وقد تتبعت أساليب من أساليب نظم الكلام في القرآن فوجدتها مما لا عهد بمثلها في كلام العرب مثال ذلك قوله تعالى ( قد أنزل الله إليكم ذكرا رسولا يتلو عليكم آيات الله مبينات ) فإبدال ( رسولا ) من ( ذكرا ) يفيد أن هذا الذكر ذكر هذا الرسول وأن مجيء الرسول هو ذكر لهم وأن وصفه بقوله يتلو عليكم آيات الله يفيد أن الآيات ذكر . ونظير هذا قوله ( حتى تأتيهم البينة رسول من الله يتلو صحفا مطهرة ) الآية وليس المقام بسامح لإيراد عديد من هذا . ولعله يأتي في أثناء التفسير .
ومن بديع الإيجاز في القرآن وأكثره ما يسمى بالتضمين وهو يرجع إلى إيجاز الحذف والتضمين أن يضمن الفعل أو الوصف معنى فعل أو وصف آخر ويشار إلى المعنى المضمن بذكر ما هو من متعلقاته من حرف أو معمول فيحصل في الجملة معنيان .
ومن هذا الباب ما اشتمل عليه من الجمل الجارية مجرى الأمثال وهذا باب من أبواب البلاغة نادر في كلام بلغاء العرب وهو الذي لأجله عدت قصيدة زهير في المعلقات فجاء في القرآن ما يفوق ذلك كقوله تعالى ( قل كل يعمل على شاكلته ) وقوله ( طاعة معروفة ) وقوله ( ادفع بالتي هي أحسن ) .
وسلك القرآن مسلك الإطناب لأغراض من البلاغة ومن أهم مقامات الإطناب مقام توصيف الأحوال التي يراد بتفصيل وصفها إدخال الروع في قلب السامع وهذه طريقة عربية في مثل هذا كقول ابن زيابة : .
نبئت عمرا غارزا رأسه ... في سنة يوعد أخواله فمن آيات القرآن في مثله تعالى ( كلا إذا بلغت التراقي وقيل من راق وظن أنه الفراق والتفت الساق بالساق ) وقوله ( فلولا إذا بلغت الحلقوم وأنتم حينئذ تنظرون ) وقوله ( مهطعين مقنعي رؤسهم لا يرتد إليهم طرفهم ) .
ومن أساليب القرآن المنفرد بها التي أغفل المفسرون اعتبارها أنه يرد فيه استعمال اللفظ المشترك في معنيين أو معان إذا صلح المقام بحسب اللغة العربية لإدارة ما يصلح منها واستعمال اللفظ في معناه الحقيقي والمجازي إذا صلح المقام لإرادتهما وبذلك تكثر معاني الكلام مع الإيجاز وهذا من آثار كونه معجزة خارقة لعادة كلام البشر ودالة على أنه منزل من لدن العليم بكل شيء والقدير عليه . وقد نبهنا على ذلك وحققناه في المقدمة التاسعة . ومن أساليبه الإتيان بالألفاظ التي تختلف معانيها باختلاف حروفها أو اختلاف حركات حروفها وهو من أسباب اختلاف كثير من القراءات مثل ( وجعلوا الملائكة الذين هم عند الرحمان إناثا ) قرئ ( عند ) بالنون دون ألف وقرئ ( عباد ) بالموحدة وألف بعدها ومثل ( إذا قومك منه يصدون ) بضم الصاد وكسرها .
وقد أشرنا إلى ذلك في المقدمة السادسة .
واعلم أن مما يندرج تحت جهة الأسلوب ما سماه أئمة نقد الأدب بالجزالة وما سموه بالرقة وبينوا لكل منهما مقاماته وهما راجعتان إلى معاني الكلام ولا تخلو سورة من القرآن من تكرر هذين الأسلوبين وكل منهما بالغ غايته في موقعه فبينما تسمعه يقول ( قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم ) ويقول ( يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا ) إذ تسمعه يقول ( فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود ) قال عياض في الشفا : إن عتبة بن ربيعة لما سمع هذه الآية أمسك بيده على فم النبي A وقال له : ناشدتك الله والرحم إلا ما كففت .
عادات القرآن .
يحق على المفسر أن يتعرف عادات القرآن من نظمه وكلمه . وقد تعرض بعض السلف لشيء منها فعن ابن عباس : كل كاس في القرآن فالمراد بها الخمر . وذكر ذلك الطبري عن الضحاك أيضا .
وفي صحيح البخاري في تفسير سورة الأنفال قال ابن عيينة : ما سمى الله مطرا في القرآن إلا عذابا وتسميه العرب الغيث كما قال تعالى ( وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا ) .
وعن ابن عباس أن كل ما جاء من يا أيها الناس فالمقصود به أهل مكة المشركون .
وقال الجاحظ في البيان " وفي القرآن معان لا تكاد تفترق مثل الصلاة والزكاة والجوع والخوف والجنة والنار والرغبة والرهبة والمهاجرين والأنصار والجن والإنس " قلت : والنفع والضر والسماء والأرض .
A E