فالتعريف في ( البينة ) المذكورة ثانيا يجوز أن يكون للعهد الذهني أو للمعهود بين المتحدث عنهم وهي بينة أخرى غير الأولى وإعادتها من إعادة النكرة نكرة مثلها إذ المعروف بلام العهد الذهني بمنزلة النكرة أو من إعادة المعرفة المعهودة معرفة مثلها وعلى كلا الوجهين لا تكون المعادة عين التي قبلها .
وقد أطبقت كلمات المفسرين على أن معنى قوله تعالى ( وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة ) أنهم ما تفرقوا عن اتباع الإسلام أي تباعدوا عنه إلا من بعد ما جاء محمد A . وهذا تأويل للفظ التفرق وهو صرف عن ظاهره بعيد فأشكل عليهم وجه تخصيص أهل الكتاب بالذكر مع أن التباعد عن الإسلام حاصل منهم ومن المشركين وجعلوا المراد ب ( البينة ) الثانية عين المراد بالأولى وهي بينة محمد A سوى أن الفخر ذكر كلمات تنبئ عن مخالفة المفسرين في محمل تفرق الذين أوتوا الكتاب فإنه بعد أن قرر المعنى بما يوافق كلام بقية المفسرين تى بما يقتضي حمل التفرق على حقيقته وحمل البينة الثانية على معنى مغاير لمحمل ( البينة ) الأولى إذ قال : " المقصود من هذه الآية تسلية محمد A أي لا يغمنك تفرقهم فليس ذلك لقصور في الحجة بل لعنادهم فسلفهم هكذا كانوا لم يتفرقوا في السبب وعبادة العجل إلا بعد ما جاءتهم البينة فهي عادة قديمة لهم " وهو معارض لأول كلامه ولعله بدا له هذا الوجه وشغله عن تحريره شاغل وهذا مما تركه الفخر في المسودة .
( وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلوة ويؤتوا الزكوة وذلك دين القيمة [ 5 ] ) هذا إبطال ثالث لتنصلهم من متابعة الإسلام بعلة أنهم لا يتركون ما هم عليه حتى تأتيهم البينة وزعمهم أن البينة لم تأتهم .
وهو إبطال بطريق القول بالموجب في الجدل أي إذا سلمنا أنكم موصون بالتمسك بما أنتم عليه لا تنفكون عنه حتى تأتيكم البينة فليس في الإسلام ما ينافي ما جاء به كتابكم يأمر بما أمر به القرآن وهو عبادة الله وحده دون إشراك وذلك هو الحنيفية وهي دين إبراهيم الذي أخذ عليهم العهد به فذلك دين الإسلام وذلك ما أمرتهم به في دينكم .
فلك أن تجعل الواو عاطفة على جملة ( وما تفرق الذين اوتوا الكتاب ) الخ .
ولك أن تجعل الواو للحال فتكون الجملة حالا من الضمير في قوله ( حتى تأتيهم البينة ) . والمعنى : والحال أن البينة قد أتتهم إذ جاء الإسلام بما صدق قول الله تعالى لموسى عليه السلام " أقيم لهم نبيئا من وسط إخوتهم وأجعل كلامي في فمه " وقول عيسى عليه السلام " فهو يعلمكم كل شيء ويذكركم بكل ما قلته لكم " .
والتعبير بالفعل المسند للمجهول مفيد معنيين أي ما أمروا في كتابهم إلا بما جاء به الإسلام . فالمعنى : وما أمروا في التوراة والإنجيل إلا أن يعبدوا الله مخلصين إلى آخره فإن التوراة أكدت على اليهود تجنب عبادة الأصنام وأمرت بالصلاة وأمرت بالزكاة أمرا مؤكدا مكررا . وتلك هي أصول دين الإسلام قبل أن يفرض صوم رمضان والحج والإنجيل لم يخالف التوراة أو المعنى وما أمروا في الإسلام إلا بمثل ما أمرهم به كتابهم فلا معذرة لهم في الإعراض عن الإسلام على كلا التقديرين .
ونائب فاعل ( أمروا ) محذوف للعموم أي ما أمروا بشيء إلا بأن يعبدوا الله .
واللام في قوله ( ليعبدوا الله ) هي اللام التي تكثر زيادتها بعد فعل الإرادة وفعل الأمر وتقدم ذكرها عند قوله تعالى ( يريد الله ليبين لكم ) في سورة النساء وقوله ( وأمرنا لنسلم لرب العالمين ) في سورة الأنعام وسماها بعض النحاة لام ( أن ) .
والاخلاص : التصفية والإنقاء أي غير مشاركين في عبادته معه غيره .
والدين : الطاعة قال تعالى ( قل الله أعبد مخلصا له ديني ) .
وحنفاء : جمع حنيف وهو لقب للذي يؤمن بالله وحده دون شريك قال تعالى ( قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين ) .
وهذا الوصف تأكيد لمعنى ( مخلصين له الدين ) مع التذكير بأن ذلك هو دين إبراهيم عليه السلام الذي ملئت التوراة بتمجيده واتباع هديه .
وإقامة الصلاة من أصول شريعة التوراة كل صباح ومساء .
وإيتاء الزكاة : مفروض في التوراة فرضا مؤكدا .
A E