قال : وإذا قتل الشهيد في معركة لم يغسل وصلي عليه عندنا وقال " الحسن البصري " رضي الله تعالى عنه يغسل ويصلى عليه . وقال " الشافعي " رضي الله تعالى عنه لا يصلى .
صفحة [ 50 ] عليه . أما " الحسن " فقال الغسل سنة الموتى من بني آدم جاء في الحديث : أن " آدم " لما مات غسلته الملائكة وصلوا عليه ثم قالوا هذه سنة موتاكم يا بني آدم والشهيد ميت بأجله ولأن غسل الميت تطهير له حتى تجوز الصلاة عليه بعد غسله لا قبله والشهيد يصلى عليه فيغسل أيضا تطهيرا له وإنما لم يغسل شهداء أحد لأن الجراحات فشت في الصحابة في ذلك اليوم وكان يشق عليهم حمل الماء من المدينة وغسلهم لأن عامة جراحاتهم كانت في الأيدي فعذرهم لذلك . ولنا " ما روي أن النبي A قال في شهداء أحد : زملوهم بدمائهم ولا تغسلوهم فإنه ما من جريح يجرح في سبيل الله إلا وهو يأتي يوم القيامة وأوداجه تشخب دما اللون لون الدم والريح ريح المسك " وما قاله " الحسن " من التأويل باطل فإنه لم يأمر بالتيمم ولو كان ترك الغسل للتعذر لأمر أن ييمموا كما لو تعذر غسل الميت في زمان لعدم الماء ولأنه لم يعذرهم في ترك الدفن وكانت المشقة في حفر القبور للدفن أظهر منها في الغسل وكما لم يغسل شهداء أحد لم يغسل شهداء بدر كما رواه " عقبة بن عامر " وهذه الضرورة لم تكن يومئذ وكذلك لم يغسل شهداء الخندق و " خيبر " فظهر أن الشهيد لا يغسل . وقال " الشافعي " رضي الله تعالى عنه لا يصلى عليه لحديث " " جابر " رضي الله تعالى عنه : أن النبي A ما صلى على أحد من شهداء أحد " ولأنهم بصفة الشهادة تطهروا من دنس الذنوب كما " قال E : السيف محاء الذنوب " صلاة عليه شفاعة له ودعاء لتمحيص ذنوبه وقد استغنى عن ذلك كما استغنى عن الغسل ولأن الله تعالى وصف الشهداء بأنهم أحياء فقال " : { ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء } " آل عمران : 169 والصلاة على الميت لا على الحي . ولنا " ما روي : أن النبي A صلى على شهداء أحد صلاته على الجنازة حتى روي أنه صلى على " حمزة " رضي الله تعالى عنه سبعين صلاة " وتأويله أنه كان موضوعا بين يديه فيؤتى بواحد واحد فيصلي عليه رسول الله A فظن الراوي أنه صلى لى " حمزة " في كل مرة فقال صلى عليه سبعين صلاة . لاشك أن النبي صلىالله عليه وسلم كان مدركا لذلك ويريدلعمه السبق في مضاعفة المثوبة البرنامج وحديث " جابر " رضي الله تعالى عنه ليس بقوي . وقيل : إنه كان يومئذ مشغولا فقد قتل أبوه وأخوه وخاله فرجع إلى المدينة ليدبر كيف يحملهم إلى المدينة فلم يكن حاضرا حين صلى رسول الله A عليهم فلهذا روى ما روى ومن شاهد النبي A فقد " روى أنه صلى عليهم ثم سمع " جابر " Bه منادي رسول الله A أن يدفن الموتى في مصارعهم فرجع فدفنهم فيها " ولأن الصلاة على الميت لإظهار كرامته ولهذا اختص به المسلمون و " نهى رسول الله A عن الصلاة على المنافقين " والشهيد أولى بما هو من أسباب الكرامة والعبد وإن تطهر من الذنوب فلا تبلغ درجته درجة الاستغناء عن الدعاء له ألا ترى أنهم صلوا على رسول الله A فلا إشكال أن درجته فوق درجة الشهداء والشهيد حي في أحكام الآخرة كما قال تعالى : { " بل أحياء عند ربهم " } آل عمران : 169 فأما في أحكام الدنيا فهو ميت يقسم ميراثه وتتزوج امرأته بعد انقضاء العدة وفريضة الصلاة عليه من أحكام الدنيا فكان فيه ميتا يصلى عليه .
قال : ويكفن في ثيابه التي هي عليه " لقول رسول الله A : زملوهم بدمائهم وكلومهم " وروى أن " زيد بن صوحان " لما استشهد يوم الجمل قال لا تغسلوا عني دما ولا تنزعوا عني ثوبا فإني رجل محجاج أحاج يوم القيامة من قتلني ولما استشهد " عمار بن ياسر " " بصفين " قال لا تغسلوا عني دما ولا تنزعوا عني ثوبا فإني ألتقي " ومعاوية " بالجادة وهكذا نقل عن " حجر بن عدي " غير أنه ينزع عنه السلاح والجلد والفرو والحشو والخف والقلنسوة لأنه إنما لبس هذه الأشياء لدفع بأس العدو وقد استغنى عن ذلك ولأن هذا عادة أهل الجاهلية لأنهم كانوا يدفنون .
صفحة [ 51 ] أبطالهم بما عليهم من الأسلحة وقد نهينا عن التشبه بهم . قال : ويزيدون في أكفانهم ما شاؤوا وينقصون ما شاؤوا واستدلوا بهذا اللفظ على أن عدد الثلاث في الكفن ليس بلازم ويخيطونه إن شاءوا كما يفعل ذلك بغيره من الموتى إنما لا يزال عنه أثر الشهادة فأما فيما سوى ذلك فهو كغيره من الموتى . قال : وإن حمل من المعركة حيا ثم مات في بيته أو على أيدي الرجال غسل لأنه صار مرتثا وقد ورد الأثر بغسل المرتث ومعناه من خلق أمره في باب الشهادة يقال ثوب رث أي خلق . والأصل فيه أن " عمر " Bه لما طعن حمل إلى بيته فعاش يومين ثم غسل وكان شهيدا على لسان رسول الله A كذلك " علي " Bه حمل حيا بعد ما طعن ثم غسل وكان شهيدا فأما " عثمان " Bه فأجهز عليه في مصرعه ولم يغسل فعرفنا بذلك أن الشهيد الذي لا يغسل من أجهز عليه في مصرعه دون من يحمل حيا وهذا إذا حمل ليمرض في خيمته أو في بيته . وأما إذا جر برجله من بين الصفين لكيلا تطؤه الخيول فمات لم يغسل لأن هذا ما نال شيئا من راحة الدنيا بعد صفة الشهادة فتحقق بذل نفسه ابتغاء مرضات الله تعالى والأول بحسب ما مرض قد نال راحة الدنيا بعد فيغسل وإن كان له ثواب الشهداء كالغريق والحريق والمبطون والغريب يغسلون وهم شهداء على لسان رسول الله A . قال : وما قتل به في المعركة من سلاح أو غيره فهو سواء لا يغسل لأن الأصل شهداء أحد وفيهم من دمغ رأسه بالحجر وفيهم من قتل بالعصا ثم عمهم رسول الله A في الأمر بترك الغسل ولأن الشهيد باذل نفسه ابتغاء مرضات الله تعالى قال الله تعالى : { " إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة " } التوبة : 111 وفي هذا المعنى السلاح وغيره سواء .
قال : وإن وجد في المعركة ميتا ليس به أثر غسل لأن المقتول يفارق الميت بالأثر فإذا لم يكن به أثر فالظاهر أنه لم يكن انزهاق روحه بقتل مضاف إلى العدو بل لما التقى الصفان انخلع قناع قلبه من شدة الفزع فمات والجبان مبتلى بهذا . وإن كان به أثر لم يغسل لأن الظاهر أن موته كان بذلك الجرح وأنه كان من العدو فاجتماع الصفين كان لهذا والأصل أن الحكم متى ظهر عقيب سبب يحال على ذلك السبب . فإن كان الدم يخرج من بعض مخارقه نظر : فإن كان الدم يخرج من ذلك الموضع من غير جرح في الباطن غسل وذلك كالأنف والدبر والذكر فقد يبتلى بالرعاف وقد يبول دما لشدة الفزع وقد يخرج الدم من الدبر من غير جرح في الباطن وإن كان .
