إن ظاهر ما ذكر في الكتاب يدل على أن الخيار في هذه الأشياء إلى المصدق يعين أيها شاء وليس كذلك بل الخيار إلى صاحب المال إن شاء أدى القيمة وإن شاء أدى سنا دون الواجب وفضل القيمة وإن شاء أدى سنا فوق الواجب واسترد فضل القيمة حتى إذا عين شيئا فليس للساعي أن يأبى ذلك لأن صاحب الشرع اعتبر التيسير على أرباب الأموال وإنما يتحقق ذلك إذا كان الخيار لصاحب المال .
قال : وليس في الحملان والفصلان والعجاجيل زكاة في قول " أبي حنيفة " و " محمد " - رحمهما الله تعالى - وقال " أبو يوسف " - C تعالى - يجب فيها واحدة منها وهو قول " الشافعي " - C تعالى - وقال " زفر " - C تعالى - يجب فيها واحدة منها وهو قول " الشافعي " - C تعالى - وقال " زفر " - C تعالى - يجب فيها ما يجب في المسان وهو قول " مالك " - C تعالى - وذكر " الطحاوي " في اختلاف العلماء عن " أبي يوسف " - C تعالى - قال دخلت على " أبي حنيفة " - C تعالى - فقلت ما تقول فيمن ملك أربعين حملا فقال : فيها شاة مسنة فقلت : ربما تأتي قيمة الشاة على أكثرها .
صفحة [ 158 ] أو على جميعها فتأمل ساعة ثم قال لا ولكن تؤخذ واحدة منها فقلت أو يؤخذ الحمل في الزكاة فتأمل ساعة ثم قال إذا لا يجب فيها شيء فأخذ بقوله الأول " زفر " - C تعالى - وبقوله الثاني " أبو يوسف " وبقوله الثالث " محمد " - C تعالى - وعد هذا من مناقبه حيث تكلم في مسألة في مجلس بثلاثة أقوال فلم يضع شيء منها .
فأما " زفر " - C تعالى - فاستدل بقوله " A في خمس من الإبل السائمة شاة " وهذا اسم جنس يتناول الصغار والكبار كاسم الآدمي ولأن بالإجماع لو كانت واحدة منها بنت مخاض تجب شاة فيها ولا تجب الشاة في تلك الواحدة بل في الكل فإذا جاز إيجاب أربعة أخماس شاة باعتبار أربعة من الفصلان جاز إيجاب الشاة باعتبار خمس من الفصلان وهذا لأن زيادة السن عفو لأرباب الأموال لا يزداد بها الواجب فكذلك نقصان السن عفو في حق الفقراء لا ينتقص به الواجب . وحجتنا " قوله A : إياكم وكرائم أموال الناس " " وقال : لا تأخذوا من حزرات أموال الناس شيئا " وإيجاب المسنة في الصغار يؤدي إلى هذا ثم ربما تكون قيمة المسنة آتية على أكثر النصاب والواجب قليل من الكثير فأخذ المسنة من الصغار فيه إجحاف بأرباب الأموال بخلاف ما إذا كانت الواحدة مسنة فإنه هو الأصل والصغار تبع له وقد ثبت الحكم في المحل تبعا وإن كان لا يجوز إثباته مقصودا كالشرب والطريق في البيع و " أبو يوسف " - C تعالى - استدل بحديث " أبي بكر " - رضي الله تعالى عنه - قال : لو منعوني عناقا مما كانوا يؤدونه إلى رسول الله A لقاتلتهم عليه فدل أن للعناق مدخلا في الزكاة ولا يكون ذلك إلا من الصغار ثم اعتبر نقصان العين بنقصان الوصف فإن كل واحد منهما ينقص المالية ولا يعدمها ونقصان الوصف لا يسقط الزكاة أصلا حتى في العجاف والمهازيل تجب الزكاة من جنسها فكذلك نقصان السن . ولنا حديث " سويد بن غفلة " قال أتانا مصدق رسول الله A فتبعته فسمعته يقول في عهدي أن لا آخذ من راضع اللبن شيئا وقال " عمر " - رضي الله تعالى عنه - للساعي عد عليهم السخلة ولو جاء بها الراعي يحملها على كتفه ولا تأخذها منهم فقد نهى عن أخذ الصغار عند الاختلاط والمعنى فيه أن هذا حق الله تعالى تعلق بأسنان معلومة فلا مدخل للصغار فيها مقصودا كالهدايا والضحايا وهذا لأن الأسنان التي اعتبرها صاحب الشرع لا تؤخذ في .
صفحة [ 159 ] الصغار وبه فارق العجاف فإن تلك الأسنان تؤخذ فيها مع العجف وصاحب الشرع اعتبر السن في المأخوذ وحديث " أبي بكر " - رضي الله تعالى - عنه محمول على أنه قال ذلك على سبيل المبالغة والتمسك . ألا ترى أنه قال في بعض الروايات والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله A لقاتلتهم عليه وهذا لا يدل على أن للعقال مدخلا في الزكاة ثم اختلفت الروايات عن " أبي يوسف " في الفصلان . فروى " محمد " عن " أبي يوسف " - رحمهما الله تعالى - أنه لا يجب فيها الزكاة حتى تبلغ عددا لو كانت كبارا تجب فيها الواحدة وذلك بأن تبلغ خمسا وعشرين ثم ليس في الزيادة شيء حتى تبلغ ستا وسبعين فحينئذ يجب اثنتان منها إلى مائة وخمس وأربعين فحينئذ يجب ثلاث منها .
قال " محمد " - C تعالى - وهذا غير صحيح فإن رسول الله A أوجب في خمس وعشرين واحدة من مال اعتبر قبله أربعة نصب وأوجب في ست وسبعين اثنتين في موضع اعتبر ثلاثة نصب بينها وبين خمس وعشرين ففي المال الذي لا يمكن اعتبار هذا النصب لو أوجبنا كان بالرأي لا بالنص . وجه قول " أبي يوسف " - C تعالى - أن تعيين الواجب بالنص كان باعتبار العدد والسن وقد تعذر اعتبار أحدهما وهو السن في الفصلان فبقي الآخر وهو العدد معتبرا . وروى " الحسن بن أبي مالك " عن " أبي يوسف " - رحمهما الله تعالى - قال يجب في خمس فصلان الأقل من واحد منها ومن شاة وفي العشر الأقل من واحد منها ومن شاتين وفي الخمسة عشر الأقل من واحد منها ومن ثلاث شياه وفي العشرين الأقل من واحد منها ومن أربع شياه وفي خمس وعشرين واحدة ووجهه أن في الكبار الواجب في الخمس شاة للتيسير حتى لو أدى واحدة منها جاز وكذلك ما بعدها إلى خمس وعشرين فكذلك في الصغار يؤخذ على ذلك القياس وروى " ابن سماعة " عن " أبي يوسف " في الخمس خمس فصيل وفي العشر خمسا فصيل وهكذا إلى خمس وعشرين فكأنه اعتبر البعض بالجملة في هذه الرواية . وكثير من أصحابنا - رحمهم الله تعالى - خرجوا قول " أبي يوسف " - C تعالى - في هذه المسألة على قياس ما ذكر " محمد " - C تعالى - في الزيادات في زكاة المهازيل فقالوا إذا ملك خمسا من الفصلان نظر إلى قيمة بنت مخاض والشاة فإن كانت قيمة بنت المخاض خمسين وقيمة الشاة عشرة فنقول لو كانت الواحدة بنت المخاض لكان يجب فيها شاة تساوي عشرة وذلك بمعنى خمس قيمة بنت المخاض ثم ينظر إلى قيمة أفضلهن فإن كانت عشرين يجب فيها شاة تساوي أربعة دراهم ليكون بمعنى خمس .
صفحة [ 160 ] أفضلهن فهذا هو الإيجاب في الصغار على قياس الإيجاب في الكبار .
وإذا كان على صاحب السائمة دين يحيط بقيمتها فلا زكاة عليه فيها عندنا .
وعند " الشافعي " - C تعالى - تجب الزكاة لأن وجوب الزكاة باعتبار ملك النصاب الكامل النامي والمديون مالك لذلك فإن دين الحر الصحيح يجب في ذمته لا تعلق له بماله ولهذا ملك التصرف فيه كيف شاء وصفة النماء بالإسامة ولم ينعدم ذلك بسبب الدين ثم الدين مع الزكاة حقان اختلفا محلا ومستحقا وسببا فوجوب أحدهما لا يمنع وجوب الآخر كالدين مع العشر . ولنا حديث " عثمان " - Bه - حيث قال في خطبته في رمضان ألا إن شهر زكاتكم قد حضر فمن كان له مال وعليه دين فليحتسب ما له بما عليه ثم ليزك بقية ماله ولم ينكر عليه أحد من الصحابة - Bهم - فكان إجماعا منهم على أنه لا زكاة في القدر المشغول بالدين ثم المديون فقير ولهذا تحل له الصدقة مع تمكنه من ماله والصدقة لا تحل لغني ولا تجب إلا على الغني " . قال A : لا صدقة إلى عن ظهر غني " وهذا لأن الواجب إغناء المحتاج والخطاب بالإغناء لا يتوجه إلى على الغني ومن كان مستحقا للمواساة شرعا لا يلزمه أن يواسي غيره والشرع لا يرد بما لا يفيد ولا فائدة من أن يأخذ شاة من سائمة الغير صدقة ويعطي شاة من سائمته ولأن ملكه في النصاب ناقص فإن صاحب الدين يستحقه عليه من غير قضاء ولا رضا وذلك أنه عدم الملك كما في الوديعة والمغصوب فلأن يكون دليل نقصان الملك كان أولى وقد جعل مال المديون في حكم الزكاة كالمملوك لصاحب الدين حيث يجب عليه الزكاة بسببه و " محمد " - C تعالى - أشار في الكتاب إلى هذا وقال إيجاب الزكاة من مال المديون يؤدي إلى تزكية مال واحد في حول واحد مرارا . بيناه فيمن له عبد للتجارة يساوي ألف درهم باعه بألف نسيئة ثم باعه المشتري من آخر حتى تداولته عشر من الأيدي فعنده يجب على كل واحد منهم زكاة الألف إذا تم الحول والمال في الحقيقة ليس إلا العبد حتى إذا أقيلت البيوع رجع العبد إلى الأول ولم يبق لأحد سواه شيء . وروى " ابن المبارك " عن " أبي حنيفة " - C تعالى - أن الدين يمنع وجوب العشر وبعد التسليم فالعشر مؤنة الأرض النامية كالخراج لا معتبر فيه بغنى المالك فإن أصل المالك فيه غير معتبر عندنا حتى يجب في الأرض الموقوفة وأرض المكاتب بخلاف الزكاة فإن وجوبها في المال النامي بواسطة غنى المالك وذلك ينعدم بسبب الدين فإن لحقه دين في خلال الحول قال " أبو يوسف " - C تعالى - لا ينقطع به الحول .
صفحة [ 161 ] حتى إذا سقط قبل تمام الحول تلزمه الزكاة إذا تم الحول وقال " زفر " - C تعالى - ينقطع الحول بلحوق الدين وهذا لأن الدين يعدم صفة الغنى في المالك فيكون نظير نقصان النصاب وعند " زفر " - C تعالى - بنقصان النصاب في خلال الحول ينقطع الحول وعندنا لا ينقطع على ما نبين فهذا مثله . قال : فإن حضر المصدق فقال لم يحل الحول على السائمة أو قال " علي " دين يحيط بقيمتها أو قال ليست هذه السائمة لي وحلف صدق على جميع ذلك لأنه أمين فيما يجب عليه من الزكاة فإنها عبادة خالصة لله تعالى وكل أمين مقبول القول في العبادات التي تجب لحق الله تعالى فإذا أنكر وجوب الزكاة عليه بما ذكر من الأسباب وجب على الساعي تصديقه ولكن يحلفه على ذلك إلا في رواية عن " أبي يوسف " - C تعالى - قال لا يمين عليه لأن في العبادات لا يتوجه اليمين كما لو قال صمت أو صليت يصدق في ذلك من غير يمين وفي ظاهر الرواية قال القول الأمين مع اليمين وفي سائر العبادات إنما لا يتوجه اليمين لأنه ليس هناك من يكذبه وهنا الساعي مكذب له فيما يخبر به فلهذا يحلف على ذلك . قال : وإن قال أخذها مني مصدق آخر وحلف على ذلك فإن لم يكن في تلك السنة مصدق آخر لا يقبل قوله لأن الامين إذا أخبر بما هو محتمل كان مصدقا وإذا أخبر بما هو مستنكر لم يكن مصدقا وهذا أخبر بما هو مستنكر وإن كان في تلك السنة مصدق آخر فالقول قوله أتى بالبراءة أو لم يأت بها هكذا ذكره في المختصر وهو رواية الجامع الصغير وفي كتاب الزكاة يقول وجاء بالبراءة وفيه إشارة إلى أن المجيء بالبراءة شرط لتصديقه وهو رواية " الحسن بن زياد " عن " أبي حنيفة " - رحمهم الله تعالى - وجهه أنه أخبر بخبر ولصدقه علامة فإن العادة أن المصدق إذا أخذ الصدقة دفع البراءة فإن وافقته تلك العلامة قبل خبره وإلا فلا كالمرأة التي أخبرت بالولادة فإن شهدت القابلة بها قبلت وإلا فلا ووجه الرواية الأخرى وهو أصح أن البراءة خط والخط يشبه الخط وقد لا يأخذ صاحب السائمة البراءة غفلة منه وقد تضل البراءة منه بعد الأخذ فلا يمكن أن تجعل حكما فبقي المعتبر قوله مع يمينه . قال : فإن قال دفعتها إلى المساكين لم يصدق وتؤخذ منه الزكاة عندنا وقال " الشافعي " - C تعالى - يصدق في ذلك لأن الزكاة إنما وجبت لحق الفقراء قال الله تعالى " : { إنما الصدقات للفقراء " } وقال : { وفي أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم } فإذا أوصل الحق إلى المستحق والمستحق من أهل أخذ حقه برئت ذمته .
صفحة [ 162 ] كالمشتري من الوكيل إذا أقبض الموكل الثمن وهذا لأن الساعي يقبض ليصرف إلى الفقراء فهو كفى الساعي هذه المؤنة وأوصلها إلى محلها فلم يبق عليه سبيل .
ولنا أن هذا حق مالي يستوفيه الإمام بولاية شرعية لا يملك من عليه إسقاط حقه في الاستيفاء كمن عليه الجزية إذا صرف بنفسه إلى المقاتلة ثم تقرير هذا الكلام من وجهين أحدهما أن الزكاة محض حق الله تعالى فإنما يستوفيه من يعين نائبا في استيفاء حقوق الله تعالى وهو الإمام فلا تبرأ ذمته إلا بالصرف إليه وعلى هذا نقول وإن علم صدقه فيما يقول يؤخذ منه ثانيا ولا يبرأ بالأداء إلى الفقير فيما بينه وبين ربه وهو اختيار بعض مشايخنا - رحمهم الله تعالى - أن للإمام رأيا في اختيار المصرف فلا يكون له أن يبطل رأي الإمام بالأداء بنفسه . والطريق الآخر أن الساعي عامل للفقير وفي المأخوذ حق الفقير ولكنه مولى عليه في هذا الأخذ حتى لا يملك المطالبة بنفسه ولا يجب الأداء بطلبه فكيون بمنزلة دين لصغير دفعه المديون إليه دون الوصي وعلى هذا الطريق يقول يبرأ بالأداء فيما بينه وبين ربه وظاهر قوله في الكتاب لم يصدق في ذلك إشارة إلى ذلك وهو أنه إذا علم صدقه لم يتعرض له وهذا لأن الفقير من أهل أن يقبض حقه ولكن لا يجب الإيفاء بطلبه فجعل الساعي نائبا عنه كان نظرا من الشرع له فإذا أدى من عليه من غير مطالبة إليه حصل به ما هو المقصود بخلاف الصبي فإنه ليس من أهل أن يقبض حقه فلا يبرأ بالدفع إليه