ومرجع هذا الصنف من الإعجاز إلى ما يسمى في عرف علماء البلاغة بالنكت البلاغية فإن بلغاءهم كان تنافسهم في وفرة إيداع الكلام من هذه النكت وبذلك تفاضل بلغاؤهم فلما سمعوا القرآن انثالت على كل من سمعه من بلغائهم من النكت التي تفطن لها ما لم يجد من قدرته قبلا بمثله . وأحسب أن كل بليغ منهم قد فكر في الاستعانة بزملائه من أهل اللسان فعلم ألا مبلغ بهم إلى التظاهر على الإتيان بمثل القرآن فيما عهده كل واحد من ذوق زميله هذا كله بحسب ما بلغت إليه قريحة كل واحد ممن سمع القرآن منهم من التفطن إلى نكت القرآن وخصائصه .
ووراء ذلك نكت لا يتفطن إليها كل واحد وأحسب أنهم تآمروا وتدارسوا بينهم في نواديهم أمر تحدي الرسول إياهم بمعارضة القرآن وتواصفوا ما اشتملت عليه بعض آياته العالقة بحوافظهم وأسماعهم من النكت والخصائص وأوقف بعضهم على ما لاح له من تلك الخصائص وفكروا وقدروا وتدبروا فعلموا أنهم عاجزون عن الإتيان بمثلها إن انفردوا أو اجتمعوا ولذلك سجل القرآن عليهم عجزهم في الحالتين فقال تارة ( فأتوا بسورة من مثله ) وقال لهم مرة ( لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ) فحالة اجتماعهم وتظاهرهم لم تكن مغفولا عنها بينهم ضرورة أنهم متحدون بها .
وهذه الناحية من هذه الجهة من الإعجاز هي أقوى نواحي إعجاز القرآن وهي التي يتحقق بها إعجاز أقصر سورة منه .
وفي هذه الجهة ناحية أخرى وهي ناحية فصاحة اللفظ وانسجام النظم وذلك بسلامة الكلام في أجزائه ومجموعه مما يجر الثقل إلى لسان الناطق به ولغة العرب لغة فصيحة وأهلها مشهورون بفصاحة الألسن . قال فخر الدين الرازي في مفاتيح الغيب : " إن المحاسن اللفظية غير مهجورة في الكلام الحكمي والكلام له جسم وهو اللفظ وله روح وهو المعنى وكما أن الإنسان الذي نور روحه بالمعرفة ينبغي أن ينور جسمه بالنظافة كذلك الكلام ورب كلمة حكيمة لا تؤثر في النفوس لركاكة لفظها " .
وكان مما يعرض لشعرائهم وخطبائهم ألفاظ ولهجات لها بعض الثقل على اللسان فأما ما يعرض للألفاظ فهو ما يسمى في علم الفصاحة بتنافر حروف الكلمة أو تنافر حروف الكلمات عند اجتماعها مثل : مستشزرات والكنهبل في معلقة امريء القيس وسفنجة والخفيدد في معلقة طرفة وقول القائل " وليس قرب قبر حرب قبر " .
وقد سلم القرآن من هذا كله مع تفننه في مختلف الأغراض وما تقتضيه من تكاثر الألفاظ وبعض العلماء أورد قوله تعالى ( ألم أعهد إليكم ) وقوله ( وعلى أمم ممن معك ) وتصدى للجواب والصواب أن ذلك غير وارد كما قاله المحققون لعدم بلوغه حد الثقل ولأن حسن دلالة اللفظ على المعنى بحيث لا يخلفه فيها غيره مقدم على مراعاة خفة لفظه .
فقد اتفق أئمة الأدب على أن وقوع اللفظ المتنافر في أثناء الكلام الفصيح لا يزيل عنه وصف الفصاحة فإن العرب لم يعيبوا معلقة امرئ القيس ولا معلقة طرفة . قال أبو العباس المبرد : " وقد يضطر الشاعر المفلق والخطيب المصقع والكاتب البليغ فيقع في كلام أحدهم المعنى المستغلق واللفظ المستكره فإذا انعطفت عليه جنبتا الكلام غطتا على عواره وسترتا من شينه " .
وأما ما يعرض للهجات العرب فذلك شيء تفاوتت في مضماره جياد ألسنتهم وكان المجلي فيها لسان قريش ومن حولها من القبائل المذكورة في المقدمة السادسة وهو مما فسر به حديث : أنزل القرآن على سبعة أحرف ولذلك جاء القرآن بأحسن اللهجات وأخفها وتجنب المكروه من اللهجات وهذا من أسباب تيسير تلقي الأسماع له ورسوخه فيها . قال تعالى ( ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر ) .
A E