صفحة [ 52 ] يخرج الدم من أذنه أو عينه لم يغسل لأن الدم لا يخرج من هذين الموضعين عادة إلا بجرح في الباطن فالظاهر أنه ضرب على رأسه حتى خرج الدم من أذنه أو عينه وإن كان يخرج من فيه فإن كان ينزل من رأسه غسل وجرحه من جانب الفم ومن جانب الأنف سواء وإن كان يعلو من جوفه لم يغسل لأن الدم لا يعلو من الجوف إلا بجرح في الباطن وإنما يعرف ذلك بلون الدم . قال : ومن صار مقتولا من جهة قطاع الطريق لم يغسل أيضا لأنه قتل دافعا عن ماله وقد " قال E : من قتل دون ماله فهو شهيد " فلهذا لا يغسل .
قال : ومن قتل في المصر بسلاح ظلما لم يغسل أيضا عندنا وقال الشافعي Bه يغسل وهو بناء على أن عنده القتل العمد موجب للدية كالخطأ فإذا وجب عن نفسه بدل هو مال غسل وعندنا العمد غير موجب للمال فهذا مقتول ظلما لم يجب عن نفسه بدل هو مال فكان شهيدا . والقصاص الواجب ليس ببدل محض بل هو عقوبة زاجرة فلا يخل بصفة الشهادة واعتمادنا فيه على حديث " عثمان " رضي الله تعالى عنه فقد قتل في المصر وكان شهيدا ولم يغسل . وإن قتل بغير سلاح غسل لأن هذا في معنى الخطأ حتى يجب عن نفسه بدل هو مال .
وذكر " الطحاوي " C تعالى أنه إذا قتل بحجر أو عصا كبير فهو عندهما والقتل بالسلاح سواء وعند " أبي حنيفة " Bه يغسل وهو بناء على اختلافهم في وجوب القصاص في القتل بهذه الآلة . قال : ولو قتل بحق في قصاص أو رجم غسل لما " روى أن ماعزا لما رجم جاء عمه إلى رسول الله A فقال قتل ما عز كما تقتل الكلاب فماذا تأمرني أن أصنع به فقال لا تقل هذا فقد تاب توبة لو قسمت توبته على أهل الأرض لوسعتهم اذهب فغسله وكفنه وصل عليه " ولأن الشهيد باذل نفسه لابتغاء مرضات الله تعالى وهذا لا يوجد في المقتول بحق فإنه باذل نفسه لإيفاء حق مستحق عليه وكذلك من مات من حد أو تعزيز غسل لما بينا وكذلك من عدا على قوم ظلما فقتلوه غسل لأن الظالم غير باذل نفسه لابتغاء مرضات الله تعالى فهو في حكم الغسل كغيره من الموتى .
قال : ومن قتله السبع أو احترق بالنار أو تردى من جبل أو مات تحت هدم أو غرق غسل كغيره من الموتى لأن هذه الأشياء غير معتبرة شرعا في أحكام الدنيا فهو والميت حتف أنفه سواء وكذلك من وجد مقتولا في محلة لا يدري من قتله غسل لأنه استحق عن نفسه بدلا هو مال فالقسامة والدية تجب على أهل المحلة . قال : ويصنع بالمحرم ما يصنع بالحلال يعني يخمر رأسه ووجهه بالكفن عندنا .
صفحة [ 53 ] وقال " الشافعي " Bه لا يخمر رأسه واستدل بما " روى أن أعرابيا محرما وقصت به ناقته في " أخافيق جردان " فاندقت عنقه فقال رسول الله A لا تخمروا وجهه ولا رأسه فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا أو قال ملبدا " ولأنه مات وهو مشغول بعبادة لها أثر فيبقى عليه ذلك الأثر كالغازي إذا استشهد " ولنا حديث " عطاء " أن النبي A سئل عن محرم مات فقال : خمروا رأسه ووجهه ولا تشبهوه باليهود . " وسئلت " عائشة " Bها عن ذلك فقالت اصنعوا به ما تصنعون بموتاكم وأن " عبدالله بن عمر " Bهما لما مات ابنه واقد وهو محرم كفنه وعممه وحنكه وقال لولا أنا محرمون لحنطناك يا واقد ولأن إحرامه قد انقطع بموته .
و " قال E : إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث " والإحرام ليس منها فينقطع بالموت ولهذا لا يبني المأمور بالحج على إحرامه والتحق بالحلال وإذا جاز أن يخمر رأسه ووجهه باللبن والتراب فكذلك بالكفن . وحديث الأعرابي تأويله أن النبي عليه الصلاة السلام عرف بطريق الوحي خصوصيته ببقاء إحرامه بعد موته وقد كان رسول الله A يخص بعض أصحابه بأشياء