وقد اشتملت على أغراض وأحكام كثيرة أكثرها تشريع معاملات الأقرباء وحقوقهم فكانت فاتحتها مناسبة لذلك بالتذكير بنعمة خلق الله وأهم محقوقون بأن يشكروا ربهم على ذلك وأن يراعوا حقوق النوع الذي خلقوا منه بأن يصلوا أرحامهم القريبة والبعيدة وبالرفق بضعفاء النوع من اليتامى ويراعوا حقوق صنف النساء من نوعهم بإقامة العدل في معاملاتهن والإشارة إلى النكاح والصداق وشرع قوانين المعاملة مع النساء في حالتي الاستقامة والانحراف من كلا الزوجين ومعاشرتهن والمصالحة معهن وبيان ما يحل للتزوج منهن والمحرمات بالقرابة أو الصهر وأحكام الجواري بملك اليمين . وكذلك حقوق مصير المال إلى القرابة وتقسيم ذلك وحقوق حفظ اليتامى في أموالهم وحفظها لهم والوصاية عليهم .
ثم أحكام المعاملات بين جماعة المسلمين في الأموال والدماء وأحكام القتل عمدا وخطأ وتأصيل الحكم الشرعي بين المسلمين في الحقوق والدفاع عن المعتدى عليه والأمر بإقامة العدل بدون مصانعة والتحذير من اتباع الهوى والأمر بالبر والمواساة وأداء الأمانات والتمهيد لتحريم شرب الخمر .
وطائفة من أحكام الصلاة والطهارة وصلاة الخوف . ثم أحوال اليهود لكثرتهم بالمدينة وأحوال المنافقين وفضائحهم وأحكام الجهاد لدفع شوكة المشركين . وأحكام معاملة المشركين ومساويهم ووجوب هجرة المؤمنين من مكة وإبطال مآثر الجاهلية .
وقد تخلل ذلك مواعظ وترغيب ونهي عن الحسد وعن تمني ما للغير من المزايا التي حرم منها من حرم بحكم الشرع أو بحكم الفطرة . والترغيب في التوسط في الخير والإصلاح . وبث المحبة بين المسلمين .
( يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا ونساء ) جاء الخطاب ب ( يا أيها الناس ) : ليشمل جميع أمة الدعوة الذين يسمعون القرآن يومئذ وفيما يأتي من الزمان . فضمير الخطاب في قوله ( خلقكم ) عائد إلى الناس المخاطبين بالقرآن أي لئلا يختص بالمؤمنين إذ غير المؤمنين حينئذ هم كفار العرب وهم الذين تلقوا دعوة الإسلام قبل جميع البشر لأن الخطاب جاء بلغتهم وهم المأمورون بالتبليغ لبقية الأمم وقد كتب النبي A كتبه للروم وفارس ومصر بالعربية لتترجم لهم بلغاتهم . فلما كان ما بعد هذا النداء جامعا لما يؤمر به الناس بين مؤمن وكافر نودي جميع الناس فدعاهم الله إلى التذكر بأن أصلهم واحد إذ قال ( اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة ) دعوة تظهر فيها المناسبة بين وحدة النوع ووحدة الاعتقاد فالمقصود من التقوى في ( اتقوا ربكم ) اتقاء غضبه ومراعاة حقوقه وذلك حق توحيده والاعتراف له بصفات الكمال وتنزيه عن الشركاء في الوجود والأفعال والصفات .
وفي هذه الصلة براعة استهلال مناسبة لما اشتملت عليه السورة من الأغراض الأصلية فكانت بمنزلة الديباجة .
وعبر ب ( ربكم ) دون الاسم العالم لأن في معنى الرب ما يبعث العباد على الحرص في الإيمان بوحدانيته إذ الرب هو المالك الذي يرب مملوكه أي يدبر شؤونه وليتأتى بذكر لفظ " الرب " طريق الإضافة الدالة على أنهم محقوقون بتقواه حق التقوى والدالة على أن بين الرب والمخاطبين صلة تعد إضاعة حماقة وضلالا . وأما التقوى في قوله ( واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام ) فالمقصد الأهم منها : تقوى المؤمن بالحذر من التساهل في حقوق الأرحام واليتامى من النساء والرجال . ثم جاء باسم الموصول ( الذي خلقكم ) الإيمان إلى وجه بناء الخير لأن الذي خلق الإنسان حقيق بأن يتقى .
ووصل ( خلقكم ) بصلة ( من نفس واحدة ) إدماج للتنبيه على عجيب هذا الخلق وحقه بالاعتبار . وفي الآية تلويح للمشركين بأحقية اتباعهم دعوة الإسلام لأن الناس أبناء أب واحد وهذا الدين يدعو الناس كلهم إلى متابعته ولم يخص أمة من الأمم أو نسبا من الأنساب فهو جدير بأن يكون دين جميع البشر بخلاف بقية الشرائع فهي مصرحة باختصاصها بأمم معينة . وفي الآية تعريض للمشركين بأن أولى الناس بأن يتبعوه هو محمد A لأنه من ذوي رحمهم . وفي الآية تمهيد لما سيبين في هذه السورة من الأحكام المرتبة على النسب والقرابة