قال الشيخ الإمام شمس الأئمة " أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي " إملاء : اعلم بأن موجب النذر الوفاء قال الله تعالى : " وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم " } النحل : 9 والناذر معاهد لله تعالى بنذره فعليه الوفاء بذلك وقد ذم الله تعالى قوما تركوا الوفاء بالنذر فقال تعالى : " ومنهم من عاهد الله " } التوبة : 75 الآية وإنما يذم المرء بترك الواجب ومدح قوما بالوفاء بالنذر فقال تعالى : " يوفون بالنذر ويخافون " الآية ثم النذر إنما يصح بما يكون قربة مقصودة فأما ما ليس بقربة مقصودة فإنه لا يصح التزامه بالنذر " لقوله A من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه " ولأن الناذر لا يجعل ما ليس بعبادة عبادة وإنما يجعل العبادة المشروعة نفلا واجبا بنذره وما فيه معنى القربة ولكن ليس بعبادة مقصودة بنفسها كتشييع الجنازة وعيادة المريض لا يصح التزامه بالنذر إلا في رواية " الحسن بن أبي مالك " عن " أبي يوسف " عن " أبي حنيفة " رحمهم الله قال : إن نذر أن يعود مريضا اليوم صح نذره وإن نذر أن .
صفحة [ 129 ] يعود فلانا لا يلزمه شيء لأن عيادة المريض قربة شرعا " قال A عائد المريض يمشي على محارف الجنة حتى يرجع " وعيادة فلان بعينه لا يكون معنى القربة فيها مقصودا للناذر بل معنى مراعاة حق فلان فلا يصح التزامه بالنذر .
وفي ظاهر الرواية قال عيادة المريض وتشييع الجنازة وإن كان فيه معنى حق الله تعالى فالمقصود حق المريض والميت والناذر إنما يلتزم بنذره ما يكون مشروعا حقا لله تعالى مقصودا .
إذا عرفنا هذا فنقول النذر إما أن يكون بالصدقة أو بالصوم أو الصلاة أو الاعتكاف فنبدأ بالنذر بالصدقة فنقول : .
إما أن يعين الوقت بنذره فيقول لله علي أن أتصدق بدرهم غدا أو يعين المكان فيقول في مكان كذا أو يعين المتصدق عليه فيقول على فلان المسكين أو يعين الدرهم فيقول لله علي أن أتصدق بهذا الدرهم وفي الوجوه كلها يلزمه التصدق بالمنذور عندنا ويلغو اعتبار ذلك التقييد حتى لو تصدق به قبل مجيء ذلك الوقت أو في غير ذلك المكان أو على غير ذلك المسكين أو بدرهم غير الذي عينه خرج عن موجب نذره .
وعلى قول " زفر " لا يخرج عن موجب نذره إلا بالأداء كما التزمه .
قال : لأن في ألفاظ العباد يعتبر اللفظ ولا يعتبر المعنى ألا ترى أن من قال لغيره طلق امرأتي للسنة فطلقها لغير السنة لم يقع ولو أمره أن يتصدق بدرهم على فلان الفقير فتصدق على غيره كان مخالفا وهذا لأن أوامر العباد قد تكون خالية عن فائدة حميدة فلا يمكن اعتبار المعنى فيها وإنما يعتبر اللفظ فلا يحصل الوفاء إلا بالتصدق على الوجه الذي التزمه .
وعلماؤنا رحمهم الله قالوا ما يوجبه المرء على نفسه معتبر بما أوجب الله تعالى عليه ألا ترى أن ما لله تعالى من جنسه واجبا على عباده صح التزامه بالنذر وما ليس لله تعالى من جنسه واجبا على عباده لا يصح التزامه بالنذر ثم ما أوجب الله تعالى من التصدق بالمال مضافا إلى وقت يجوز تعجيله قبل ذلك الوقت كالزكاة بعد كمال النصاب قبل حولان الحول وصدقة الفطر قبل مجيء يوم الفطر فكذلك ما يوجبه العبد على نفسه وهذا لأن صحة النذر باعتبار معنى القربة وذلك في التزام الصدقة لا في تعيين المكان والزمان والمسكين والدرهم وإنما يعتبر من التعيين ما يكون مفيدا فيما هو المقصود لا ما ليس بمفيد ومعنى العبادة في التصدق باعتبار سد خلة المحتاج إذا أخرج المتصدق ما يجري فيه الشح والضنة عن ملكه ابتغاء مرضاة الله تعالى وهذا المعنى حاصل بدون مراعاة تعيين المكان والزمان . وبهذا يتبين الجواب عما اعتمد عليه من اعتبار اللفظ فإن صحة النذر لم تكن باعتبار اللفظ .
صفحة [ 130 ] بل باعتبار معنى القربة كما بينا وبه فارق الوصية فإن صحة الوصية لم يكن باعتبار معنى القربة فلهذا اعتبرنا تعيين المصروف إليه فصار فلان موصى له بما سمى فإذا دفعه إلى غيره كان مخالفا أمر الموصي .
وهذا بخلاف ما إذا قال : إذا قدم فلان فلله علي أن أتصدق بدرهم فتصدق به قبل قدوم فلان لم يجزه وكذلك لو قال إذا جاء غد لأن هناك علق النذر بالشرط والمعلق بالشرط معدوم قبل وجود الشرط وإنما يجوز الأداء بعد وجود السبب والسبب هو النذر فإذا علقه بالشرط كان معدوما قبله وهنا أضاف النذر إلى وقت والإضافة إلى وقت لا يخرجه من أن يكون سببا في الحال فيجوز التعجيل بمنزلة أداء الزكاة قبل كمال الحول .
وعلى قول " الشافعي " Bه يجوز التعجيل قبل قدوم فلان بناء على مذهبه في جواز التكفير بالمال بعد اليمين قبل الحنث وقد بينا المسألة في كتاب الأيمان .
وأما النذر بالعبادات البدنية فإما أن يضيفه إلى مكان أو زمان .
أما إذا أضافه إلى زمان بأن قال لله علي أن أصوم رجب فصام شهرا قبله أجزأه عن المنذور في قول " أبي يوسف " وهو رواية " الحسن بن زياد " عن " أبي حنيفة " رحمهما الله تعالى .
وفي قول " محمد " و " زفر " : لا يجزئه .
وكذلك لو قال لله علي أن أعتكف رجب فاعتكف شهرا قبله أو قال لله علي أن أصلي ركعتين غدا فصلى اليوم فهو على هذا الخلاف .
وجه قول " محمد " و " زفر " رحمهما الله : أن ما يوجبه العبد على نفسه معتبر بما أوجب الله تعالى عليه وما أوجب الله تعالى عليه من الصوم في وقت بعينه لا يجوز تعجيله على ذلك الوقت كصوم رمضان وكذلك ما أوجب الله تعالى عليه من الصلاة في وقت بعينه كصلاة الظهر لا يجوز تعجيلها قبل الزوال فكذلك ما يوجبه على نفسه وبه فارق الصدقة ولأن بالنذر بالصوم جعل ما هو المشروع في الوقت نفلا واجبا بنذره ولهذا لا يصح إضافة النذر بالصوم إلى الليل لأن الصوم غير مشروع فيه نفلا والمشروع من الصوم في وقت غير المشروع في وقت آخر ونذره تعلق بالصوم المشروع في الوقت المضاف إليه حتى يتأدى فيه بمطلق النية وبالنية قبل الزوال ولو لم يتعين صوم ذلك الوقت بنذره لما تأدى إلا بالنية من الليل كما لو أطلق النذر بالصوم .
وجه قول " أبي حنيفة " و " أبي يوسف " رحمهما الله تعالى : أن الناذر يلتزم بنذره الصوم دون الوقت لأن معنى القربة في الصوم باعتبار أنه عمل بخلاف هوى النفس وإنما يلزم بالنذر ما هو قربة وتعيين الوقت غير مفيد في هذا المعنى فلا يكون معتبرا كما في الصدقة .
ولا يقال الصوم في بعض الأوقات قد يكون أعظم في الثواب كما ورد به الأثر في صوم الأيام البيض وفي صوم بعض الشهور .
