وثمة قول آخر لا ينبغي الالتفات إليه وإنما نذكره استيعابا لآراء الناظرين في هذه المسألة وهو صحة إطلاق المشترك على معانيه في النفي وعدم صحة ذلك في الإيجاب ونسب هذا القول إلى برهان علي المرغيناني الفقيه الحنفي صاحب كتاب الهداية في الفقه ومثاره في ما أحسب اشتباه دلالة اللفظ المشترك على معانيه بدلالة النكرة الكلية على أفرادها حيث تفيد العموم إذا وقعت في سياق النفي ولا تفيده في سياق الإثبات .
والذي يجب اعتماده أن يحمل المشترك في القرآن على ما يحتمله من المعاني سواء في ذلك اللفظ المفرد المشترك والتركيب المشترك بين مختلف الاستعمالات سواء كانت المعاني حقيقية أو مجازية محضة أو مختلفة . مثال استعمال اللفظ المفرد في حقيقته ومجازه قوله تعالى ( ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس ) فالسجود له معنى حقيقي وهو وضع الجبهة على الأرض ومعنى مجازي وهو التعظيم وقد استعمل فعل يسجد هنا في معنييه المذكورين لا محالة . وقوله تعالى ( ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء ) فبسط الأيدي حقيقة في مدها للضرب والسلب وبسط الألسنة مجاز في عدم إمساكها عن القول البذيء وقد استعمل هنا في كلا معنييه . ومثال استعمال المركب المشترك في معنييه قوله تعالى ( ويل للمطففين ) فمركب " ويل له " يستعمل خبرا ويستعمل دعاء وقد حمله المفسرون هنا على كلا المعنيين .
وعلى هذا القانون يكون طريق الجمع بين المعاني التي يذكرها المفسرون أو ترجيح بعضها على بعض وقد كان المفسرون غافلين عن تأصيل هذا الأصل فلذلك كان الذي يرجح معنى من المعاني التي يحتملها لفظ آية من القرآن يجعل غير ذلك المعنى ملغى . ونحن لا نتابعهم على ذلك بل نرى المعاني المتعددة التي يحتملها اللفظ بدون خروج عن مهيع الكلام العربي البليغ معاني في تفسير الآية . فنحن في تفسيرنا هذا إذا ذكرنا معنيين فصاعدا فذلك على هذا القانون . وإذا تركنا معنى مما حمل بعض المفسرين عليه في آيات من القرآن فليس تركنا إياه دالا على إبطاله ولكن قد يكون ذلك لترجح غيره وقد يكون اكتفاء بذكره في تفاسير أخرى تجنبا للإطالة فإن التفاسير اليوم موجودة بين يدي أهل العلم لا يعوزهم استقراؤها ولا تمييز محاملها متى جروا على هذا القانون .
المقدمة العاشرة .
في إعجاز القرآن .
لم أر غرضا تناضلت له سهام الأفهام . ولا غاية تسابقت إليها جياد الهمم فرجعت دونها حسرى . واقتنعت بما بلغته من صبابة نزرا . مثل الخوض في وجوه إعجاز القرآن فإنه لم يزل شغل أهل البلاغة الشاغل . وموردها للمعلول والناهل . ومغلي سبائها للنديم والواغل ولقد سبق أن ألف علم البلاغة مشتملا على نماذج من وجوه إعجازه . والتفرقة بين حقيقته ومجازه . إلا أنه باحث عن كل خصائص الكلام العربي البليغ ليكون معيارا للنقد أو آلة للصنع . ثم ليظهر من جراء ذلك كيف تفوق القرآن على كل كلام بليغ بما توفر فيه من الخصائص التي لا تجتمع في كلام آخر للبلغاء حتى عجز السابقون واللاحقون منهم عن الإتيان بمثله . قال أبو يعقوب السكاكي في كتاب المفتاح " واعلم أني مهدت لك في هذا العلم قواعد متى بنيت عليها أعجب كل شاهد بناؤها . واعترف لك بكمال الحذق في البلاغة أبناؤها - إلى أن قال ثم إذا كنت ممن ملك الذوق وتصفحت كلام رب العزة . أطلعتك على ما يوردك موارد العزة . وكشفت عن وجه إعجازه القناع " اه .
A E