وأما إضافة فاتحة إلى الكتاب فإضافة حقيقية باعتبار أن المراد من الكتاب بقيته عدا السورة المسماة الفاتحة كما نقول : خطبة التأليف وديباجة التقليد .
وأما تسميتها أم القرآن وأم الكتاب فقد ثبتت في السنة من ذلك ما في صحيح البخاري في كتاب الطب أن أبا سعيد الخدري رقى ملدوغا فجعل يقرأ عليه بأم القرآن وفي الحديث قصة ووجه تسميتها أم القرآن أن الأم يطلق على أصل الشيء ومنشئه وفي الحديث الصحيح قال النبي A : كل صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج " أي منقوصة مخدوجة " . وقد ذكروا لتسمية الفاتحة أم القرآن وجوها ثلاثة : أحدها أنها مبدوه ومفتتحه فكأنها أصله ومنشؤه يعني أن افتتاحه الذي هو وجود أول أجزاء لقرآن قد ظهر فيها فجعلت كالأم للولد في أنها الأصل والمنشأ فيكون أم القرآن تشبيها بالأم التي هي منشأ الولد لمشابهتها بالمنشأ من حيث ابتداء الظهور والوجود . الثاني أنها تشتمل محتوياتها على أنواع مقاصد القرآن وهي ثلاثة أنواع : الثناء على الله ثناء جامعا لوصفه بجميع المحامد وتنزيهه من جميع النقائص ولإثبات تفرده بالإلهية وإثبات البعث والجزاء وذلك من قوله ( الحمد لله ) إلى قوله ( ملك يوم الدين ) والأوامر والنواهي من قوله ( إياك نعبد ) والوعد والوعيد من قوله ( صراط الذين ) إلى آخرها فهذه هي أنواع مقاصد القرآن كله وغيرها تكملات لها لأن القصد من القرآن إبلاغ مقاصده الأصلية وهي صلاح الدارين وذلك يحصل بالأوامر والنواهي ولما توقفت الأوامر والنواهي على معرفة الآمر وأنه الله الواجب وجوده خالق الخلق لزم تحقيق معنى الصفات ولما توقف تمام الامتثال على الرجاء في الثواب والخوف من العقاب لزم تحقق الوعد والوعيد . والفاتحة مشتملة على هاته الأنواع فإن قوله ( الحمد لله ) إلى قوله ( يوم الدين ) حمد وثناء وقوله ( إياك نعبد ) إلى قوله ( المستقيم ) من نوع الأوامر والنواهي وقوله صراط الذين إلى آخرها من نوع الوعد والوعيد مع أن ذكر المغضوب عليهم والضالين يشير أيضا إلى نوع قصص القرآن وقد يؤيد هذا الوجه بما ورد في الصحيح في ( قل هو الله أحد ) أنها تعدل ثلث القرآن لأن ألفاظها كلها ثناء على الله تعالى .
الثالث أنها تشتمل معانيها على جملة معاني القرآن من الحكم النظرية والأحكام العملية فإن معاني القرآن إما علوم تقصد معرفتها وإما أحكام يقصد منها العمل بها فالعلوم كالتوحيد والصفات والنبوءات والمواعظ والأمثال والحكم والقصص إما عمل الجوارح وهو العبادات والمعاملات وإما عمل القلوب أي العقول وهو تهذيب الأخلاق وآداب الشريعة وكلها تشتمل عليها معاني الفاتحة بدلالة المطابقة أو التضمن أو الالتزام ف ( الحمد لله ) يشمل سائر صفات الكمال التي استحق الله لأجلها حصر الحمد له تعالى بناء على ما تدل عليه جملة ( الحمد لله ) من اختصاص جنس الحمد به تعالى واستحقاقه لذلك الاختصاص كما سيأتي و ( رب العالمين ) يشمل سائر صفات الأفعال والتكوين عند من أثبتها و ( الرحمن الرحيم ) يشمل أصول التشريع الراجعة للرحمة بالمكلفين و ( ملك يوم الدين ) يشمل أحوال القيامة و ( إياك نعبد ) يجمع معنى الديانة والشريعة و ( إياك نستعين ) يجمع معنى الإخلاص لله في الأعمال . قال عز الدين بن عبد السلام في كتابه حل الرموز ومفاتيح الكنوز : الطريقة إلى الله لها ظاهر " أي عمل ظاهر أي بدني " وباطن " أي عمل قلبي " فظاهرها الشريعة وباطنها الحقيقة والمراد من الشريعة والحقيقة إقامة العبودية على الوجه المراد من المكلف . ويجمع الشريعة والحقيقة كلمتان هما قوله ( إياك نعبد وإياك نستعين ) ( فإياك نعبد ) شريعة ( وإياك نستعين ) حقيقة اه . و ( اهدنا الصراط المستقيم ) يشمل الأحوال الإنسانية وأحكامها من عبادات ومعاملات وآداب و ( صراط الذين أنعمت عليهم ) يشير إلى أحوال الأمم والأفراد الماضية الفاضلة وقوله ( غير المغضوب عليهم ولا الضالين ) يشمل سائر قصص الأمم الضالة ويشير إلى تفاصيل ضلالاتهم المحكية عنهم في القرآن فلا جرم يحصل من معاني الفاتحة - تصريحا وتضمنا - علم إجمالي بما حواه القرآن من الأغراض . وذلك يدعو نفس قارئها إلى تطلب التفصيل على حسب التمكن والقابلية . ولأجل هذا فرضت قراءة الفاتحة في كل ركعة من الصلاة حرصا على التذكير لما في مطاويها .
A E