صفحة [ 2 ] قال : الأصل في وجوب العشر قوله تعالى : { " أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض " } " البقرة : 267 قيل : المراد بالمكسوب مال التجارة ففيه بيان زكاة التجارة والمراد بقوله ومما أخرجنا لكم من الأرض العشر .
وقال الله تعالى : { " وآتوا حقه يوم حصاده } " الأنعام : 141 و " قال A ما أخرجت الأرض ففيه العشر " ثم الأصل عند " أبي حنيفة " C تعالى أن كل ما يستنبت في الجنان ويقصد به استغلال الأراضي ففيه العشر : الحبوب والبقول والرطاب والرياحين والوسمة والزعفران والورد والورس في ذلك سواء وهو قول " ابن عباس " Bه وقد روى أنه حين كان واليا بالبصرة أخذ العشر من البقول من كل عشر دستجات دستجة وأخذ فيه " أبو حنيفة " بالحديث العام ما سقت السماء ففيه العشر وما أخرجت الأرض ففيه العشر وكان يقول العشر مؤنة الأرض النامية كالخراج فكما أن هذا كله يعد من نماء الأرض في وجوب الخراج فكذلك في وجوب العشر والمستثنى عند " أبي حنيفة " C تعالى خمسة أشياء .
السعف : فإنه من أغصان الأشجار وليس في الشجر شيء .
والتبن : فإنه ساق للحب كالشجر للثمار .
والحشيش : فإنه ينقى من الأرض ولا يقصد به استغلال الأراضي .
والطرفاء والقصب : فإنه لا يقصد استغلال الأراضي بهما عادة والمراد القصب الفارسي فأما قصب السكر ففيه العشر وكذلك على قولهما إذا كان يتخذ منه السكر وكذلك في قصب الذريرة العشر .
وروى أصحاب الإملاء عن " أبي يوسف " C تعالى أنه ليس فيه شيء والأصل عند " أبي يوسف " و " محمد " رحمهما الله تعالى أن ما ليست له ثمرة باقية مقصودة فلا شيء فيه كالبقول والخضر والرياحين إنما العشر فيما له ثمرة باقية مقصودة .
واحتجا فيه " بحديث " موسى بن طلحة " عن أبيه أن النبي A قال ليس في الخضراوات صدقة " .
وتأويله عند " أبي حنيفة " C تعالى صدقة تؤخذ أي لا يأخذ العاشر من الخضراوات إذا مر بها .
صفحة [ 3 ] عليه .
ثم قال ما كان تافها عادة يتيسر وجوده على الغني والفقير فلا يجب فيه حق الله تعالى كما لا تجب الزكاة في الصيود والحطب والحشيش وإنما يجب حق الله تعالى فيما يعز وجوده فيناله الأغنياء دون الفقراء كالسوائم ومال التجارة فكذلك هنا ماله ثمرة باقية يعز وجوده فأما الخضراوات والرياحين فتافهة عادة ولهذا أوجبنا في الزعفران ولم يوجب في الورس والوسمة لأنه لا ينتفع بهما انتفاعا عاما .
و " أبو يوسف " C تعالى أوجب في الحناء لأنه ينتفع به انتفاعا عاما .
ولم يوجبه فيه " محمد " C تعالى لأنه من الرياحين .
وفي الثوم والبصل روايتان عن " محمد " C تعالى : .
قال في إحدى الروايتين : هما من الخضر فلا شيء فيهما .
وفي الرواية الأخرى قال : يقعان في الكيل ويبقيان في أيدي الناس من حول إلى حول فيجب فيهما العشر .
والبطيخ والقثاء والخيار لا شيء فيها عندهما لأنها من الرطاب وبزرها غير مقصود فلا يكون معتبرا وكذلك في الثمار .
قال : لا شيء في الكمثري والخوخ والمشمش والإجاص وما يجفف منها لا يعتبر وأوجبنا في الجوز واللوز العشر وفي الفستق على قول " أبي يوسف " C تعالى يجب العشر وعلى قول " محمد " C تعالى لا يجب ثم عند " أبي حنيفة " C تعالى العشر يجب في القليل من الخارج وكثيره ولا يعتبر فيه النصاب لعموم الحديثين كما روينا ولأن النصاب في أموال الزكاة كان معتبرا لحصول صفة الغنى للمالك بها وذلك غير معتبر لإيجاب العشر فإن أصل المال هنا لا يعتبر فهو وخمس الركاز سواء .
