( تابع . . . 1 ) : قال الشيخ الإمام شمس الأئمة " أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي .
قال : وإن قال لله علي أن أصوم شهرا متتابعا فأفطر يوما في الشهر استقبل الشهر من أوله لأن ما يوجبه على نفسه معتبر بما أوجب الله تعالى عليه وما أوجب الله تعالى عليه من الصوم متتابعا إذا أفطر فيه يوما لزمه الاستقبال كصوم الظهار والقتل فكذلك ما يوجبه على نفسه بخلاف ما إذا أطلق النذر بالصوم فإن ما أوجب الله تعالى عليه من الصوم مطلقا وهو قضاء رمضان إذا أفطر فيه يوما لا يلزمه الاستقبال فكذلك ما يوجبه على نفسه .
قال : ولو قال لله علي أن أصوم رجب متتابعا فأفطر فيه يوما فعليه قضاء ذلك اليوم وحده لأن ما يوجبه على نفسه من الصوم في وقت بعينه معتبر بما أوجب الله عليه من الصوم في وقت بعينه وهو صوم رمضان وهذا لأن ذكر التتابع في شهر بعينه غير معتبر لأن المعين لا يعرف إلا بصفته وإنما ذكر الصفة لتعريف ما ليس بمعين فيعتبر ذلك عند إطلاق لفظ الشهر ولا يعتبر عند التعيين ولأن أيام الشهر المعين تكون متجاورة لا متتابعة فذكر التتابع .
صفحة [ 134 ] في الشهر المعين وجوده كعدمه . وكذلك لو قال لله علي أن أصوم شهرا وهو يعني رجب بعينه لأن المنوي من محتملات لفظه فيجعل كالمصرح به .
وفي الكتاب أشار إلى فرق آخر فقال في الشهر المعين إذا أفطر يوما فقد عجز عن أداء الصوم على الوجه الذي التزمه لأنه لو استقبل الصوم لم يكن مؤديا في ذلك الوقت الذي أوجبه على نفسه وعند إطلاق الشهر بعدما أفطر يوما هو قادر على أن يصوم شهرا متتباعا كما التزمه فلهذا أوجبنا عليه الاستقبال .
قال : وإن أراد بقوله لله علي يمينا كفر عن يمينه مع قضاء ذلك اليوم في الشهر المعين لأن المنوي من محتملات لفظه فإن في النذر معنى اليمين " قال A النذر يمين وكفارته كفارة اليمين " وقد حنث حين أفطر يوما فعليه الكفارة والقضاء لأن ظاهر كلامه نذر وهذا قول " أبي حنيفة " و " محمد " رحمهما الله تعالى .
وأما عند " أبي يوسف " C تعالى إن أراد به اليمين فعليه الكفارة دون القضاء وإن أراد النذر أو أرادهما فعليه القضاء دون الكفارة لأن لفظه للنذر حقيقة ولليمين مجازا ولا يجمع بين الحقيقة والمجاز في لفظ واحد .
ولكنا نقول قوله لله علي يمين فإن اللام والباء يتعاقبان قال الله : { " آمنتم به " } الأعراف : 123 وفي موضع آخر قال : { " آمنتم له " } طه : 71 فقوله لله بمنزلة قوله بالله .
وقال " ابن عباس " Bه دخل آدم الجنة فلله ما غربت الشمس حتى خرج معناه بالله وقوله علي نذر فإنما أثبتنا كل واحد من الحكمين بلفظ آخر ثم الحالف يلتزم البر حقا لله تعالى والناذر يلتزم الوفاء حقا لله تعالى فكان اللفظ محتملا لكل واحد منهما لا أن يكون حقيقة لأحدهما مجازا للآخر فيكون بمنزلة اللفظ العام إلا أن عند الاطلاق يحمل على النذر لغلبة الاستعمال فإذا نوى اليمين مع ذلك كان اللفظ متناولا لهما بمنزلة اللفظ العام في كونه متناولا لجميع محتملاته .
