قال : وإذا أكل المعتكف نهارا ناسيا لم يضره الأكل لأن حرمة الأكل لأجل الصوم لا لأجل الاعتكاف حتى اختص .
صفحة [ 126 ] بوقت الصوم والأكل ناسيا لا يفسد الصوم بخلاف ما إذا جامع ناسيا فحرمة الجماع لأجل الاعتكاف حتى يعم الليل والنهار جميعا وقد بينا أن ما كانت حرمته لأجل الاعتكاف يستوي فيه الناسي والعامد بالقياس على الإحرام ومعنى الفرق أنه متى اقترن بحاله ما يذكره لا يبتلى فيه بالنسيان عادة فيعذر لأجله ففي الإحرام هيئة المحرمين مذكرة له وفي الاعتكاف كونه في المسجد مذكرا له فأما في الصوم لم يقترن بحاله ما يذكره لأنه غير ممنوع عن التصرف في الطعام في حالة الصوم ألا ترى أن في الأكل في الصلاة سوى بين النسيان والعمد لأنه ليس من جنس أركان الصلاة .
قال : وإذا أغمي على المعتكف أياما أو أصابه لمم فعليه إذا برئ أن يستقبل الاعتكاف لأن ما هو شرط الأداء وهو الصوم قد انعدم بتطاول الإغماء فعليه الاستقبال فإن صار معتوها ثم أفاق بعد سنين ففي القياس ليس عليه قضاء الاعتكاف كما لا يلزمه قضاء الفرائض لسقوط الخطاب عنه بالعته .
وفي الاستحسان عليه القضاء لأن سبب الالتزام تقرر قبل العته فكان بمنزلة الفرائض التي لزمته بتقرر السبب قبل العته وهذا لأنه بالعته لم يخرج من أن يكون أهلا للعبادة فإنه أهل لثوابها فبقيت ذمته صالحة للوجوب فيها فيما تقرر سببه .
قال : ويلبس المعتكف وينام ويأكل ويدهن ويتطيب بما شاء فإن النبي A كان يفعل ذلك كله في اعتكافه .
قال : ولا يفسد الاعتكاف سباب ولا جدال فإن حرمة هذه الأشياء ليس لأجل الاعتكاف ألا ترى أنه كان محرما قبل الاعتكاف ولا يفوت به ركن الاعتكاف وهو اللبث ولا شرطه وهو الصوم وكذلك إن سكر ليلا لما بينا أن حرمة السكر ليست لأجل الاعتكاف فلا يكون مؤثرا فيه .
قال : وصعود المعتكف على المئذنة لا يفسد اعتكافه أما إذا كان باب المئذنة في المسجد فهو والصعود على سطح المسجد سواء وإن كان بابها خارج المسجد فكذلك من أصحابنا من يقول هذا قولهما فأما عند " أبي حنيفة " Bه فينبني أن يفسد اعتكافه للخروج من المسجد من غير ضرورة .
والأصح أنه قولهم جميعا واستحسن " أبو حنيفة " هذا لأنه من جملة حاجته فإن مسجده إنما كان معتكفا لإقامة الصلاة فيه بالجماعة وذلك إنما يتأتى بالأذان وهو بهذا الخروج غير معرض عن تعظيم البقعة أصلا بل هو ساع فيما يزيد في تعظيم البقعة فلهذا لا يفسد اعتكافه .
قال : وإذ أوجب على نفسه الاعتكاف يوما دخل المسجد قبل طلوع الفجر فأقام فيه إلى أن تغرب الشمس لأنه التزم الاعتكاف في جميع اليوم واليوم اسم للوقت من طلوع الفجر إلى غروب الشمس بدليل الصوم .
قال : ولا بأس بأن يخرج رأسه من المسجد إلى بعض أهله ليغسله لما " روي أن النبي A في اعتكافه كان يخرج رأسه إلى " عائشة " فكانت تغسله وترجله " ولأنه بإخراج رأسه لا يصير خارجا من المسجد فإن من حلف .
صفحة [ 127 ] لا يخرج من هذه الدار فأخرج رأسه منها لم يحنث وإن غسل رأسه في المسجد في إناء فلا بأس بذلك إذ ليس فيه تلويث المسجد .
وذكر " حديث " عائشة " أن النبي A كان إذا أراد أن يعتكف أصبح في المكان الذي يريد أن يعتكف فيه " ففي هذه دليل على أن من أراد اعتكاف يوم أو نذر ذلك ينبغي أن يدخل المسجد قبل طلوع الفجر وقد بينا هذا .