والأصل عندهما أنه لا يجب العشر فيما دون خمسة أوسق مما يدخل تحت الوسق والوسق ستون صاعا فخمسة أوسق ألف ومائتا من .
واحتجا فيه " بقوله : A ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة " .
و " أبو حنيفة " يقول : تأويل الحديث زكاة التجارة فإنهم كانوا يتبايعون بالأوساق كما ورد به الحديث فقيمة خمسة أوسق مائتا درهم .
ثم قالا هذا حق مالي وجب بإيجاب الله تعالى فيعتبر فيه النصاب كالزكاة وهذا لأن القليل تافه عادة وهو عفو شرعا ومروءة .
و " أبو حنيفة " C تعالى قال : العشر مؤنة الأرض النامية وباعتبار الخارج قل أو كثر تصير الأرض نامية فيجب العشر كما يجب الخراج .
ثم المذهب عند " محمد " C تعالى وهو رواية عن " أبي يوسف " C تعالى : أن ما يحرم التفاضل فيه بالبيع يضم بعضه إلى بعض وما لا يحرم التفاضل فيه كالحنطة والشعير لا يضم بعضه إلى بعض لأنهما مختلفان فيعتبر كمال النصاب من كل واحد منهما كالسوائم .
وعن " أبي يوسف " C تعالى أن الكل إذا أدرك في وقت واحد يضم بعضه إلى بعض لأن العشر وجوبه .
صفحة [ 4 ] باعتبار منفعة الأرض فإذا أدركت في وقت واحد فهي منفعة واحدة فيضم بعضها إلى بعض كأموال التجارة .
وإذا تفرقت الأراضي لرجل واحد فالمروى عن " أبي يوسف " C تعالى أن ما كان من عمل عامل واحد يجمع وما كان من عمل عاملين يعتبر فيه النصاب في كل واحد منهما على حدة فإنه ليس للعامل ولاية الأخذ مما ليس في عمله وما في عمله دون النصاب .
والمروى عن " محمد " C تعالى أنه يضم بعض ذلك إلى البعض لإيجاب العشر لأن المالك واحد ووجوب العشر عليه فكان مراد " محمد " C تعالى من هذا فيما بينه وبين الله تعالى فأما في حق الأخذ للعامل فعلى ما قاله " أبو يوسف " C تعالى .
وإن كانت الأرض مشتركة بين جماعة فأخرجت طعاما فعلى قول " محمد " C تعالى يعشر إن بلغ نصيب كل واحد منهم خمسة أوسق كما بينا في السوائم .
وقال " أبو يوسف " : إذا كان الخارج كله خمسة أوسق ففيه العشر لأنه لا معتبر بالمالك في العشر وإنما المعتبر بالخارج حتى يجب العشر في الأراضي الموقوفة التي لا مالك لها ثم العشر يجب فيما سقته السماء أو سقي سيحا فأما ما سقي بغرب أو دالية أو سانية ففيه نصف العشر وبه ورد " الأثر عن رسول الله A قال : ما سقته السماء ففيه العشر وما سقى بغرب أو دالية ففيه نصف العشر " " وفي رواية ما سقي بعلا أو سيحا ففيه العشر وما سقي بالرشاء ففيه نصف العشر " . وعلل بعض مشايخنا بقلة المؤنة فيما سقته السماء وكثرة المؤنة فيما سقي بغرب أو دالية وقالوا لكثرة المؤنة تأثير في نقصان الواجب .
وهذا ليس بقوي فإن الشرع أوجب الخمس في الغنائم والمؤنة فيها أعظم منها في الزراعة ولكن هذا تقدير شرعي فنتبعه ونعتقد فيه المصلحة وإن لم نقف عليه .
وكان " ابن أبي ليلى " يقول : لا عشر إلا في الحنطة والشعير والزبيب والتمر إذا بلغ خمسة أوسق لظاهر الحديث الخاص . فإن اعتبار الوسق للنصاب دليل على أنه لا يجب إلا فيما يدخل تحت الوسق .