قال : ولو قال لله علي صوم يوم فأصبح من الغد لا ينوي صوما فلم تزل الشمس حتى نوى أن يصومه عن نذره لم يجزه ذلك بخلاف ما إذا قال لله علي صوم غد لأن ما يوجبه على نفسه في الوجهين معتبر بما أوجب الله تعالى عليه من الصوم في وقت بعينه وهو صوم رمضان يتأدى بالنية قبل الزوال وما كان في وقت بغير عينه لا يتأدى إلا بنية من الليل نحو قضاء رمضان فكذلك ما يوجب على نفسه في الوجهين وهذا لمعنيين : .
أحدهما : أن عند تعيين اليوم إمساكه في أول النهار يتوقف على الصوم المنذور عند وجود النية فإذا وجدت النية قبل الزوال استندت إلى أول النهار لتوقف الإمساك عليه وذلك لا يوجد فيما إذا أطلق النذر .
والثاني : أن في النذر المعين إذا ترك النية من الليل فقد تحقق عجزه .
صفحة [ 135 ] عن أدائه بصفة الكمال كما التزمه فجوزناه بضرب نقصان بطريق إقامة النية في أكثر النهار مقام النية في جميع النهار لأجل العجز وذلك لا يوجد فيما إذا لم يعين الوقت فإنه قادر على أن يصوم يوما آخر بصفة الكمال كما التزمه .
ثم هنا ذكر النية قبل الزوال وفي كتاب الصوم قبل انتصاف النهار وهو الصحيح لأن الشرط وجود النية في أكثر وقت الصوم وذلك لا يوجد إذا نوى قبل الزوال لأن ساعة الزوال نصف النهار من طلوع الشمس ووقت الصوم من طلوع الفجر فإنما يشترط وجود النية في وقت الضحوة على وجه تكون النية موجودة في أكثر وقت الصوم فإذا نوى بالنهار في النذر المطلق لم يجزه عن المنذور وكان صائما عن التطوع والمستحب له أن يتمه .
فإن أفطر فلا قضاء عليه عندنا .
وقال " زفر " C تعالى عليه القضاء .
وأصل المسألة فيما إذا شرع في الصوم على ظن أنه عليه ثم تبين أنه ليس عليه وقد بينا ذلك في كتاب الصوم وإنما شبهنا هذه المسألة بتلك المسألة لأن في الموضعين جميعا إنما قصد اسقاط الواجب عن نفسه وما قصد التنقل بالصوم وإنما جعل شارعا في النفل من غير قصده على سبيل النظر له لكيلا يضيع سعيه لا على سبيل الإيجاب عليه فإذا أفطر لم يلزمه القضاء .
قال : ولو قال لله علي أن أصوم غدا ثم أصبح فنوى أن يصوم تطوعا فإنه يكون صومه مما أوجبه على نفسه بخلاف ما إذا أطلق النذر وهذا للأصل الذي بيناه أن ما أوجب الله في وقت بعينه وهو صوم رمضان يتأدى بمطلق النية وبينة النفل وما أوجب الله تعالى عليه من الصوم في وقت بغير عينه لا يتأدى إلا بتعيين النية فكذلك ما أوجبه على نفسه وهذا لأن الناذر لا يجعل بنذره ما ليس بمشروع مشروعا ولكن يجعل ما كان مشروعا نفلا في الوقت واجبا على نفسه ففي النذر المعين إنما التزم الصوم المشروع في هذا الزمان وقد أصابه بمطلق النية وبينة النفل ألا ترى أنه قبل النذر كان مصيبا له بهذه النية فكذلك بعد النذر وعند إطلاق النذر الواجب في ذمته والمشروع في هذا اليوم غير متعين لما هو الواجب في ذمته فإنما يكون بمطلق النية وبنية النفل مصيبا للمشروع في هذا الوقت وهو التطوع فلا يكون محولا عن ذمته ما التزمه فيها إلى المشروع في هذا الوقت بدون تعيين النية .
