وظاهر الآية الأمر بدفع المال لليتيم ولا يجوز في حكم الشرع أن يدفع المال له ما دام مطلقا عليه اسم اليتيم إذ اليتيم خاص بمن لم يبلغ وهو حينئذ غير صالح للتصرف في ماله فتعين تأويل الآية إما بتأويل لفظ الإيتاء أو بتأويل اليتيم فلنا أن نؤول ( آتوا ) بغير معنى ادفعوا . وذلك بما نقل عن جابر بن زيد أنه قال : نزلت هذه الآية في الذين لا يورثون الصغار مع وجود الكبار في الجاهلية فيكون ( آتوا ) بمعنى عينوا لهم حقوقهم وليكون هذا الأمر وما يذكر بعده تأسيسات أحكام ل تأكيد بعضها لبعض . وقال صاحب الكشاف " يراد بإيتائهم أموالهم أن لا يطمع فيها الأولياء والأوصياء وولاة السوء وقضاته ويكفوا عنها أيديهم الخاطفة حتى تأتي اليتامى إذا بلغوا سالمة " فهو تأويل للإيتاء بلازمة وهو الحفظ الذي يترتب عليه الإيتاء كناية بإطلاق اللازم وإرادة الملزوم أو مجاز بالمآل إذ الحفظ يؤول إلى الإيتاء عليه فيكون هو معنى قوله تعالى ( ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم ) . وعلى هذين الوجهين فالمارد هنا الأمر بحفظ حقوق اليتامى من الإضاعة لا تسليم المال إليهم وهو الظاهر من الآية إذ سيجيء في قوله ( وابتلوا اليتامى ) الآية . ولنا أن نؤول اليتامى بالذين جاوزوا حد اليتم ويبقى الإيتاء بمعنى الدفع ويكون التعبير عنهم باليتامى للإشارة إلى وجوب دفع أموالهم إليهم في فور خروجهم من حد اليتيم أو يبقى على حاله ويكون هذا الإطلاق مقيدا بقوله الآتي ( حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ) . ومن الناس من قال : اليتيم يطلق على الصغير والكبير لأنه مشتق من معنى الانفراد أي انفراده عن أبيه ولا يخفى أن هذا القول جمود على توهم أن الانفراد حقيقي وإنما وضع اللفظ للانفراد المجازي وهو انعدام الأب المنزل منزلة بقاء الولد منفردا وما هو بمنفرد فإن له أما وقوما .
قيل : نزلت هذه الآية في رجل من غطفان كان له ابن أخ في حجره فلما بلغ طلب ماله فمنعه عمه فنزلت هذه الآية فرد المال لابن أخيه وعلى هذا فهو المراد من قوله تعالى ( ولا تأكلوا أموالهم ) .
وقوله ( ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ) أي لا تأخذوا الخبيث وتعطوا الطيب . والقول في تعدية فعل تبدل ونظائره مضى عند قوله تعالى في سورة البقرة ( قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير ) وعلى ما تقرر هناك يتعين أن يكون الخبيث هو المأخوذ والطيب هو المتروك .
والخبيث والطيب أريد هما الوصف المعنوي دون الحسي وهما استعارتان ؛ فالخبيث المذموم أو الحارم والطيب عكسه وهو الحلال : وتقدم في قوله تعالى ( يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا ) في البقرة . فالمعنى : ولا تكسبوا المال الحرام وتتركوا الحلال أي لو اهتممتم بإنتاج أموالكم وتوفيرها بالعمل والتجر لكان لكم من خلالها ما فيه غنية عن الحرام فالمنهي عنه هنا هو ضد المأمور به قبل تأكيدا للأمر ولكن النهي بين ما فيه من الشناعة إذا لم يمتثل المر وهذا الوجه ينبئ عن جعل التبديل مجازا والخبيث والطيب كذلك ولا ينبغي حمل الآية على غير هذا المعنى وهذا الاستعمال . وعن السدي ما يقتضي خلاف هذا المعنى وهو غير مرضي .
وقوله ( لا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم ) نهي ثالث عن أخذ أموال اليتامى وضمها إلى أموال أوليائهم فينتسق في الآية أمر ونهيان : أمروا أن لا يمنعوا اليتامى من مواريثهم ثم نهوا عن اكتساب الحرام ثم نهوا عن الاستيلاء على أموالهم أو بعضها والنهي والأمر الأخير تأكيدان للأمر الأول .
والأكل استعارة للانتفاع المانع من انتفاع الغير وهو الملك التام لأن الأكل هو أقوى أحوال الاختصاص بالشيء لأنه يحرزه في داخل جسده ولا مطمع في إرجاعه وضمن ( تأكلوا ) معنى تضموا فذلك عدى ب ( إلى ) أي : لا تأكلوها بأن تضموها إلى أموالكم .
A E