ولها دلالة مواقع جمله بحسب ما قبلها وما بعدها ككون الجملة في موقع العلة لكلام قبلها أو في موقع الاستدراك أو في موقع جواب سؤال أو في موقع تعريض أو نحوه . وهذه الدلالة لا تتأتى في كلام العرب لقصر أغراضه في قصائدهم وخطبهم بخلاف القرآن فإنه لما كان من قبيل التذكير والتلاوة سمحت أغراضه بالإطالة وبتلك الإطالة تأتى تعدد مواقع الجمل والأغراض .
مثال ذلك قوله تعالى ( وخلق الله السماوات والأرض بالحق ولتجزى كل نفس بما كسبت وهم لا يظلمون ) بعد قوله ( أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون ) فإن قوله ( وخلق الله السماوات والأرض ) إلى آخره مفيد بتراكيبه فوائد من التعليم والتذكير وهو لوقوعه عقب قوله ( أم حسب الذين اجترحوا السيئات ) واقع موقع الدليل على أنه لا يستوي من عمل السيئات مع من عمل الصالحات في نعيم الآخرة .
وإن للتقديم والتأخير في وضع الجمل وأجزائها في القرآن دقائق عجيبة كثيرة لا يحاط بها وسننبه على ما يلوح منها في مواضعه إن شاء الله . وإليك مثلا من ذلك يكون لك عونا على استجلاء أمثاله . قال تعالى ( إن جهنم كانت مرصادا للطاغين مآبا ) إلى قوله ( إن للمتقين مفازا حدائق وأعنابا ) إلى قوله ( وكأسا دهاقا لا يسمعون فيها لغوا ولا كذابا ) فكان للابتداء بذكر جهنم ما يفسر المفاز في قوله ( إن للمتقين مفازا ) أنه الجنة لأن الجنة مكان فوز . ثم كان قوله ( لا يسمعون فيها لغوا ولا كذابا ) ما يحتمل لضمير " فيها " من قوله ( لا يسمعون فيها ) أن يعود إلى ( كأسا دهاقا ) وتكون " في " للظرفية المجازية أي الملابسة أو السببية أي لا يسمعون في ملابسة شرب الكأس ما يعتري شاربيها في الدنيا من اللغو واللجاج وان يعود إلى ( مفازا ) بتأويله باسم مؤنث وهو الجنة وتكون " في " للظرفية الحقيقية أي لا يسمعون في الجنة كلاما لا فائدة فيه ولا كلاما مؤذيا . وهذه المعاني لا يتأتى جميعها إلا بجمل كثيرة لو لم يقدم ذكر جهنم ولم يعقب بكلمة ( مفازا ) . ولم يؤخر ( وكأسا دهاقا ) ولم يعقب بجملة ( لا يسمعون فيها لغوا ) الخ .
ومما يجب التنبيه له أن مراعاة المقام في أن ينظم الكلام على خصوصيات بلاغية هي مراعاة من مقومات بلاغة الكلام وخاصة في إعجاز القرآن فقد تشتمل آية من القرآن على خصوصيات تتساءل نفس المفسر عن دواعيها وما يقتضيها فيتصدى لتطلب مقتضيات لها ربما جاء بها متكلفة أو مغصوبة ذلك لأنه لم يلتفت إلا إلى مواقع ألفاظ الآية في حال أن مقتضياتها في الواقع منوطة بالمقامات التي نزلت فيها الآية مثال ذلك قوله تعالى في سورة المجادلة ( أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون ) ثم قوله ( أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون ) فقد يخفى مقتضى اجتلاب حرف التنبيه في افتتاح كلتا الجملتين فيأوي المفسر إلى تطلب مقتضه ويأتي بمقتضيات عامة مثل أن يقول : التنبيه للاهتمام بالخبر ولكن إذا قدرنا أن الآيتين نزلتا بمسمع من المنافقين والمؤمنين جميعا علمنا أن اختلاف حرف التنبيه في الأولى لمراعاة إيقاظ فريقي المنافقين والمؤمنين جميعا فالأولون لأنهم يتظاهرون بأنهم ليسوا من حزب الشيطان في نظر المؤمنين إذ هم يتظاهرون بالإسلام فكأن الله يقول قد عرفنا دخائلكم وثاني الفريقين وهم المؤمنون نبهوا لأنهم غافلون عن دخائل الآخرين فكأنه يقول لهم تيقظوا فإن الذين يتولون أعداءكم هم أيضا عدو لكم لأنهم حزب الشيطان والشيطان عدو الله وعدو الله عدو لكم ! واجتلاب حرف التنبيه في الآية الثانية لتنبيه المنافقين إلى فضيلة المسلمين لعلهم يرغبون فيها فيرعوون عن النفاق وتنبيه المسلمين إلى أن حولهم فريقا ليسوا من حزب الله فليسوا بمفلحين ليتوسموا أحوالهم حق التوسم فيحذروهم .
A E