وجئ في وصف الرب بطريق الموصل ( الذي خلق ) ولأن في ذلك استدلالا على انفراد الله بالإلهية لأن هذا القرآن سيتلى على المشركين لما تفيده الموصولية من الإيماء إلى علة الخبر وإذا كانت علة الإقبال على ذكر اسم الرب هي أنه خالق دل ذلك على بطلان الإقبال على ذكر غيره الذي ليس بخالق فالمشركون كانوا يقبلون على اسم اللات واسم العزى وكون الله هو الخالق يعترفون به قال تعالى ( ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله ) فلما كان المقام مقام ابتداء الإسلام دين التوحيد كان مقتضيا لذكر أدل الأوصاف على وحدانيته .
وجملة ( خلق الإنسان من علق ) يجوز أن تكون بدلا من جملة ( الذي خلق ) بدل مفصل من مجمل إن لم يقدر له مفعول أو بدل بعض إن قدر له مفعول عام وسلك طريق الإبدال لما فيه من الإجمال ابتداء لإقامة الاستدلال على افتقار المخلوقات كلها إليه تعالى لأن المقام مقام الشروع في تأسيس ملة الإسلام . ففي الإجمال إحضار للدليل مع الاختصار مع ما فيه من إفادة التعميم ثم يكون التفصيل بعد ذلك لزيادة تقرير الدليل .
ويجوز أن تكون بيانا من ( الذي خلق ) إذ قدر لفعل ( خلق ) الأول مفعول دل عليه بيانه فيكون تقدير الكلام : اقرأ باسم ربك الذي خلق الإنسان من علق .
وعدم ذكر مفعول لفعل ( خلق ) يجوز أن يكون لتنزيل الفعل منزلة اللازم أي الذي هو الخالق وأن يكون حذف المفعول لإرادة العموم أي خلق كل المخلوقات وأن يكون تقديره : الذي خلق الإنسان اعتمادا على ما يرد بعده من قوله ( خلق الإنسان ) فهذه معان في الآية .
وخص خلق الإنسان بالذكر من بين بقية المخلوقات لأنه المطرد في مقام الاستدلال إذ لا يغفل أحد من الناس عن نفسه ولا يخلو من أن يخطر له خاطر البحث عن الذي خلقه وأوجده لذلك قال تعالى ( وفي أنفسكم أفلا تبصرون ) .
وفيه تعريض بتحميق المشركين الذين ضلوا عن توحيد الله تعالى مع أن دليل الوحدانية قائم في أنفسهم .
وفي قوله ( من علق ) إشارة إلى ما ينطوي في أصل خلق الإنسان من بديع الأطوار والصفات التي جعلته سلطان هذا العالم الأرضي .
والعلق : اسم جمع علقة وهي قطعة قدر الأنملة من الدم الغليظ الجامد الباقي رطبا لم يجف سمي بذلك تشبيها لها بدودة صغيرة تسمى علقة وهي حمراء داكنة تكون في المياه الحلوة تمتص الدم من الحيوان إذا علق خرطومها بجلده وقد تدخل إلى فم الدابة وخاصة الخيل والبغال فتعلق بلهاته ولا يتفطن لها .
A E ومعنى ( خلق الإنسان من علق ) أن نطفة الذكر ونطفة المرأة بعد الاختلاط ومضي مدة كافية تصيران علقة فقد أخذت في أطوار التكون فجعلت العلقة مبدأ الخلق ولم تجعل النطفة مبدأ الخلق لأن النطفة اشتهرت في ماء الرجل فلو لم تخالطه نطفة المرأة لم تصر العلقة فلا يتخلق الجنين وفيه إشارة إلى أن خلق الإنسان من علق ثم مصيره إلى كمال أشده هو خلق ينطوي على قوى كامنة وقابليات عظيمة أقصاها قابلية العلم والكتابة .
ومن إعجاز القرآن العلمي ذكر العلقة لأن الثابت في العلم الآن أن الإنسان يتخلق من بويضة دقيقة جدا لا ترى إلا بالمرآة المكبرة أضعافا تكون في مبدإ ظهورها كروية الشكل سابحة في دم حيض المرأة فلا تقبل التخلق حتى تخالطها نطفة الرجل فتمتزج معها فتأخذ في التخلق إذا لم يعقها عائق كما قال تعالى ( مخلقة وغير مخلقة ) فإذا أخذت في التخلق والنمو امتد تكورها قليلا فشابهت العلقة التي في الماء مشابهة تامة في دقة الجسم وتلونها بلون الدم الذي هي ساحبة فيه وفي كونها سابحة في سائل كما تسبح العلقة وقد تقدم هذا في سورة غافر وأشرت إليه في المقدمة العاشرة .
ومعنى حرف من الابتداء .
وفعل ( أقرأ ) الثاني تأكيد ل ( اقرأ ) الأول للاهتمام بهذا الأمر .
( وربك الأكرم [ 3 ] الذي علم بالقلم [ 4 ] علم الإنسان ما لم يعلم [ 5 ] ) جملة معطوفة على جملة ( اقرأ باسم ربك ) فلها حكم الاستئناف و ( ربك ) مبتدأ وخبره إما ( الذي علم بالقلم ) وإما جملة ( علم الإنسان ما لم يعلم ) وهذا الاستئناف بياني