قال : وإن نذر اعتكاف يوم العيد قضاه في وقت آخر وكفر عن يمينه إن كان أراد يمينا وإن اعتكف فيه أجزأه وقد أساء وهذا عندنا اعتبارا للاعتكاف بالصوم وقد بينا هذه الأحكام في النذر بصوم يوم العيد فكذلك الاعتكاف .
وذكر " محمد " C في الأصل " حديث " أبي سعيد الخدري " Bه أن النبي A اعتكف في العشر الأوسط من رمضان فأتاه " جبرائيل " عليه السلام فقال إن ما تطلبت وراءك فقال عليه السلام من كان معتكفا معنا فليعد إلى معتكفه وإني أراني أسجد في ماء وطين فقال " أبو سعيد " فمطرنا " وكان عريش المسجد من جريد فوكف فوالذي بعثه بالحق لقد صلى بنا المغرب ليلة الحادي والعشرين وإني أرى جبهته وأرنبة أنفه في الماء والطين وإنما أورد هذا الحديث لبيان ليلة القدر وفيه اختلاف بين الصحابة والعلماء بعدهم : .
فأما " أبو سعيد الخدري " Bه كان مذهبه أن ليلة القدر الحادي والعشرون لهذا الحديث ولم يأخذ به علماؤنا لما صح في " الحديث أن النبي A قال من فاته ثلاث ليال فقد فاته خير كثير ليلة التاسع عشر والحادي والعشرين وآخرها ليلة فقيل سوى ليلة القدر يا رسول الله فقال سوى ليلة القدر " .
وليس في حديث " أبي سعيد " كبير حجة فإنه لم يقل أراني أسجد في ماء وطين في ليلة القدر .
وكان " علي بن أبي طالب " Bه يقول إنها ليلة الخامس والعشرين فإنه صح في الحديث أن نزول القرآن كان لأربع وعشرين مضين من رمضان . وقال الله تعالى : " إنا أنزلناه في ليلة القدر " } القدر : 1 والهاء كناية عن القرآن باتفاق المفسرين فإذا جمعت بين الآية والحديث تبين أنها ليلة الخامس والعشرين .
وأكثر الصحابة على أنها ليلة السابع والعشرين فقد ذكر " عاصم " عن " ذر بن حبيش " قال قلت " لأبي بن كعب " يا " أبا المنذر " أخبرني عن ليلة القدر فإن " ابن مسعود " كان يقول من يقم الحول يدركها فقال يرحم الله " أبا عبدالرحمن " قد كان يعلم أنها ليلة السابع والعشرين ولكنه أراد حث الناس على الجهد في جميع الحول قلت بم عرفت ذلك قال بالعلامة التي أخبرنا بها رسول الله A فاعتبرناها فوجدناها قلت وما تلك .
صفحة [ 128 ] العلامة قال تطلع الشمس من صبيحتها كأنها طست لا شعاع لها .
وكان " ابن عباس " Bه يقول إنها ليلة السابع والعشرين فقيل له ومن أين تقول ذلك قال لأن سورة القدر ثلاثون كلمة وقوله هي الكلمة السابعة والعشرون وفيها إشارة إلى ليلة القدر .
وذكر الفقيه " أبو جعفر " أن المذهب عند " أبي حنيفة " Bه أنها تكون في شهر رمضان ولكنها تتقدم وتتأخر .
وعلى قول " أبي يوسف " و " محمد " رحمهما الله تعالى تكون في شهر رمضان لا تتقدم ولا تتأخر .
وفائدة الاختلاف : أن من قال لعبده أنت حر ليلة القدر فإن قال ذلك قبل دخول شهر رمضان عتق إذا انسلخ الشهر وإن قال ذلك بعد مضي ليلة من الشهر لم يعتق حتى ينسلخ شهر رمضان من العام القابل في قول " أبي حنيفة " C تعالى لجواز أنها كانت في الشهر الماضي في الليلة الأولى وفي الشهر الآتي في الليلة الأخيرة .
وعلى قول " أبي يوسف " و " محمد " رحمهما الله تعالى إذا مضت ليلة من الشهر في العام القابل فجاء مثل الوقت الذي حلف فيه عتق لأن عندهما لا تتقدم ولا تتأخر بل هي في ليلة من الشهر في كل وقت فإذا جاء مثل ذلك الوقت فقد تيقنا بمجيء الوقت المضاف إليه العتق بعد يمينه فلهذا عتق والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب