عطف على جملة ( لكن الذين اتقوا ربهم ) استكمالا لذكر الفرق في تلقى الإسلام : فهؤلاء فريق الذين آمنوا من أهل الكتاب ولم يظهروا إيمانهم لخوف قومهم مثل النجاشي أصحمة وأثنى الله عليهم بأنهم لا يحرفون الدين والآية مؤذنة بأنهم لم يكونوا معروفين بذلك لأنهم لو عرفوا بالإيمان لما كان من فائدة في وصفهم بأنهم من أهل الكتاب وهذا الصنف بعكس حال المنافقين . وأكيد الخبر بإن وبلام الابتداء للرد على المنافقين الذين قالوا لرسول الله لما صلى على النجاشي : انظروا إليه يصلي على نصراني ليس على دينه ولم يره قط . على ما روي عن ابن عباس وبعض أصحابه أن ذلك سبب نزول هذه الآية . ولعل وفاة النجاشي حصلت قبل غزوة أحد .
وقيل : أريد بهم هنا من أظهر إيمانه وتصديقه من اليهود مثل عبد الله بن سلام ومخيرق وكذا من آمن من نصارى نجران أي الذين أسلموا ورسول الله بمكة إن صح خبر إسلامهم .
وجيء باسم الإشارة في قوله ( أولئك لهم أجرهم عند ربهم ) للتنبيه على أن المشار إليهم به أحرياء بما سيرد من الإخبار عنهم لأجل ما تقدم اسم الإشارة .
وأشار بقوله ( إن الله سريع الحساب ) إلى أنه يبادر لهم بأجرهم في الدنيا ويجعله لهم يوم القيامة .
( يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون [ 200 ] ) ختمت السورة بوصاية جامعة للمؤمنين تجدد عزيمتهم وتبعث الهمم إلى دوام الاستعداد للعدو كي لا يثبطهم ما حصل من الهزيمة فأمرهم بالصبر الذي هو جماع الفضائل وخصال الكمال ثم بالمصابرة وهي الصبر في وجه الصابر وهذا أشد الصبر ثباتا في النفس وأقربه إلى التزلزل وذلك أن الصبر في وجه صابر آخر شديد على نفس الصبر لما يلاقيه من مقاومة قرن له في الصبر قد يساويه فإنه لا يجتني من صبره شيئا لأن نتيجة الصبر تكون لأطول الصابرين صبرا كما قال زفر بن الحارث في اعتذاره عن الانهزام : .
سقيناهم كأسا سقونا بمثلها ... ولكنهم كانوا على الموت أصبرا فالمصابرة هي سبب نجاح الحرب كما قال شاعر العرب الذي لم يعرف اسمه : .
هل أنت في الهيجا مصابرة ... يصلى بها كل من عاداك نيرانا . وقوله ( ورابطوا ) أمر لهم بالمرابطة وهي مفاعلة من الربط وهو ربط الخيل للحراسة عن غير الجهاد خشية أن يفجأهم العدو أمر الله به المسلمين ليكونوا دائما على حذر من عدوهم تنبيها لهم على ما يكبد به المشركون من مفاجاتهم على غرة بعد وقعة أحد كما قدمناه آنفا وقد وقع ذلك منهم في وقعة الأحزاب فلما أمرهم الله بالجهاد أمرهم بأن يكونوا بعد ذلك أيقاظا من عدوهم . وفي كتاب الجهاد من البخاري : باب فضل رباط يوم في سبيل الله وقول الله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا ) الخ . وكانت المرابطة معروفة في الجاهلية وهي ربط الفرس للحراسة في الثغور أي الجهات التي يستطيع العدو الوصول منها إلى الحي مثل الشعاب بين الجبال . وما رأيت من وصف ذلك مثل لبيد في معلقته إذ قال : .
ولقد حميت الحي تحميل شكتي ... فرط وشاحي إذ غدوت لجامها .
فعلوت مرتقبا على ذي هبوة ... حرج إلى إعلامهن قتامها A E .
حتى إذا ألفت يدا في كافر ... واجن عورات الثغور ظلامها