فأما أنا فأردت في هذه المقدمة أن ألم بك أيها المتأمل إلمامة ليست كخطرة طيف . ولا هي كإقامة المنتجع في المربع حتى يظله الصيف . وإنما هي لمحة ترى منها كيف كان القرآن معجزا وتتبصر منها نواحي إعجازه وما أنا بمستقص دلائل الإعجاز في آحاد الآيات والسور فذلك له مصنفاته وكل صغير وكبير مستطر . ثم ترى منها بلاغة القرآن ولطائف أدبه التي هي فتح لفنون رائعة من أدب لغة العرب حتى ترى كيف كان هذا القرآن فتح بصائر وفتح عقول وفتح ممالك وفتح أدب غض ارتقى به الأدب العربي مرتقى لم يبلغه أدب أمة من قبل . وكنت أرى الباحثين ممن تقدمني يخلطون هذين الغرضين خلطا وربما أهملوا معظم الفن الثاني وربما ألموا به إلماما وخلطوه بقسم الإعجاز وهو الذي يحق أن يكون البحث فيه من مقدمات علم التفسير ولعلك تجد في هذه المقدمة أصولا ونكتا أغفلها من تقدموا ممن تكلموا في إعجاز القرآن مثل الباقلاني والرماني وعبد القاهر والخطابي وعياض والسكاكي فكونوا منها بالمرصاد وافلوا عنها كما يفلي عن النار الرماد . وإن علاقة هذه المقدمة بالتفسير هي أن مفسر القرآن لا يعد تفسيره لمعاني القرآن بالغا حد الكمال في غرضه ما لم يكن مشتملا على بيان دقائق من وجوه البلاغة في آيه المفسرة بمقدار ما تسمو إليه الهمة من تطويل واختصار فالمفسر بحاجة إلى بيان ما في آي القرآن من طرق الاستعمال العربي وخصائص بلاغته وما فاقت به آي القرآن في ذلك حسبما أشرنا إليه في المقدمة الثانية لئلا يكون المفسر حين يعرض عن ذلك بمنزلة المترجم لا بمنزلة المفسر .
فمن أعجب ما نراه خلو معظم التفاسير عن الاهتمام بالوصول إلى هذا الغرض الأسمى إلا عيون التفاسير فمن مقل مثل معاني القرآن لأبي إسحاق الزجاج والمحرر الوجيز للشيخ عبد الحق بن عطية الأندلسي ومن مكثر مثل الكشاف . ولا يعذر في الخلو عن ذلك إلا التفاسير التي نحت ناحية خاصة من معاني القرآن مثل أحكام القرآن على أن بعض أهل الهمم العلية من أصحاب هذه التفاسير لم يهمل هذا العلق النفيس كما يصف بعض العلماء كتاب أحكام القرآن لإسماعيل بن إسحاق بن حماد المالكي البغدادي وكما نراه في مواضع من أحكام القرآن لأبي بكر بن العربي .
ثم إن العناية بما نحن بصدده من بيان وجوه إعجاز القرآن إنما نبعت من مختزن أصل كبير من أصول الإسلام وهو كونه المعجزة الكبرى للنبي A وكونه المعجزة الباقية وهو المعجزة التي تحدى بها الرسول معانديه تحديا صريحا . قال تعالى ( وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه قل إنما الآيات عند الله وإنما أنا نذير مبين . أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم ) ولقد تصدى للاستدلال على هذا أبو بكر الباقلاني في كتاب له سماه أو سمي " إعجاز القرآن " وأطال وخلاصة القول فيه أن رسالة نبينا E بنيت على معجزة القرآن وإن كان قد أيد بعد ذلك بمعجزات كثيرة إلا أن تلك المعجزات قامت في أوقات وأحوال ومع ناس خاصة ونقل بعضها متواترا وبعضها نقل نقلا خاصا فأما القرآن فهو معجزة عامة ولزوم الحجة به باق من أول ورودها إلى يوم القيامة وإن كان يعلم وجه إعجازه من عجز أهل العصر الأول عن الإتيان بمثله فيغني ذلك عن نظر مجدد فكذلك عجز أهل كل عصر من العصور التالية عن النظر في حال عجز أهل العصر الأول ودليل ذلك متواتر من نص القرآن في عدة آيات تتحدى العرب بأن يأتوا بسورة مثله وبعشر سور مثله مما هو معلوم ناهيك أن القرآن نادى بأنه معجز لهم نحو قوله تعالى ( وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار ) الآية فإنه سهل وسجل : سهل عليهم أن يأتوا بمثل سورة من سوره وسجل عليهم أنهم لا يفعلون ذلك أبدا فكان كما سجل فالتحدي متواتر وعجز المتحدين أيضا متواتر بشهادة التاريخ إذ طالت مدتهم في الكفر ولم يقيموا الدليل على أنهم غير عاجزين وما استطاعوا الإتيان بسورة مثله ثم عدلوا إلى المقاومة بالقوة .
A E