والأمر بالقراءة مستعمل في حقيقته من الطلب لتحصيل فعل في الحال أو الاستقبال فالمطلوب بقوله ( اقرأ ) أن يفعل القراءة في الحال أو المستقبل القريب من الحال أي أن يقول ما سيملى عليه والقرينة على أنه أمر بقراءة في المستقبل القريب أنه لم بتقديم إملاء كلام عليه محفوظ فتطلب منه قراءته ولا سلمت إليه صحيفة فتطلب منه قراءتها فهو كما يقول المعلم للتلميذ : أكتب فيتأهب لكتابة ما سيمليه عليه .
وفي حديث الصحيحين عن عائشة ( رض ) قولها فيه " حتى جاءه الحق وهو في غار حراء فجاءه الملك فقال : اقرأ . قال فقلت : ما أنا بقارئ فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال : اقرأ . قفلت : ما أنا بقارئ فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال : اقرأ فقلت : ما أنا بقارئ فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال ( اقرأ باسم ربك الذي خلق ) إلى ( ما لم يعلم ) .
فهذا الحديث روته عائشة عن رسول الله A لقولها قال : " فقلت : ما أنا بقارئ " . وجميع ما ذكرته فيه مما روته عنه لا محالة وقد قالت فيه " فرجع بها رسول الله A يرجف فؤاده " أي فرجع بالآيات التي أمليت عليه أي رجع متلبسا بها أي بوعيها .
وهو يدل على أن رسول الله A تلقى ما أوحي إليه . وقرأه حينئذ ويزيد ذلك إيضاحا قولها في الحديث " فانطلقت به خديجة إلى ورقة بن نوفل فقالت له خديجة : يا ابن عم اسمع من ابن أخيك " أي اسمع القول الذي أوحي إليه . وهذا ينبئ بأن رسول الله A عندما قيل له بعد الغطة الثالثة ( اقرأ باسم ربك ) الآيات الخمس قد قرأها ساعتئذ كما أمره الله ورجع من غار حراء إلى بيته يقرؤها وعلى هذا الوجه يكون قول الملك له في المرات الثلاث ( اقرأ ) إعادة للفظ المنزل من الله إعادة تكرير للاستئناس بالقراءة التي لم يتعلمها من قبل .
ولم يذكر لفعل ( اقرأ ) مفعول إما لأنه نزل منزلة اللازم وأن المقصود أوجد القراءة وإما لظهور المقروء من المقام وتقديره : اقرأ ما سنلقيه إليك من القرآن .
وقوله ( باسم ربك ) فيه وجوه .
A E أولها : أن يكون افتتاح كلام بعد جملة ( اقرأ ) وهو أول المقروء أي قل : باسم الله فتكون الباء للاستعانة فيجوز تعلقه بمحذوف تقديره : ابتدئ . ويجوز أن يتعلق ب ( اقرأ ) الثاني فيكون تقديمه على معموله للاهتمام بشأن اسم الله . ومعنى الاستعانة باسم الله ذكر اسمه عند هذه القراءة وإقحام كلمة ( اسم ) لأن معنى الاستعانة باسم الله ذكر اسمه عند هذه القراءة وإقحام كلمة ( اسم ) لأن الاستعانة بذكر اسمه تعالى لا بذاته كما تقدم في الكلام على البسملة وهذا الوجه يقتضي أن النبي A قال : " باسم الله " حين تلقى هذه الجملة .
الثاني أن تكون الباء للمصاحبة ويكون المجرور في موضع الحال من ضمير ( اقرأ ) الثاني مقدما على عامله للاختصاص أي اقرأ ما سيوحى إليك مصاحبا قراءتك اسم ربك . فالمصاحبة مصاحبة الفهم والملاحظة لجلاله ويكون هذا إثباتا لوحدانية الله بالإلهية وإبطالا للنداء باسم الأصنام الذي كان يفعله المشركون يقولون : باسم اللات باسم العزى كما تقدم في البسملة . فهذا أول ما جاء من قواعد الإسلام قد افتتح به أول الوحي .
الثالث : أن تكون الباء بمعنى " على " كقوله تعالى ( من إن تأمنه بقنطار ) أي على قنطار . والمعنى : اقرأ على اسم ربك أي على إذنه أي أن الملك جاءك على اسم ربك أي مرسلا من ربك فذكر ( اسم ) على هذا متعين .
وعدل عن اسم الله العلم إلى صفة ( ربك ) لما يؤذن وصف الرب من الرأفة بالمربوب والعناية به مع ما يتأتى بذكره من إضافته إلى ضمير النبي A إضافة مؤذنة بأنه المنفرد بربوبيته عنده ردا على الذين جعلوا لأنفسهم أربابا من دون الله فكانت هذه الآية أصلا للتوحيد في الإسلام