قال : ولو قال لله علي أن أصوم رجب ثم ظاهر من امرأته فصام شهرين متتابعين أحدهما رجب اجزآه من الظهار كما نواه وعليه قضاء المنذور بخلاف ما إذا صام عن ظهاره شهرين أحدهما رمضان وهو مقيم فإن صومه .
صفحة [ 136 ] يكون عن فرض رمضان وأشار إلى الفرق بينهما في الكتاب فقال : .
وذكر الفقيه " أبو جعفر " أن المذهب عند " أبي حنيفة " Bه أنها تكون في شهر رمضان ولكنها تتقدم وتتأخر .
وعلى قول " أبي يوسف " و " محمد " رحمهما الله تعالى تكون في شهر رمضان لا تتقدم ولا تتأخر .
وذكر الفقيه " أبو جعفر " أن المذهب عند " أبي حنيفة " Bه أنها تكون في شهر رمضان ولكنها تتقدم وتتأخر .
لأن صوم الظهار مثل صوم المنذور من حيث إن كل واحد منهما وجب بسبب من جهته فعن أيهما نواه كان عن ذلك وأما صوم رمضان أقوى من صوم الظهار لأنه واجب بإيجاب الله تعالى ابتداء وصوم الظهار إنما وجب بسبب من جهة العبد والضعيف لا يظهر في مقابلة القوى فلهذا كان صومه عن فرض رمضان على كل حال .
ولكن هذا ليس بقوي فإنه لا مساواة بين صوم الظهار وصوم المنذور لأن المنذور هو المشروع في رجب نفسه وصوم الظهار واجب في ذمته فينبغي أن يترجح المنذور باعتبار السبق لأن صوم الظهار إنما يتحول من ذمته إلى المشروع في الوقت بنيته وقد كان النذر سابقا على هذه النية ولأن المشروع في الوقت لما صار واجبا عليه بنذره لا يبقى صالحا لصوم الظهار لأن ما في ذمته إنما يتأدى بما كان مشروعا في الوقت له لا عليه فالفرق الصحيح بينهما أن قبل نذره كان الصوم المشروع في رجب صالحا لأداء صوم الظهار فلا يتغير ذلك بنذره لأنه يوجب على نفسه بنذره ما لم يكن واجبا عليه ولكن لا ينفي صلاحيته لغيره إذ ليس ذلك تحت ولاية العبد فإذا بقي بعد نذره صالحا لأداء صوم الظهار به تأدى بنيته وأما صوم رمضان فقد جعله الشرع فرضا عليه ومن ضرورته أن لا ينفي صالحا لأداء صوم الظهار به وللشرع هذه الولاية فإذا لم يبق صالحا لأداء صوم الظهار به تلغو نيته عن الظهار به وانتفاء الصلاحية من ضرورة وجوب الأداء عن فرض رمضان حتى أن في حق المسافر لما لم يكن الأداء في الشهر واجبا عليه فإذا نواه عن الظهار كان عن الظهار في قول " أبي حنيفة " C تعالى ومسألة النذر بمنزلة المسافر في صوم رمضان ثم في مسألة النذر إذا كان نوى اليمين لم تلزمه الكفارة لأن شرط بره أن يكون صائما في رجب لا أن يكون صومه عن المنذور وقد وجد ذلك وإن صامه عن الظهار .
قال : والمجنونة والنائمة إذا جامعهما زوجهما وهما صائمتان في رمضان فعليهما القضاء دون الكفارة لأن وجوب الكفارة يستدعي جناية متكاملة فإنها ستارة للذنب ولم يوجد ذلك في حقهما ووجوب القضاء لانعدام أداء الصوم في الوقت وقد وجد ذلك في حقهما فإن الصوم لا يتأدى مع فوات ركنه وقد انعدم ركن الصوم في حقهما مع قيام العذر وقد بينا خلاف " زفر " C تعالى في هذه المسألة في كتاب الصوم .
قال هنا : ألا ترى أنهما لو قتلا رجلا خطأ لم يكن عليهما في ذلك كفارة ولا تحرمان الميراث .
قال رحمه .
صفحة [ 137 ] الله تعالى : وهذا صحيح في حق المجنونة غلط في حق النائمة فالرواية محفوظة أن النائم إذا انقلب على مورثه فقتله تلزمه الكفارة ويحرم الميراث ثم هذا الاستشهاد ضعيف فإن كفارة القتل لا تستدعي جناية متكاملة ولهذا تجب على الخاطئ بخلاف كفارة الفطر .
قال : وإذا خاف الرجل وهو صائم إن هو لم يفطر تزداد عينه وجعا أو تزداد حماه شدة فينبغي أن يفطر لأن الله تعالى رخص للمريض في الفطر بقوله : { " فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر " } البقرة : 184 وهذا مريض لأن وجع العين نوع مرض والحمى كذلك ثم إن الله تعالى بين المعنى فيه فقال " : { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر " } البقرة : 185 وفي إيجاب أداء الصوم مع هذا الخوف عسر فينبغي له أن يأخذ باليسر فيه ويترخص بالفطر " " قال A إن الله تعالى يحب أن تؤتى رخصه كما تؤتى عزائمه " .
وقال " أبو يوسف " C تعالى : كل من كان له أن يفطر في يوم فأفطر فيه بعد ما صام فلا كفارة عليه وهذا قول أصحابنا جميعا لأن صوم اليوم الواحد لا يتجزأ وجوبا كما لا يتجزأ أداء فإذا لم يكن الأداء واجبا في جزء من النهار لا تتكامل الجناية بالفطر فيه ولأن الكفارة في رمضان تسقط بالشبهة ولهذا لا تجب على المتسحر الذي لا يعلم بطلوع الفجر وعلى المفطر الذي يرى أن الشمس قد غابت ولم تغب وإباحة الفطر له في جزء من اليوم يكون شبهة قوية في المحل فإنه ينعدم بها استحقاق الأداء ولا شبهة أقوى من ذلك والشبهة في المحل مسقطة للكفارة سواء علم بها أو لم يعلم . ألا ترى أن من وطئ جارية ابنه لا يلزمه الحد سواء علم بالحرمة أو لم يعلم لشبهة في المحل باعتبار أن مال الولد مضاف إلى والده شرعا .
وبيان هذا الأصل : أنه إذا أصبح مريضا أو مسافرا في أول النهار ونوى الصوم ثم برئ من مرضه أو صار مقيما ثم أفطر فلا كفارة عليه لأنه كان له أن يفطر في أول النهار وكذلك لو كان صحيحا مقيما في أول النهار ثم مرض في آخره فأفطر لأنه لما عجز عن الصوم بسبب المرض صار الفطر مباحا له ولو سافر في آخر النهار ثم أفطر لم يكن عليه الكفارة لا لأن الفطر صار مباحا له فإنه إذا شرع في الصوم وهو مقيم ثم سافر لا يباح له الفطر ولكن لأن السفر في الأصل مبيح للفطر فإذا اقترن بالسبب الموجب للكفارة يكون مورثا شبهة مسقطة للكفارة وإن لم يصر الفطر مباحا له بمنزلة النكاح الفاسد يكون مسقطا للحد وإن لم يكن مبيحا للوطء .
وخرج على هذا الأصل ما إذا أصبحت المرأة صائمة ثم أفطرت ثم حاضت أو أصبح الرجل صائما ثم أفطر ثم مرض وقد بينا هذه .
صفحة [ 138 ] المسائل في كتاب الصوم والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب