والنداء موجه للأربعة الذين قالوا للنبي A : فلنعبد ما تعبد وتعبد ما نعبد كما في خبر سبب النزول وذلك الذي يقتضيه قوله ( ولا أنتم عابدون ما أعبد ) كما سيأتي .
وابتدئ خطابهم بالنداء لإبلاغهم لأن النداء يستدعي إقبال أذهانهم على ما سيلقي عليهم .
ونودوا بوصف الكافرين تحقيرا لهم وتأييدا لوجه التبرؤ منهم وإيذانا بأنه لا يخشاهم إذا ناداهم بما يكرهون مما يثير غضبهم لأن الله كفاه إياهم وعصمه من أذاهم . قال القرطبي : قال أبو بكر بن الأنباري : إن المعنى : قل للذين كفروا يا أيها الكافرون أن يعتمدهم في ناديهم فيقول لهم : يا أيها الكافرون وهم يغضبون من أن ينسبوا إلى الكفر .
فقوله ( لا أعبد ما تعبدون ) إخبار عن نفسه بما حصل منها .
والمعنى : لا تحصل مني عبادتي ما تعبدون في أزمنة في المستقبل تحقيقا لأن المضارع يحتمل الحال والاستقبال فإذا دخل عليه ( لا ) النافية أفادت انتفاءه في أزمنة المستقبل كما درج عليه في الكشاف وهو قول جمهور أهل العربية . ومن أجل ذلك كان حرف ( لن ) مفيدا تأكيد النفي في المستقبل زيادة على منطلق النفي ولذلك قال الخليل : أصل ( لن ) : لا أن فلما أقادت ( لا ) وحدها نفي المستقبل كان تقدير ( أن ) بعد ( لا ) مفيدا تأكيد ذلك النفي في المستقبل فمن أجل ذلك قالوا أن ( لن ) تفيد تأكيد النفي في المستقبل فعلمنا أن ( لا ) كانت مفيدة نفي الفعل في المستقبل . وخالفهم ابن مالك كما في مغني اللبيب وأبو حيان كما قال في هذه السورة والسهيلي عند كلامه على نزول هذه السورة في الروض الآنف .
ونفي عبادته آلهتهم في المستقبل يفيد نفي أن يعبدها في الحال بدلالة فحوى الخطاب ولأنهم ما عرضوا عليه إلا أن يعبد آلهتهم بعد سنة مستقبلة .
ولذلك جاء في جانب نفي عبادتهم لله بنفي اسم الفاعل الذي هو حقيقة في الحال بقوله ( ولا أنتم عابدون ) أي ما أنتم بمغيرين إشراككم الآن لأنهم عرضوا عليه لأن يبتدئوا هم فهم يعبدوا الرب الذي يعبده النبي A سنة . وبهذا تعلم وجه المخالفة بين نظم الجملتين في أسلوب الاستعمال البليغ .
وهذا أخباره إياهم بأنه يعلم إنهم غير فاعلين ذلك من الآن بإنباء الله تعالى نبيه A بذلك فكان قوله هذا من دلائل نبوءته نضير قوله تعالى ( فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا ) فإن أولئك النفر بأربعة لم يسلم منهم أحد فماتوا على شركهم .
A E وما صدق ( ما أعبد ) هو الله تعالى وعبر ب ( ما ) الموصولة لأنها موضوعة للعاقل وغيره من المختار وإنما تختص ب ( من ) بالعاقل فلا مانع من إطلاق ( ما ) على العاقل إذا كان اللبس مأمونا . وقال السهيلي في الروض الآنف : أن ( ما ) الموصولة يؤتى بها لقصد الإبهام لتفيد المبالغة في التفخيم كقول العرب : سبحان ما سبح الرعد بحمده وقوله تعالى ( والسماء وما بناها ) كما تقدم في سورة الشمس .
( ولا أنا عابد ما عبدتم [ 4 ] ) عطف على ( ولا أنتم عابدون ما أعبد ) عطف الجملة على الجملة لمناسبة نفي أن يعبدوا الله فأردف بنفي أن يعبد هو آلهتهم وعطفه بالواو صارف عن أن يكون المقصود به تأكيد ( لا أعبد ما تعبدون ) فجاء به على طريقة ( ولا أنتم عابدون ما أعبد ) بالجملة الاسمية . للدلالة على الثبات ويكون الخبر اسم فاعل دالا على زمان لحال فلما نفى عن نفسه أن يعبد في المستقبل ما يعبدونه بقوله ( لا أعبد ما تعبدون ) كما تقدم آنفا صرح هنا بما تقتضيه دلالة الفحوى على نفي أن يعبد آلهتهم في الحال بما هو صريح الدلالة على ذلك لأن المقام يقتضي مزيد البيان فاقتضى الاعتماد على دلالة المنطوق إطنابا في الكلام لتأييسهم مما راودوه عليه ولمقابلة كلامهم المردود بمثله في إفادة الثبات . وحصل من ذلك تقرير المعنى السابق وتأكيده تبعا لمدلول الجملة لا لموقعها لأن موقعها أنها عطف على جملة ( ولا أنتم عابدون ما أعبد ) وليس توكيدا لجملة ( لا أعبد ما تعبدون ) بمرادفها لأن التوكيد للفظ بالمرادف لا يعرف إلا في المفردات ولأن وجود الواو يعين أنها معطوفة إذ ليس في جملة ( لا أعبد ما تعبدون ) واو حتى يكون الواو في هذه الجملة مؤكدا لها