أعلم أن المسح على الخفين جائز بالسنة فقد اشتهر فيه الأثر عن رسول الله A قولا وفعلا . من ذلك " حديث " المغيرة بن شعبة " رضي الله تعالى عنه قال توضأ رسول الله A في سفر وكنت أصب الماء عليه وعليه جبة شامية ضيقة الكمين فأخرج يديه من تحت ذيله ومسح على خفيه فقلت نسيت غسل القدمين فقال لا بل أنت نسيت بهذا أمرني ربي " .
ومن ذلك " حديث " جرير بن عبدالله البجلي " رضي الله تعالى عنه قال رأيت رسول الله A توضأ ومسح على خفيه فقيل له أكان ذلك بعد نزول المائدة فقال وهل أسلمت إلا بعد نزول المائدة " وقال " إبراهيم C تعالى وكان يعجبهم حديث " جرير " Bه لأنه أسلم بعد نزول المائدة وإنما قال هذا لما روى عن " ابن عباس " رضي الله تعالى عنهما قال سلوا هؤلاء الذين يروون المسح على مسح رسول الله A بعد نزول المائدة والله ما مسح رسول الله A بعد نزول المائدة ولأن أمسح على ظهر عنز في الفلاة أحب إلي من أن أمسح على الخفين .
وقد صح رجوعه عنه على ما قال " عطاء بن أبي رباح " رضي الله تعالى عنه لم يمت " ابن عباس " .
صفحة [ 98 ] رضي الله تعالى عنهما حتى اتبع أصحابه في المسح على الخفين . والذي روى عن " عائشة " رضي الله تعالى عنها لأن تقطع قدماي أحب إلي من أن أمسح على الخفين فقد صح رجوعها عنه على ما " روى " شريح بن هانيء " قال سألت " عائشة " رضي الله تعالى عنها عن المسح على الخفين فقالت لا أدرى سلوا " عليا " رضي الله تعالى عنه فإنه كان أكثر سفرا مع رسول الله A فسألنا " عليا " رضي الله تعالى عنه فقال رأيت رسول الله A يمسح على الخفين " .
وفي " رواية سمعت رسول الله A يقول يمسح المقيم يوما وليلة والمسافر ثلاثة أيام ولياليها " فبلغ ذلك " عائشة " رضي الله تعالى عنها فقالت هو أعلم .
ولكثرة الأخبار فيه قال " أبو حنيفة " C تعالى ما قلت بالمسح حتى جاءني فيه مثل ضوء النهار .
وقال " أبو يوسف " C خبر المسح يجوز نسخ الكتاب به لشهرته .
وقال " الكرخي " C تعالى أخاف الكفر على من لم ير المسح على الخفين لأن الآثار التي وردت فيه في حيز التواتر .
وهو مؤقت في حق المقيم بيوم وليلة وفي حق المسافر بثلاثة أيام ولياليها " لحديث " علي " رضي الله تعالى عنه وحديث " خزيمة بن ثابت " رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله A يمسح المقيم يوما وليلة والمسافر ثلاثة أيام ولياليها " .
و " عن " ابن عمر " رضي الله تعالى عنهما قال خرجت إلى " العراق " فرأيت " سعدا " يمسح على الخفين فقلت ما هذا فقال : إذا رجعت إلى أبيك فسله فسألت أبي فقال عمك أفقه منك رأيت رسول الله A يمسح على الخفين وسمعته يقول يمسح المقيم يوما وليلة والمسافر ثلاثة أيام ولياليها " .
ولأن المسح رخصة لدفع المشقة وذلك مؤقت في حق المقيم بيوم وليلة لأنه يلبس خفيه حين يصبح ويخرج فيشق عليه النزع قبل أن يعود إلى بيته ليلا والمسافر يلحقه الحرج بالنزع في كل مرحلة فقدر في حقه بثلاثة أيام ولياليها أدنى مدة السفر إذ لا نهاية لأكثره .
وكان " الحسن البصري " Bه يقول المسح مؤبد للمسافر " لحديث " عمار بن ياسر " Bه قال قلت يا رسول الله أمسح على الخفين يوما فقال نعم فقلت يومين فقال نعم حتى أنتهيت إلى سبعة .
صفحة [ 99 ] أيام فقال إذا كنت في سفر فامسح ما بدا لك " .
وتأويله أن مراده A بيان أن المسح مؤبد غير منسوخ وأن ينزع في هذه المدة والأخبار المشهورة لا تترك بهذا الشاذ .
وكان " مالك " C تعالى يقول لا يمسح المقيم أصلا ويمسح المسافر ما بدا له لحديث " عقبة بن عامر الجهني " رضي الله تعالى عنه قال وفدت على " عمر " رضي الله تعالى عنه من " الشام " فقال متى عهدك بالخف فقلت منذ أسبوع قال أصبت .
وتأويله أن المراد بيان أول اللبس وخروجه مسافرا لا أنه لم ينزع بين ذلك .
ثم ابتداء المدة من وقت الحدث لأن سبب وجوب الطهارة الحدث واستتار القدم بالخف يمنع سراية الحدث إلى القدم فما هو موجب لبس الخف إنما يظهر عند الحدث فلهذا كان ابتداء المدة منه ولأنه لا يمكن ابتداء المدة من وقت اللبس فإنه لو لم يحدث بعد اللبس حتى يمر عليه يوم وليلة لا يجب عليه نزع الخف بالإتفاق ولا يمكن اعتباره من وقت المسح لأنه لو أحدث ولم يمسح ولم يصل أياما لا إشكال أنه لا يمسح بعد ذلك فكان العدل في الإعتبار من وقت الحدث .
قال : وإنما يجوز المسح من كل حدث موجب للوضوء دون الإغتسال " لحديث " صفوان بن عسال المرادي " Bه قال كان رسول الله A يأمرنا إذا كنا سفرا أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليها إلا من جنابة ولكن من بول أو غائط أو نوم " ولأن الجنابة ألزمته غسل جميع البدن ومع الخف لا يتأتى ذلك والرجل معتبرة بالرأس فمتى كان الفرض في الرأس المسح كان في الرجل في حق لابس الخف كذلك وفي الجنابة الفرض في الرأس الغسل فكذلك في الرجل عليه نزع الخف وغسل القدمين .
قال : وإنما يجوز المسح إذا لبس الخف على طهارة كاملة " لحديث " المغيرة بن شعبة " رضي الله تعالى عنه أن النبي A قال حين مسح على خفيه إني أدخلتهما وهما طاهرتان " ولأن موجب لبس الخف المنع من سراية الحدث إلى القدمين لا تحويل حكم الحدث من الرجل إلى الخف وإنما يتحقق هذا إذا كان اللبس على طهارة .
قال : فإن غسل رجليه أولا ولبس خفيه ثم أحدث قبل إكمال الطهارة لم يجز له أن يمسح عليهما لأن أول الحدث بعد اللبس ما طرأ على طهارة كاملة فهو وما لبس قبل غسل الرجل سواء .
وإن أكمل وضوءه قبل الحدث جاز له أن يمسح عندنا ولم يجز عند " الشافعي " C تعالى بناء على أن الترتيب في الوضوء ليس بركن عندنا فأول الحدث بعد لبس الخف طرأ على طهارة كاملة .
قال : ولو توضأ وغسل إحدى رجليه ولبس الخف ثم غسل الرجل الأخرى ولبس الخف ثم أحدث جاز .
صفحة [ 100 ] له عندنا أن يمسح وقال " الشافعي " C تعالى إن لم ينزع الخف الأول فلا يجوز له أن يمسح وإن نزعه ثم لبسه جاز له المسح لأن الشرط أن يكون لبسه بعد إكمال الطهارة .
وهذا اشتغال بما لا يفيد ينزع ثم يلبس من غير أن يلزمه فيه غسل وهو ليس من الحكمة فلا يجوز له اشتراطه .
قال : ومسح الخف مرة واحدة وقال " عطاء " رضي الله تعالى عنه ثلاثا كالغسل .
ولنا " حديث " المغيرة بن شعبة " رضي الله تعالى عنهما قال كأني أنظر إلى أثر المسح على ظهر خف رسول الله A خطوطا بالأصابع وإنما لم تبق الخطوط إذا لم يمسحه إلا مرة واحدة " ولأن كثرة إصابة البلة إفساد الخف وفيه حرج فيكتفي فيه بالمرة الواحدة ويبدأ من قبل الأصابع حتى ينتهي إلى أسفل الساق اعتبارا بالغسل فالبداءة فيه من الأصابع لأن الله تعالى جعل الكعبين غاية .
قال : وإن مسح خفيه بأصبع أو أصبعين لم يجزه حتى يمسح بثلاثة أصابع وعلى قول " زفر " رضي الله تعالى عنه يجزئه والكلام فيه مثل الكلام في المسح بالرأس وقد مر .
قال : والخرق اليسير في الخف لا يمنع من المسح عليه وفي القياس يمنع وهو قول " الشافعي " C تعالى لأن القدر الذي بدا من الرجل وجب غسله اعتبارا للبعض بالكل وإذا وجب الغسل في البعض وجب في الكل لأنه لا يتجزأ .
ووجه الإستحسان : أن الخف قلما يخلو عن قليل خرق فإنه وإن كان جديدا فآثار الزرور والأشافي خرق فيه ولهذا يدخله التراب فجعلنا القليل عفوا لهذا .
فأما إذا كان الخرق كبيرا لا يجوز المسح عليه .
وقال " سفيان الثوري " C تعالى إذا كان بحيث يمكن المشي فيه سفرا يجوز المسح عليه لأن الأصل في هذه الرخصة الصحابة رضوان الله تعالى عليهم وعامتهم كانوا محتاجين لا يجدون إلا الخلق من الخفاف وقد جوز لهم المسح .
ولكنا نقول الخرق اليسير إنما جعل عفوا للضرورة ولا ضرورة في الكثير فيبقى على أصل القياس .
والفرق بين القليل والكثير ثلاث أصابع فإن كان يبدو منه ثلاث أصابع لم يجز له أن يمسح عليه لأن الأكثر معتبر بالكمال .
وفي رواية الزيادات عن " محمد " C تعالى ثلاث أصابع من أصغر أصابع الرجل لأن الممسوح عليه الرجل .
وفي رواية " الحسن " عن " أبي حنيفة " رحمهما الله تعالى قال ثلاث أصابع من أصابع اليد لأن الممسوح به اليد .
وسواء كان الخرق في ظاهر الخف أو باطنه أو من ناحية العقب ولكن هذا إذا كان يبدو منه مقدار ثلاث أصابع فإن كان صلبا لا يبدو منه شيء يجوز المسح عليه وإن كان يبدو في حالة المشي دون حال وضع القدم .
صفحة [ 101 ] على الأرض لم يجزه المسح لأن الخف يلبس للمشي .
واختلف مشايخنا رحمهم الله تعالى فيما إذا كان يبدو ثلاثة أصابع من الأنامل : والأصح أنه لا يجوز المسح عليه وتجمع الخروق في خف واحد ولا تجمع في خفين لأن أحد الخفين منفصل عن الآخر .
قال : وإن مسح باطن الخف دون ظاهره لم يجزه فإن موضع المسح ظهر القدم لما روينا من حديث " المغيرة بن شعبة " رضي الله تعالى عنه .
وقال " الشافعي " C تعالى المسح على ظاهر الخف فرض وعلى باطنه سنة فالأولى عنده أن يضع يده اليمنى على ظاهر الخف ويده اليسرى على باطنه فيمسح بهما على كل رجل .
وعندنا المسح على ظاهر الخف فقط " لحديث " علي " رضي الله تعالى عنه قال لو كان الدين بالرأى لكان باطن الخف أولى من ظاهره ولكني رأيت رسول الله A يمسح على ظاهر خفيه دون باطنهما " ولأن باطن الخف لا يخلو عن لوث عادة فيصيب يده ذلك اللوث وفيه بعض الحرج والمسح مشروع لدفع الحرج .
قال : ولا يجوز المسح على العمامة والقلنسوة ومن العلماء من جوزه " لحديث " بلال " رضي الله تعالى عنه قال رأيت رسول الله A مسح على عمامته " .
وجاء في " الحديث أن النبي A بعث سرية فأمرهم بأن يمسحوا على المشاوذ والتساخين " .
فالمشاوذ العمائم والتساخين الخفاف .
ولنا " حديث " جابر " رضي الله تعالى عنه قال رأيت رسول الله A حسر العمامة عن رأسه ومسح على ناصيته " وكأن بلالا Bه كان بعيدا منه فظن أنه مسح على العمامة حين لم يضعها عن رأسه .
وتأويل الحديث الآخر أن النبي A خص به تلك السرية لعذرهم فقد كان E يخص بعض أصحابه بأشياء كما خص " عبدالرحمن بن عوف " رضي الله تعالى عنه بلبس الحرير .
و " خزيمة " رضي الله تعالى عنه بشهادته وحده .
ثم المسح إنما يكون بدلا عن الغسل لا عن المسح والرأس ممسوح فكيف يكون المسح على العمامة بدلا عنه بخلاف الرجل ولأنه لا يلحقه كثير حرج في إدخال اليد تحت العمامة والمسح على الرأس .
قال : وكذلك المرأة لا تمسح على خمارها " لحديث " عائشة " رضي الله تعالى عنها أنها أدخلت يدها تحت الخمار ومسحت برأسها وقالت بهذا أمرني رسول الله A " فإن مسحت على خمارها فنفذت البلة إلى رأسها حتى ابتل قدر الربع أجزأها حتى قال بعض مشايخنا رحمهم الله تعالى : إذا كان الخمار جديدا يجوز وإن لم يكن جديدا لا يجوز لأن ثقوب الجديد لم تنسد بالإستعمال فتنفذ البلة منها إلى الرأس .
قال : وأما المسح على الجوربين فإن كانا .
صفحة [ 102 ] ثخينين منعلين يجوز المسح عليهما لأن مواظبة المشى سفرا بهما ممكن وإن كانا رقيقين لا يجوز المسح عليهما لأنهما بمنزلة اللفافة وإن كانا ثخينين غير منعلين لا يجوز المسح عليهما عند " أبي حنيفة " C تعالى لأن مواظبة المشي بهما سفرا غير ممكن فكانا بمنزلة الجورب الرقيق .
وعلى قول " أبي يوسف " و " محمد " رحمهما الله تعالى يجوز المسح عليهما .
وحكى أن " أبا حنيفة " C تعالى في مرضه مسح على جوربيه ثم قال لعواده فعلت ما كنت أمنع الناس عنه فاستدلوا به على رجوعه .
وحجتهما " حديث " أبي موسى الأشعري " رضي الله تعالى عنه وأرضاه أن النبي A مسح على جوربيه " وقد روى المسح على الجورب عن " أبي بكر " و " علي " و " أنس " رضي الله تعالى عنهم .
وتأويله عند " أبي حنيفة " C تعالى أنه كان منعلا أو مجلدا والثخين من الجورب أن يستمسك على الساق من غير أن يشده بشيء .
والصحيح من المذهب جواز المسح على الخفاف المتخذة من اللبود التركية لأن مواظبة المشي فيها سفرا ممكن .
قال : ويجوز المسح على الجرموقين فوق الخفين عندنا .
وعند " الشافعي " رضي الله تعالى عنه إن لبس الجرموقين وحدهما مسح وإن لبسهما فوق الخف لم يمسح عليهما لأن ما تحتهما ممسوح والمسح لا يكون بدلا عن المسح .
ولنا " حديث " عمر " رضي الله تعالى عنه قال رأيت رسول الله A مسح على الجرموقين " ولأن الجرموق فوق الخف في معنى خف ذي طاقين ولو لبس خفا ذا طاقين كان له أن يمسح عليه فهذا مثله .
وإنما يجوز المسح عندنا على الجرموقين إذا لبسهما فوق الخفين قبل أن يحدث ويمسح فأما إذا كان مسح على الخف أولا ثم لبس الجرموق فليس له أن يمسح على الجرموق لأن حكم المسح استقر على الخف فبهذا يتبين الجواب عما قاله " الشافعي " C تعالى عنه .
وكذلك لو أحدث بعدما لبس الخف ثم لبس الجرموقين فليس له أن يمسح على الجرموق لأن ابتداء مدة المسح من وقت الحدث وقد انعقد في الخف فلا يتحول إلى الجرموق بعد ذلك .
وإن مسح على الخفين ثم نزع أحدهما انتقض مسحه في الرجلين وعليه غسلهما .
وقال " ابن أبي ليلى " C لا شيء عليه .
وعن " إبراهيم النخعي " C فيه ثلاثة أقوال : .
( يتبع . . . )