قال : وإذا أخرجت الأرض العشرية طعاما وعلى صاحبها دين كثير لم يسقط عنه العشر وكذلك الخراج لأن الدين يعدم غنى المالك بما في يده وقد بينا أن غنى المالك غير معتبر لإيجاب العشر .
قال : وإن كانت الأرض لمكاتب أو صبي أو مجنون وجب العشر في الخارج منها عندنا وقال " الشافعي " C تعالى لا شيء في الخارج من أرض المكاتب والعشر عنده قياس الزكاة لا يجب إلا باعتبار المالك .
أما عندنا فالعشر مؤنة الأرض النامية كالخراج والمكاتب والحر فيه سواء .
وكذلك الخارج من الأراضي الموقوفة على الرباطات والمساجد .
صفحة [ 5 ] يجب فيها العشر عندنا .
وعند " الشافعي " C تعالى لا يجب إلا في الموقوفة على أقوام بأعيانهم فإنهم كالملاك . أما الموقوفة على أقوام بغير أعيانهم فلا شيء فيها قال : رجل استأجر أرضا من أرض العشر وزرعها قال عشر ما خرج منها على رب الأرض بالغا ما بلغ سواء كان أقل من الأجر أو أكثر في قول " أبي حنيفة " وقال " أبو يوسف " و " محمد " رحمهما الله تعالى العشر في الخارج على المستأجر وجه قولهما : أن الواجب جزء من الخارج والخارج كله للمستأجر فكان العشر عليه كالخارج في يد المستعير للأرض .
و " أبو حنيفة " C تعالى يقول وجوب العشر باعتبار منفعة الأرض والمنفعة سلمت للآجر لأنه استحق بدل المنفعة وهي الأجرة وحكم البدل حكم الأصل أما المستأجر فإنما سلمت له المنفعة بعوض فلا عشر عليه كالمشتري للزرع ثم العشر مؤنة الأرض النامية كالخراج وخراج أرض المؤاجر على المؤاجر فكذلك العشر عليه .
أما إذا أعار أرضه من مسلم فالعشر على المستعير في الخارج عندنا .
وقال " زفر " C تعالى على المعير وقاسه بالخراج وقال حين سلط المستعير على الانتفاع بالأرض فكأنه انتفع به بنفسه ولكنا نقول منفعة الأرض سلمت للمستعير بغير عوض ووجوب العشر باعتبار حقيقة المنفعة حتى لا يجب ما لم يحصل الخارج بخلاف المستأجر فإن سلامة المنفعة له كان بعوض وبخلاف الخراج فإن وجوبه باعتبار التمكن من الانتفاع وقد تمكن المعير من ذلك ثم محل الخراج الذمة ولا يمكن إيجابه في ذمة المستعير لأنه ليس له حق لازم في الأرض ومحل العشر الخارج وهو مستحق للمستعير فإن كان أعار الأرض من ذمي فالعشر على المعير لأن العشر صدقة لا يمكن إيجابها على الكافر والمعير صار مفوتا حق الفقراء بالإعارة من الكافر فكان ضامنا للعشر .
قال : مسلم اشترى من كافر أرض خراج فهي خراجية عندنا وقال " مالك " C تعالى تصير عشرية لأن في الخراج معنى الصغار وهذا لا يبدأ به المسلم فكذلك لا يبقى بعد الإسلام إذا أسلم مالكه أو باعه من مسلم وقاس خراج الأرض بخراج الرؤوس .
ولكنا نستدل بحديث " ابن مسعود " C تعالى أنه كان له أرض خراج بالسواد فكان يؤدي فيها الخراج وكذلك روى عن " الحسن بن علي " و " أبي هريرة " رحمهما الله تعالى ثم معنى الصغار في ابتداء وضع الخراج دون البقاء كما أن معنى العقوبة في ابتداء الاسترقاق دون البقاء حتى إذا أسلم الرقيق يبقى رقيقا بخلاف خراج الرؤوس فإنه ذل ابتداء وبقاء فلهذا لا يبقى بعد الإسلام والمرجع في معرفة ما قلنا إلى .
صفحة [ 6 ] عادات الناس .
قال : وإن اشترى ذمي من مسلم أرض عشر فإن أخذها مسلم بالشفعة أو كان في البيع خيار للبائع أو كان البيع فاسدا فرجعت إلى المسلم فهي عشرية كما كانت لأن حق المسلم لم ينقطع عنها .
فإن بقيت في ملك الكافر وانقطع حق المسلم عنها فهي خراجية في قول " أبي حنيفة " C تعالى .
وقال " أبو يوسف " C تعالى عليه عشران .
وقال " محمد " C تعالى يؤخذ منه عشر واحد .
وقال " مالك " C تعالى يجبر على بيعها من المسلمين .
وعلى أحد قولي " الشافعي " C تعالى : لا يجوز البيع أصلا . وفي القول الآخر : وهو قول " ابن أبي ليلى " يؤخذ منه العشر والخراج جميعا وكان شريك بن " عبدالله " يقول لا شيء فيها وجعل هذا قياس السوائم إذا اشتراها الكافر من مسلم .
ولكن هذا ليس بصحيح فإن الأراضي النامية في دارنا لا تخلو عن وظيفة بخلاف سائر الأموال و " الشافعي " في أحد قوليه لا يجوز البيع أصلا كما هو مذهبه في الكافر يشتري عبدا مسلما وفي قوله الآخر يقول : بأن ما كان وظيفة لهذه الأرض يبقى وباعتبار كفر المالك الحادث يجب الخراج بناء على أصله في الجمع بينهما .
و " مالك " يقول يجبر على بيعه من المسلمين لأن حق الفقراء تعلق بها ومال الكافر لا يصلح لذلك فيجبر على بيعها لإبقاء حق الفقراء فيها .
وأما " محمد " C تعالى فقال ما صار وظيفة للأرض لا يتبدل بتبدل المالك كالخراج في الأراضي الخراجية ثم العشر الذي يؤخذ منه عند " محمد " C تعالى يوضع موضع الصدقات كما ذكره في السير لأن حق الفقراء تعلق بها فهو كتعلق حق المقاتلة بالأراضي الخراجية .
وروى " ابن سماعة " عن " محمد " رحمهما الله تعالى أن هذا العشر يوضع في بيت مال الخراج لأنه إنما يصرف إلى الفقراء ما كان لله تعالى بطريق العبادة ومال الكافر لا يصلح لذلك فيوضع موضع الخراج كمال يأخذه العاشر من أهل الذمة .
وإنما قال " أبو يوسف " C تعالى يؤخذ منه عشران لأن ما كان مأخوذا من المسلم إذا وجب أخذه من الكافر يضعف عليه كصدقة بني تغلب وما يمر به الذمي على العاشر .
أما " أبو حنيفة " C تعالى فقال الأراضي النامية لا تخلو عن وظيفة في دارنا والوظيفة إما الخراج أو العشر ولا يمكن إيجاب العشر عليه لأنها صدقة والكافر ليس من أهل الصدقة فتعين الخراج بخلاف الخراج في الأراضي الخراجية لأن استيفاءها بعد الوجوب كاستيفاء الأجرة باعتبار التمكن من الانتفاع ومال المسلم يصلح لذلك .
قال : وإن اشترى تغلبي أرض عشر من مسلم ضوعف عليه العشر للصلح الذي جرى بيننا وبينهم .
صفحة [ 7 ] وذكر " ابن سماعة " عن " محمد " رحمهما الله تعالى أن تضعيف العشر عليهم في الأراضي التي كانت لهم في الأصل فأما من اشترى منهم أرضا عشرية من مسلم فعليه عشر واحد بناء على أصله أن ما صار وظيفة للأرض يقرر ولا يتغير بتغير المالك .
فإن أسلم عليها أو باعها من مسلم فعليه العشر مضاعفا في قول " أبي حنيفة " " ومحمد " رحمهما الله تعالى .
وفي قول " أبي يوسف " رضي الله تعالى عنه عشر واحد .
وذكر في رواية " أبي سليمان " المسألة بعد هذا وذكر قول " محمد " C تعالى كقول " أبي يوسف " C تعالى .
وتأويله ما بينا أن عند " محمد " في الأراضي التي كانت لهم في الأصل سواء أسلموا عليها أو باعوها من مسلم يجب العشر مضاعفا لأنها صارت وظيفة لهذه الأرض .
( يتبع . . . )