صفحة [ 131 ] والأيام لأن بالإجماع النذر لا يتقيد بالفضيلة التي في الوقت المضاف إليه حتى لو نذر أن يصوم يوم عرفة أو يوم عاشوراء فصام بعد مضي ذلك اليوم يوما دونه في الفضيلة فإنه يخرج عن موجب نذره وهذا بخلاف صوم رمضان وصلاة الظهر لأن الشرع جعل شهود الشهر سببا لوجوب الصوم قال الله تعالى : { " فمن شهد منكم الشهر فليصمه " } البقرة : 185 ومثل هذا لبيان السبب كما " قال النبي A من بدل دينه فاقتلوه و من ملك ذا رحم محرم فهو حر " وكذلك الشرع جعل زوال الشمس سببا لوجوب صلاة الظهر قال الله تعالى : { " أقم الصلاة لدلوك الشمس " } الإسراء : 78 فإذا أدى قبل ذلك الوقت كان مؤديا قبل وجود سبب الوجوب فلهذا لا يجوز أما هنا الناذر لم يجعل الوقت بنذره سببا للوجوب لأنه ليس للعباد ولاية نصب الأسباب فيكون السبب متقررا قبل مجيء الوقت المضاف إليه وإن كان وجوب الأداء متأخرا فلهذا جاز التعجيل وهو نظير المسافر في شهر رمضان إذا صام كان مؤديا للفرض وإن كان وجوب الأداء متأخرا في حقه إلى عدة من أيام أخر .
والحرف الثاني : أنه أدى العبادة بعد وجود سبب وجوبها قبل وجوبها فيجوز كما لو كفر بعد الجرح قبل زهوق الروح في قتل المسلم أو في قتل الصيد وبيان الوصف أن هذه عبادة تضاف إلى النذر لا إلى الوقت يقال صوم النذر والواجبات تضاف إلى أسبابها والإضافة إلى وقت لا يمنع كونه نذرا في الحال بدليل أن التعجيل في النذر بالصدقة يجوز بالاتفاق وما لم يوجد السبب لا يجوز الأداء هناك كما لو علق النذر بالشرط وبعد وجود السبب يجوز التعجيل ماليا كان أو بدنيا كما في كفارة القتل وكما لو صام المسافر في شهر رمضان يجوز لوجود السبب وهو شهود الشهر .
فإذا ثبت هنا أن السبب وهو النذر متقرر قلنا يجوز تعجيل الأداء وفي جواز التعجيل هنا منفعة للناذر فربما لا يقدر على الأداء في الوقت المضاف إليه لمرض أو غيره وربما تخترمه المنية قبل مجيء ذلك الوقت إلا أنه بالإضافة إلى ذلك الوقت قصد التخفيف على نفسه حتى لو مات قبل مجيء ذلك الوقت لا يلزمه شيء فأعطيناه مقصوده واعتبرنا تعيينه في هذا الحكم وجوزنا التعجيل لتوفير المنفعة عليه كما في الصدقة إذا عين الدراهم فهلكت تلك الدراهم لم يلزمه شيء ولو تصدق بمثلها وأمسكها خرج عن موجب نذره .
وإذا ثبت اعتبار التعيين من هذا الوجه قلنا يجوز الأداء بمطلق النية وبالنية قبل الزوال لأن تعيينه معتبر فيما يرجع إلى النظر له وفي التأدي بمطلق النية قبل الزوال معنى النظر له فاعتبرنا تعيينه في هذا الحكم .
وأما إذا عين .
صفحة [ 132 ] المكان بأن قال لله علي أن أصوم شهرا بمكة أو أعتكف فصام أو اعتكف في غير ذلك المكان خرج عن موجب نذره عندنا .
وقال " زفر " : لا يخرج عن موجب نذره .
وكذلك لو قال لله علي أن أصلي ركعتين بمكة فصلاهما هنا أجزأه عندنا .
خلافا " لزفر " والأصل عنده أنه لا يخرج عن موجب نذره إلا بالأداء في المكان الذي عينه أو في مكان هو أعلى من المكان الذي عينه .
وأفضل البقاع لأداء الصلاة فيها المسجد الحرام ثم مسجد رسول الله A بالمدينة ثم مسجد بيت المقدس على ما " روي عن النبي A قال صلاة في مسجد بيت المقدس تعدل ألف صلاة فيما سواه من المساجد سوى المسجد الحرام ومسجدي هذا وصلاة في مسجدي هذا تعدل ألف صلاة في مسجد " بيت المقدس " وصلاة في المسجد الحرام تعدل ألف صلاة في مسجدي هذا " .
