى المحصر عن الحلق حتى يبلغ الهدي محله بقوله تعالى { " ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدى محله " } البقرة : 196 فذلك دليل الإباحة بعد بلوغ الهدي محله لا دليل الوجوب فأما حلق رسول الله - A - بالحديبية فقد ذكر " أبو بكر الرازي " أن عند " أبي حنيفة " و " محمد " - رحمهما الله تعالى - إنما لا يحلق المحصر إذا أحصر في الحل أما إذا أحصر في الحرم يحلق لأن الحلق عندهما مؤقت بالحرم ورسول الله - A - إنما كان محصرا بالحديبية وبعض الحديبية من الحرم على ما روي أن مضارب رسول الله - A - كانت في الحل ومصلاه في الحرم فإنما حلق في الحرم وبه نقول على أن رسول الله - A - إنما أمرهم بالحلق ليحقق به عزمهم على الانصراف ويأمن المشركون من جانبهم ولا يشتغلون بمكيدة أخرى بعد الصلح .
قال وليس على الحاج إذا قصر أن يأخذ شيئا من لحيته أو شاربه أو أظفاره أو يتنور لأن التقصير قائم مقام الحلق ولو أراد الحلق لم يكن عليه ذلك في لحيته ولا في شاربه فكذلك التقصير وإن فعل لم يضره لأنه جاء أوان التحلل وهذا كله مما يحصل به التحلل لأنه من جملة قضاء التفث .
قال وإن حلق المحرم رأس حلال تصدق بشيء عندنا وقال " الشافعي " - Bه - لا شيء عليه لأن المحرم ممنوع عن أزالة ما ينمو من البدن عن نفسه لما فيه من معنى الراحة والزينة له ولا يحصل شيء من ذلك بحلقرأس يحصل به تحلل لأنه من جملة قضاء التفث قال وإن حلق المحرم رأس الحلال فلا يلزمه به شيء ألا ترى أن الحلال لو حلق بنفسه لم يلزمه شيء ولكنا نقول أن إزالة ما ينمو من بدن الآدمي من محظورات الإحرام فيكون المحرم ممنوعا عن مباشرة ذلك من بدن غيره كما يكون ممنوعا من مباشرته في نفسه بمنزلة قتل الصيد فإنه جان في قتل صيد غيره كما يكون جانيا .
صفحة [ 73 ] في قتل صيد نفسه إلا أن كمال جنايته بانضمام معنى الراحة والزينة إلى فعله فإذا فعل ذلك في نفسه تكاملت جنايته فلزمه الدم وإذا فعله بغيره لا تتكامل جنايته فتكفيه الصدقة .
قال وإذا حلق المحرم رأس محرم آخر فإن فعله بأمره فعلى المحلوق دم لأن فعل الغير بأمره كفعله بنفسه ومعنى الراحة والزينة له متحقق فيلزمه دم وعلى الحالق رأسه صدقة لما بينا أنه جان في أصل فعله وإن حلق بغير أمره بأن كان المحرم نائما فجاء وحلق رأسه أو أكرهه على ذلك فعلى المحلوق رأسه دم عندنا ولا شيء عليه عند " الشافعي " - C تعالى - بناء على أصله أن الإكراه يخرج المكره من أن يكون مؤاخذا بحكم الفعل والنوم أبلغ من الإكراه لأن الإكراه يفسد قصده وبالنوم ينعدم القصد أصلا وعندنا بسبب الإكراه والنوم ينتفي عنه الإثم ولكن لا ينتفي حكم الفعل إذا تقرر سببه والسبب هنا ما نال من الراحة والزينة بإزالة التفث عن بدنه وذلك حصل له فيلزمه الدم ولا يتخير هنا بين أجناس الكفارات الثلاث بخلاف المضطر لأن هناك العذر سماوي وجد ممن له الحق وهنا العذر كان بسبب وجد من جهة العباد فيؤثر في إسقاط الذنب ولا يخرج به الدم من أن يكون متعينا عليه ثم لا يرجع المحلوق رأسه بهذا الدم على الحالق وقال بعض العلماء يرجع به لأنه هو الذي أوقعه في هذه العهدة وألزمه هذا الغرم ولكنا نقول إنما لزمه ذلك لمعنى الراحة والزينة وهو حاصل له فلا يرجع به على غيره كما لا يرجع المغرور بالعقر لأنه بمقابلة اللذة الحاصلة له بالوطء والجواب في قص الأظفار هنا كالجواب في الحلق .
قال وإذا أخذ المحرم من شاربه أو من رأسه شيئا أو مس من لحيته فانتثر منها شعر فعليه في ذلك كله صدقة لوجود أصل الجناية بما أزاله من بدنه ولكن لم تتم جنايته حين فعله لأنه لم يكن مقصودا لتحصيل الراحة والزينة فتكفيه الصدقة .
قال وإن أخذ ثلث رأسه أو ثلث لحيته فعليه دم ولم يذكر الربع في الكتاب والجواب في الربع كذلك لما بينا أن ما يتعلق بالرأس فالربع فيه بمنزلة الكمال كما في الحلق عند التحلل وهذا لأن حلق بعض الرأس لمعنى الراحة والزينة معتاد فإن الأتراك يحلقون أوساط رؤوسهم وبعض العلوية يحلقون نواصيهم لابتغاء الراحة والزينة فتتكامل الجناية بهذا المقدار والجناية المتكاملة توجب الجبر بالدم ثم الأصل بعد هذا أنه متى حلق عضوا مقصودا بالحلق من بدنه قبل أوان التحلل فعليه دم وإن حلق ما ليس بمقصود فعليه الصدقة ومما ليس بمقصود حلق شعر الصدر أو الساق ومما هو مقصود حلق الرأس أو الإبطين .
صفحة [ 74 ] فإن حلق أحدهما أو نتف أو طلى بنورة فعليه الدم أيضا لأن كل واحد منهما مقصود بالحلق لمعنى الراحة وفيما ذكر إشارة إلى أن السنة في الإبطين النتف دون الحلق فإنه قال نتف إبطيه أو أحدهما ولم يذكر الحلق فإن حلق موضع المحاجم فعليه دم في قول " أبي حنيفة " - C تعالى - وفي قولهما عليه صدقة : لأن ذلك الموضع غير مقصود بالحلق وإنما يحلق للتمكن من الحجامة فهو بمنزلة حلق شعر الصدر والساق و " صح في الحديث أن النبي - A - احتجم وهو محرم وما كان يرتكب في إحرامه الجناية المتكاملة " و " أبو حنيفة " - C تعالى - يقول : إنه حلق مقصود لأنه لا يتوصل إلى المقصود إلا به وما لا يتوصل إلى المقصود إلا به يكون مقصودا فتتكامل الجناية ولم ينقل أن النبي - A - حلق موضع المحاجم إنما نقل عنه الحجامة وليس من ضرورته الحلق فإن الحجام إذا كان حاذقا يشرط طولا فلا يحتاج إلى الحلق وكذلك إذا لم يكن المحجوم أشعر البدن ولم ينقل في صفة رسول الله - A - أنه أشعر البدن والدليل عليه أنه كان يتحرز عن الجناية الموجبة للصدقة كما كان يتحرز عن الجناية الموجبة للدم وعندهما هذه جناية موجبة للصدقة .
قال فإن حلق الرقبة كلها فعليه دم لأنه حلق مقصود للراحة والزينة فإن العلوية يفعلون ذلك ولم يذكر في الكتاب ما إذا حلق شاربه إنما ذكر إذا أخذ من شاربه فعليه الصدقة فمن أصحابنا من يقول إذا حلق شاربه يلزمه الدم لأنه مقصود بالحلق يفعله الصوفية وغيرهم والأصح أنه لا يلزمه الدم لأنه طرف من أطراف اللحية وهو مع اللحية كعضو واحد وإن كانت السنة قص الشارب وإعفاء اللحى وإذا كان الكل عضوا واحدا لا يجب بما دون الربع منه الدم والشارب دون الربع من اللحية فتكفيه الصدقة في حلقه .
قال وعلى القارن في ذلك كله كفارتان لأنه محرم بإحرامين ففعله جناية على كل واحد منهما فيلزمه جزآن عندنا على ما نبينه في باب جزاء الصيد إن شاء الله تعالى .
قال وإن أصاب المحرم أذى في رأسه فحلق قبل يوم النحر فعليه أي الكفارات الثلاث شاء والأصل " حديث " كعب ابن عجرة " - Bه - قال مر بي رسول الله - A - والقمل يتهافت على وجهي وأنا أوقد تحت قدر لي فقال أتؤذيك هوام رأسك فقلت نعم فأنزل الله D قوله : { " ففدية من صيام أو صدقة أو نسك " } فقلت ما الصيام يا رسول الله فقال ثلاثة أيام فقلت وما الصدقة قال ثلاثة آصع من حنطة على ستة مساكين فقلت وما النسك قال شاة " وفي الآية دليل .
( يتبع . . . )