وقد احتج صاحب الكشاف على كون أصله الإله ببيت البعيث المقدم ولم يقرر ناظروه وجه احتجاجه به وهو احتجاج وجيه لأن معاذ من المصادر التي لم ترد في استعمالهم مضافة لغير اسم الجلالة مثل سبحان فأجريت مجرى الأمثال في لزومها لهاته الإضافة إذ تقول معاذ الله فلما قال الشاعر معاذ الإله وهو من فصحاء أهل اللسان علمنا أنهم يعتبرون الإله أصلا للفظ الله ولذلك لم يكن هذا التصرف تغييرا إلا أنه تصرف في حروف اللفظ الواحد كاختلاف وجوه الأداء مع كون اللفظ واحدا ألا ترى أنهم احتجوا على أن لاه مخفف الله بقول ذي الأصبع العدواني : .
لاه ابن عمك لا أفضلت في حسب ... عني ولا أنت دياني فتخزوني وبقولهم لاه أبوك لأن هذا مما لزم حالة واحدة إذ يقولون لله أبوك ولله ابن عمك ولله أنت .
وقد ذكرت وجوه أخر في أصل اسم الجلالة : منها أن أصله لاه مصدر لاه يليه ليها إذا احتجب سمي به الله تعالى ثم أدخلت عليه الألف واللام للمح الأصل كالفضل والمجد اسمين وهذا الوجه ذكر الجوهري عن سيبويه أنه جوزه . ومنها أن أصله ولاه بالواو فعال بمعنى مفعول من وله إذا تحير ثم قلبت الواو همزة لاستثقال الكسرة عليها كما قلبت في إعاء وإشاح أي وعاء ووشاح ثم عرف بالألف واللام وحذفت الهمزة . ومنها أن أصله " لاها " بالسريانية علم له تعالى فعرب بحذف الألف وإدخال اللام عليه . ومنها أنه علم وضع لاسم الجلالة بالقصد الأولي من غير أخذ من أله وتصييره الإله فتكون مقاربته في الصورة لقولنا الإله مقاربة اتفاقية غير مقصودة وقد قال بهذا جمع منهم الزجاج ونسب إلى الخليل وسيبويه ووجهه بعض العلماء بأن العرب لم تهمل شيئا حتى وضعت له لفظا فكيف يتأتى منهم إهمال اسم له تعالى لتجري عليه صفاته .
وقد التزم في لفظ الجلالة تفخيم لامه إذا لم ينكسر ما قبل لفظه وحاول بعض الكاتبين توجيه ذلك بما لا يسلم من المنع ولذلك أبى صاحب الكشاف التعريج عليه فقال " وعلى ذلك " أي التفخيم " العرب كلهم وإطباقهم عليه دليل أنهم ورثوه كابرا عن كابر " .
وإنما لم يقدم المسند المجرور وهو متضمن لاسم الجلالة على المسند إليه فيقال : لله الحمد ؛ لأن المسند إليه حمد على تنزيل القرآن والتشرف بالإسلام وهما منة من الله تعالى فحمده عليهما عند ابتداء تلاوة الكتاب الذي به صلاح الناس في الدارين فكان المقام للاهتمام به اعتبارا لأهمية الحمد العارضة وإن كان ذكر الله أهم أصالة فإن الأهمية العارضة تقدم على الأهمية الأصلية لاقتضاء المقام والحال . والبلاغة هي المطالبة لمقتضى الحال . على أن الحمد لما تعلق باسم الله تعالى كان في الاهتمام به اهتمام بشئون الله تعالى .
ومن أعجب الآراء ما ذكره صاحب " المنهل الأصفى في شرح الشفاء " التلمساني عن جمع من العلماء القول بأن اسم الجلالة يمسك عن الكلام في معناه تعظيما وإجلالا ولتوقف الكلام فيه على إذن الشارع .
( رب العلمين [ 2 ] ) وصف لاسم الجلالة فإنه بعد أن أسند الحمد لاسم ذاته تعالى تنبيها على الاستحقاق الذاتي عقب بالوصف وهو الرب ليكون الحمد متعلقا به أيضا لأن وصف المتعلق متعلق أيضا فلذلك لم يقل الحمد لرب العالمين كما قال ( يوم يقوم الناس لرب العالمين ) ليؤذن باستحقاقه الوصفي أيضا للحمد كما استحقه بذاته . وقد أجرى عليه أربعة أوصاف هي : رب العالمين الرحمان الرحيم ملك يوم الدين للإيذان بالاستحقاق الوصفي فإن ذكر هذه الأسماء المشعرة بالصفات يؤذن بقصد ملاحظة معانيها الأصلية . وهذا من المستفادات من الكلام بطريق الاستتباع لأنه لما كان في ذكر الوصف غنية عن ذكر الموصوف لا سيما إذا كان الوصف منزلا منزلة الاسم كأوصافه تعالى وكان في ذكر لفظ الموصوف أيضا غنية في التنبيه على استحقاق الحمد المقصود من الجملة علمنا أن المتكلم ما جمع بينهما إلا وهو يشير إلى أن كلا مدلولي الموصوف والصفة جدير بتعلق الحمد له . مع ما في ذكر أوصافه المختصة به من التذكير بما يميزه عن الآلهة المزعومة عند الأمم من الأصنام والأوثان والعناصر كما سيأتي عند قوله تعالى ( ملك يوم الدين ) .
A E