فإذا نذر أن يصلي في المسجد الحرام ركعتين لا يجوز أداؤهما إلا في ذلك الموضع عنده وإن نذر أن يصلي ركعتين في مسجد رسول الله A لا يجوز أداؤهما إلا في مسجد رسول الله A أو في المسجد الحرام وإذا نذر الصلاة في مسجد " بيت المقدس " لا يجوز أداؤها إلا في أحد هذه المساجد الثلاثة ولا يجوز أداؤها في غير هذه المساجد في سائر البلاد .
وإذا نذر الصلاة في المسجد الجامع لا يجوز أداؤها في مسجد المحلة وإذا نذر الصلاة في مسجد المحلة يجوز أداؤها في المسجد الجامع ولا يجوز أداؤها في بيته واعتمد في ذلك ما " روي أن " عائشة " رضي الله تعالى عنها قالت لرسول الله A إني نذرت إن فتح الله عليك مكة أن أصلي ركعتين في البيت فأخذ رسول الله A بيدها وأدخلها الحطيم وقال صلي ههنا فإن الحطيم من البيت " الحديث فهذا دليل اعتبار تعيينه المكان في النذر بالصلاة و " جاء رجل إلى رسول الله A فقال إني نذرت أن أصلي ركعتين في مسجد بيت المقدس فقال من صلى في مسجدي هذا فكأنما صلى في بيت المقدس " . فهو دليل على جواز الأداء في مكان هو أعلى من المكان الذي عينه ولأن المذهب عند أهل السنة والجماعة أن لبعض الأمكنة فضيلة على البعض وكذلك لبعض الأزمنة فإذا عين لنذره مكانا ثم أدى في مكان دون ذلك المكان في الفضيلة فإنما يقيم الناقص مقام الكامل مع قدرته على الأداء بصفة الكمال كما التزمه فلا يجوز وإن أدى في مكان هو أفضل من المكان الذي عينه فقد أدى أتم مما التزمه فيجزيه ذلك ألا ترى أنه لو نذر أن يصوم يوما فصام بالنية قبل الزوال لا يخرج عن موجب نذره لأن المؤدى .
صفحة [ 133 ] أنقص مما التزمه وهذا بخلاف ما إذا أضاف النذر إلى وقت فاضل فمضى ذلك الوقت لأن هناك قد تحقق العجز عن الأداء بالصفة التي التزمه ولهذا لم يجوز " زفر " التعجيل على ذلك الوقت لأن العجز لا يتحقق قبل مجيء ذلك الوقت .
وحجتنا في ذلك أن صحة النذر باعتبار معنى القربة وذلك في الصلاة لا في المكان لأن الصلاة تعظيم لله تعالى بجميع البدن وفي هذا المعنى الأمكنة كلها سواء وإن كان الأداء في بعض الأمكنة أفضل فذلك لا يدل على أن الواجب لا يتأدى بدون ذلك كما في أداء المكتوبات ولا شك أن أداء الصلاة بالجماعة في المسجد أفضل وقد أمر شرعا بالأداء بهذه الصفة ومع ذلك إذا أداها في بيته وحده سقط عنه الواجب ولما بين النبي A ثواب المتطوع بالصلاة في هذه المساجد قال وأفضل ذلك كله صلاة الرجل في بيته في جوف الليل الآخر ثم عنده لو التزم صلاة في بعض هذه البقاع فصلاها في بيته لم يجز ولما " سئل رسول الله A عن أفضل صلاة المرأة فقال في أشد مكان من بيتها ظلمة " فعلى هذا ينبغي أنها إذا التزمت الصلاة في المسجد الحرام فصلت في أشد مكان من بيتها ظلمة أن تخرج عن موجب نذرها .
وعند " زفر " C تعالى لا تخرج .
والذي يوضح ما قلنا أن الناذر إنما يلتزم بنذره ما هو من فعله لا ما ليس من فعله والمكان ليس من فعله فيكون هو بالنذر ملتزما للصلاة دون المكان وفي أي موضع صلى فقد أدى ما التزمه فيخرج عن موجب نذره وإن كان الأداء في الموضع الذي عينه أفضل .
( يتبع . . . )