وأما المسلك الثالث وهو الاستدلال من طريق الاستعمال العربي فيأتي القول فيه على مراعاة قول القائلين بأن البسملة آية من سورة الفاتحة خاصة وذلك يوجب أن يتكرر لفظان وهما الرحمن الرحيم في كلام غير طويل ليس بينهما فصل كثير وذلك مما لا يحمد في باب البلاغة وهذا الاستدلال نقله الإمام الرازي في تفسيره وأجاب عنه بقوله : إن التكرار لآجل التأكيد كثير في القرآن وإن تأكيد كونه تعالى رحمانا رحيما من أعظم المهمات0 وأنا أدفع جوابه بأن التكرار وإن كانت له مواقع محمودة في الكلام البليغ مثل التهويل ومقام الرثاء أو التعديد أو التوكيد اللفظي إلا أن الفاتحة لا مناسبة لها بأغراض التكرير ولا سيما التوكيد لأنه لا منكر لكونه تعالى رحمانا رحيما ولأن شأن التوكيد اللفظي أن يقترن فيه اللفظان بلا فصل فتعين أنه تكرير اللفظ في الكلام لوجود مقتضى التعبير عن مدلوله بطريق الاسم الظاهر دون الضمير وذلك مشروط بأن يبعد ما بين الكررين بعدا يقصيه عن السمع وقد علمت أنهم عدوا في فصاحة الكلام خلوصه من كثرة التكرار والقرب بين الرحمن والرحيم حين كررا يمنع ذلك . وأجاب البيضاوي بأن نكتة التكرير هنا هي تعليل استحقاق الحمد فقال السلكوتي أشار بهذا إلى الرد على ما قاله بعض الحنفية : إن البسملة لو كانت من الفاتحة للزم التكرار وهو جواب لا يستقيم لأنه إذا كان التعليل قاضيا بذكر صفتي الرحمن الرحيم فدفع التكرير يقتضي تجريد البسملة التي في أول الفاتحة من هاتين الصفتين بأن تصير الفاتحة هكذا ( بسم الله الحمد لله الخ ) .
وأنا أرى في الاستدلال بمسلك الذوق العربي أن يكون على مراعاة قول القائلين بكون البسملة آية من كل سورة فينشأ من هذا القول أن تكون فواتح سور القرآن كلها متماثلة وذلك مما لا يحمد في كلام البلغاء إذ الشأن أن يقع التفنن في الفواتح بل قد عد علماء البلاغة أهم مواضع التأنق فاتحة الكلام وخاتمته وذكروا أن فواتح السور وخواتمها واردة على أحسن وجوه البيان وأكملها فكيف يسوغ أن يدعى أن فواتح سورة جملة واحدة مع أن عامة البلغاء من الخطباء والشعراء والكتاب يتنافسون في تفنن فواتح منشآتهم ويعيبون من يلتزم في كلامه طريقة واحدة فما ظنك بأبلغ الكلام .
وأما حجة مذهب الشافعي ومن وافقه بأنها آية من سورة الفاتحة فأمور كثيرة أنهاها فخر الدين إلى سبع عشرة حجة لا يكاد يستقيم منها بعد طرح المتداخل والخارج عن محل النزاع وضعيف السند أو واهية إلا أمران : أحدهما أحاديث كثيرة منها ما روى أبو هريرة أن النبي E قال " فاتحة الكتاب سبع آيات . أولاهن بسم الله الرحمن الرحيم " . وقول أم سلمة : قرأ رسول الله A الفاتحة وعد ( بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين ) آية .
الثاني : الإجماع على أن ما بين الدفتين كلام الله .
والجواب أما عن حديث أبي هريرة فهو لم يخرجه أحد من رجال الصحيح إنما خرجه الطبراني وابن مردويه والبيهقي فهو نازل عن درجة الصحيح فلا يعارض الأحاديث الصحيحة وأما حديث أم سلمة فلم يخرجه من رجال الصحيح غير أبي داود وأخرجه أحمد بن حنبل والبيهقي وصحح بعض طرقه وقد طعن فيه الطحاوي بأنه رواه ابن أبي مليكة ولم يثبت سماع ابن أبي مليكة من أم سلمة يعني أنه مقطوع على أنه روى عنها ما يخالفه على أن شيخ الإسلام زكريا قد صرح في حاشيته على تفسير البيضاوي بأنه لم يرو باللفظ المذكور وإنما روى بألفاظ تدل على أن ( بسم الله ) آية وحدها فلا يؤخذ منه كونها من الفاتحة على أن هذا يفضي إلى إثبات القرآنية بغير المتواتر وهو ما يأباه المسلمون .
وأما عن الإجماع على أن ما بين الدفتين كلام الله فالجواب : أنه لا يقتضي إلا أن البسملة قرآن وهذا لا نزاع فيه وأما كون المواضع التي رسمت فيها في المصحف مما تجب قراءتها فيها فذلك أمر يتبع رواية القراء وأخبار السنة الصحيحة فيعود إلى الأدلة السابقة .
A E